النيل قضية حياة .. وجاء آوان إنشاء مفوضية عليا للنهر … بقلم: طلحة جبريل

 


 

 

talha@talhamusa.com

 

في الاسبوع الأخير من وجودي في واشنطن في صيف العام الماضي، وقبل أن اغادر العاصمة الامريكية عائداً الى محطة " المغرب العربي " من جديد. حرصت على لقاء مطول مع الدكتور سلمان محمد سلمان الخبير الدولي في قضايا المياه، الذي ظل يعمل لسنوات طويلة في مجموعة " البنك الدولي" خبيراً قانونياً في مجال المياه ونزاعاتها وقوانينها.

في منزله في حي "ماكلين" في ولاية فرجينيا، خصص "دكتور سلمان" كما يطلق عليه في أوساط جالية واشنطن السودانية، غرفة أطلق عليها " غرفة المياه". في تلك الغرفة توجد مئات الكتب والدراسات والمراجع بعدة لغات، حول قضايا المياه. معظم تلك الكتب والدراسات من تأليفه أو شارك في تأليفها. بقينا مدة طويلة في تلك الغرفة، ظل خلالها " الدكتور سلمان" يشرح الكثير من قضايا المياه في العالم، مع تركيز على مشكلة " مياه النيل" والاتفاقيات التي وقعت حول مياه هذا النهر، خاصة اتفاقيتي عام 1929  و عام 1959. اتفاقية عام 1929 أبرمتها بريطانيا نيابةً عن " السودان وكينيا ويوغندا وتنجانيقا (تنزانيا لاحقاً بعد ضم زنجبار)". أبرمت بريطانيا تلك الاتفاقية مع الحكومة المصرية ، على اعتبار ان بريطانيا كانت هي الدولة المستعمرة لتلك الدول. منحت تلك الإتفاقية حق النقض للحكومة المصرية، لأي مشاريع للري تشيد علي النيل، يمكن أن تؤثر على كميات المياه التي تصل مصر أوتعدل توقيت وصولها. كنت سمعت من بعض المصادر، ان الحكومة السودانية أضطرت الى إخفاء بعض المعلومات الفنية حول" سد مروي" خشية اعتراض المصريين على تشييد هذا السد. لا أجزم بصحة هذه المعلومة، لكن المؤكد انها " معلومة" متداولة بين أوساط مطلعة، على الرغم من انها ظلت تتردد على نطاق ضيق.  

اتفاقية عام 1929 هي التي تصر مصر الآن على انها " ملزمة وغير قابلة للنقض" . وهي اتفاقية ترفضها ثماني دول من الدول التي تعرف باسم " دول المنبع" على أساس انها أبرمت في الحقبة الاستعمارية. الدول العشرة المعنية بموضوع " نهر النيل "هي : بورندي، رواندا، الكونغو الديمقراطية (زائير) ، كينيا، يوغندا، تنزانيا، اثيوبيا، أرتريا، السودان ومصر. ويتوقع في يناير من العام المقبل، أن تصبح هذه الدول 11 دولة بعد أن تنضم اليها  "دولة الجنوب".

أما الاتفاقية الثانية ، هي تلك التي وقعت عام 1959 بين مصر والسودان ، في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، مع نظام الفريق ابراهيم عبود، وهي اتفاقية منحت مصر 55.5 مليار متر مكعب من المياه، وأصبح نصيب السودان بمقتضى هذه الاتفاقية 18.5 مليار متر مكعب في حين يضيع الباقي ومقداره عشرة مليارات مكعبة من المياه، بسبب البخر في بحيرة السد العالي. طبقاً لهذه الاتفاقية فإن السودان ومصر لا يقبلان باي تعديل في الحصص ، مع استعداد لبحث " مطالب اخرى" من دول المنبع. كثