النصر في وعينا بخصومنا الحقيقيين

 


 

 

.
كانت واحدة من الحيل الناجعة التي برع الإسلاميون فيها إبان سيطرة الدولة الدينية الثيوكراطية للإنقاذ على الحكم في السودان، هي تفتيت عضُد التنظيمات المطلبية، من خلال تعطيل النقابات الفئوية التي كانت تمثل القطاعات الأفقية من حيث التراتيبية والإصطفاف الطبقي، كنقابات العمال ونقابات الموظفين والتي نشأت بطبيعتها لمجابهة المظالم الإجتماعية التي يفرضها نزاع المصالح مابين المخدمين او رأس المال من جانب وما بين الشغيلة وعمال المصانع والمصالح الحكومية وحتى الفلاحين في المشاريع العملاقة التابعة للدولة أو تلك التابعة للقطاع الخاص، من جانب آخر.
أفلح الإسلاميون في تعطيل الحركة المطلبية للعمال والفلاحين من خلال التحايل بفرض نقابة المنشأة كأول حيلة من نوعها في التاريخ. وتعود الملكية الفكرية والصدقة الجارية لهذه المكيدة للسيد رئيس إتحاد العمال المفروض وقتها من قبل النظام الحاكم والحامي له والحامي لمصالحه.
نجحت الإنقاذ من خلال فرض نقابة المنشأة في مراكمة مظالم العمال والفلاحين، ذلك من خلال تعطيل أجهزتهم المطلبية وخلق نقابات رأسية بديلة عاجزة عن مناصرة الضعفاء. ذلك لاشتمالها في نفس الوقت على الشرائح التي تتناقض مصالحها بطبيعة الحال، فنقابة المنشأة يتمثل في جمعياتها العمومية المدراء، والموظفون والعمال المهرة وغير المهرة، ويتمثل فيها مدراء وملاك المشاريع جنبا إلى جنب مع الفلاحين وعمال الغيط..
في الفيزياء إذا ما عمِلت عدة قوى في اتجاهات متشاكسة فإن محصلة الجهود المبذولة تتضاءل كيفما تضاعفت تلك الجهود.. فنقابة المنشأة لتناقض المصالح بين مكوناتها، عملت فقط على تكريس المظالم الإجتماعية بصفة أخص وفاقمت من حدة التفاوت الطبقي وفوارق الدخل، وقد كان ذلك هو عين ما ينشده الإسلاميون وجل مايتمنونه. لقد كان تقنين نقابة المنشأة حيلة فتاكة هدفت لتعطيل الحقوق وتمييع الحركات المطلبية، مناصرة بذلك للأقوياء وأصحاب المال على حساب تلك الشرائح الضعيفة الملهوفة والأشد فقرا.
لم أهدف من هذه التقدمة إلقاء الضوء على المظالم الإجتماعية التي كرسّها نظام الإسلاميين وما أفدحـها من مظالم وظلمات، اكثر من هدفي لتسليط الضوء في أن القوى المسيطرة على موارد البلاد وثرواتها بتشكيلاتها السياسية المختلفة قد ظلت تسعى بصفة دائبة من أجل تكريس تلك السيطرة، والعمل على خداع جموع المغلوبين من ابناء الشعب السوداني بتشتيت وعيهم بمصالحهم وحقوقهم المهدرة، من خلال تحطيم الإنتماء التلقائي والولاء الشعبي لصالح الإصطفافات المصلحية المنافحة عن الحقوق المشتركة للطبقات الإجتماعية المسحوقة من تلك الجموع، كالعمال والفلاحين والجنقو وعمال الغيط، بمختلف أطيافهم السياسية ودياناتهم وسحناتهم.
الناس الذين ظلوا يعانون من التهميش ونهب الحقوق والثروات لصالح الساسة الفاسدين المتحالفين مع الراسمالية الطفيلية (بمعني الرأسمالية غير المنتجة). يتوجب عليهم الوعي بأن تلك المساعي الجارية لتحشيدهم في كيانات عشائرية، إنما تهدف في حقيقتها لتحطيم ولاءاتهم لكياناتهم المطلبية والثورية التي ستجمعهم بهمومهم من أجل النضال ومن أجل العدالة، في مواجهة المنظومة الراسمالية المتسخة الظالمة، ومنازلتها بصورة ناجزة لتخفيف حدة الفقر ولنيل العدالة في توزيع الدخول وتضييق الفوارق الإجتماعية الجائرة.
إن تحطيم ولاء الجماهير للكيانات التي توحد المقهورين بكافة اطيافهم والوانهم السياسية والسعي لحشدهم في كيانات عشائرية ودينية، لا يعدو كونه تحايل آخر لتحييدهم وعزلهم من مصالحهم وإضاعة جهدهم في مواعين تشتمل على شرائح تتناقض مصالحها وعاجزة عن الفعالية المطلوبة لإعانة تلك الشرائح المقهورة في انتزاع حقوقها وتأمين مصالحها.
إن استرداد مكاسب العمال ومحدودي الدخل يتطلب بطبيعة الحال تحالفهم على اختلافاتهم العشائرية وخوضهم لمعارك ضارية في مواجهة تلك الشرائح المهيمنة على الموارد، بدلا من التحالف معها وموالاتها في كيانات عشائرية جامعة. إن مسعىً كذلك في حقيقته إنما هو مكيدة لصالح البيوتات والكيانات الرأسمالية الإقطاعية التي ظلت منذ الإستعمار وحتى يومنا هذا تتغذى على دماء البسطاء ونهب مواردهم، على فقرهم وجهلهم المتطاوِل والمتعمَّد.. سعيا لحشدهم مقابل ذلك وإخضاعهم وهم مطأطئي الرؤوس لولاءات النظار والشيوخ والكيانات العشائرية التي تسود من خلال مكافحة الوعي والإستنارة، تزييف التاريخ والعِبَر، وتعطيل اسباب النهضة.
ما تشهده البلاد هذه الأيام من استنفار البيوتات التي تستأثر بالولاء الإثني والعشائري الأعمى، لا يحدث مصادفة.. إنما هو وجه من أوجه مكيدة بالغة التعقيد تهدف لتغبيش وعي جماهير الشعب السوداني بمقدار الأضرار والإستلاب الذي اصاب جموع المواطنين في حقوقهم ودماهم وثرواتهم ونصيبهم من الدخول والإيرادات.. يصبح ذلك ممكنا فقط إذا ما انخدع الناس وتخلوا عن الإصطفاف في تنظيمات وكيانات مطلبية تقاتل من اجل استرداد الحقوق المسلوبة آنفا، وتقاتل كذلك من أجل إصلاحات قانونية ودستورية تضمن للعمال والفلاحين حقوقهم في العيش الكريم الذي يكفل لهم الخدمات الصحية، ويعلم ابناءهم في مدارس وجامعات حكومية، يقع تمويلها ومسؤوليتها على عاتق الدولة. بدلا من ان يستاثر الإقطاعيون والسياسيون بالخراج والركاز فيما بينهم من وحدة المصير والمصالح والفساد.
كتب ونجت بك باشا في كتابه عن السودان ما يفهم من أن حكومة الإنتداب في سعيها لحشد الموارد المائية لمصر، كانت قد نفذت خزان النيل الأبيض في العام ١٩٣٦، بينما تخلت عن تنفيذ قناة جونقلي لعدم توفر الموازنة لمشروع الإعاشة الذي كانت قد خططت له السلطات الإستعمارية لحماية سكان المستنقعات من القبائل النيلية من المجاعة والتهجير القسري، الذي سيتسبب فيه تشييد القناة.. لذلك فقد كان الحفار الفرنسي العملاق الذي ارسلته مصر في وقت لاحق، بموافقة حكومة نظام مايو بالخرطوم، اول الأهداف التي دمرها جيش تحرير السودان في الجنوب. لم يكن ذلك اعتراضا على جدوى القناة كمشروع كان يهدف لتوفير خمسة مليارات من الأمتار المكعبة من المياه، إنما لحماية سكان المستنقعات من المجاعة والتشريد، إذا ما شيدت حكومة الخرطوم القناة دون نية منها لتنفيذ مشروعي الإعاشة والتوطين المصاحبين.
هرم المصالح والإقطاعيات يتمثل في اي قطاع طولي (لونقيتيودينال سيكشن) يتم تشريحه من أي خلية إجتماعية.. ففي كل قرية وقبيلة صورة طبق الأصل لهرم المصالح الكلي الذي ينتظم البلاد. في قمة القطاع يأتي الأعيان المنتفعون من النظام السياسي والمساندون له، المنتفعون من تكريس علاقات الإنتاج الماثلة على علاتها، وفي أدناه العوام المضطهدون الذين تُسلب مصالحهم وثرواتهم دونما وعيهم ليل نهار.. لذك في كل قرية وفي كل بطن وقبيلة، هناك مصالح متنافرة يلزمنا الوعي بها ان كنا نريد لمعركتنا ان تبلغ مبتغاها.. إن القرى والفرقان التي لا يجد فيها ابناؤنا المدارس والخدمات الصحية المجانية، يلزم قاطنيها ان يتكاتفوا في مواجهة اي محاولة للشركات واللصوص في زراعة ارضها او في نهب مواردها المعدنية.. فإنه ليس للبؤساء ما يخسرونه إن كان الفناء هو خاتمة الخيارات جميعها. فالحكومة يلزمها ان ارادت منح المربعات للصوصها النافذين، ان تكفل بدءاً أهل القرى والأرياف المتاخمة نصيبهم من الموارد، وحقوقهم كمواطنين في التعليم والصحة والعيش الكريم..
في تقرير قديم لتلفزيون الجزيرة تحت عنوان "قرية الوادي الأبيض", بدت في قلب الشاشة شعلة مصفى الجيلي التي تكاد أن تلج السماء، بينما بدا في الجانب الآخر والكاميرات تعبر الكثبان المظلمة غير بعيد من ذلك المكان كوخ من القصب بدا من نافذته ضوء شمعة متضائل خافت وتلميذ منهك يافع في الثامنة من العمر وهو يطارد بصيص الضوء كي يعد نفسه لدرس اليوم التالي.. حدث فيضان الحزن هذا بينما خلفية التقرير الوثائقي كانت تنبعث منها أغنية للراحل الكابلي على انغام العود
كم دمعة سالت فوق خدود الشمعة
ضوّت للعيون الفي السهر مجتمعة
تسكب من حياتها النور وترقص
للأمل وتدور
و ما عارفة الأمل مسحور
و ما عارفة المسافة دهور
تكمل ألف شمعة وشمعة
تسكب روحا مليون دمعة
ترقص شمعتي الضّواية ترقص
و في رقيصا حكاية
كيف يرضى الناس دون قتال أن يظلوا في ظلام دامس، ان يبقوا لمئات السنين في فقر مدقع وحرمان من الحقوق الأساسية، يموت مرضاهم في بوابات المشافي الخاصة، ويرسل ابناءهم إلى الطرقات لأن آباءهم ليسوا أثرياء بمافيه الكفاية. يحدث هذا بينما مواردهم أمام أعينهم ينهبها لصوص متأنقون تدعمهم الأنظمة الفاسدة الحاكمة وتدبجهم بالأوسمة والنياشين وتجعل منهم للناس أوجه وأعيان..
إن الولاء للقبائل وللأحزاب الطائفية يكرّس لمنظومة الإستغلال والإضطهاد القديمة بمسوحها الديني والعشائري، بينما يهدر مزيدا من الحقوق لعشرات الملايين من أبناء الشعب الذين كان بإمكانهم إنتزاع حقوقهم واستردادها، إذا ما وعوا يوما بمصالحهم التي تجمعهم دون سواهم، وتوحدوا من أجلها بكل سحناتهم دون خضوع للاعيان والإقطاعيين من الزعماء الروحيين ونظار القبائل.. الذين طالما ظلوا على استعداد ان يقايضوا دماءنا ومرائرنا مقابل المزيد من الموائد، المزيد من الثروات والإقطاعيات، المزيد من الثريد والدسم.
إنتهى..

nagibabiker@hotmail.com

 

آراء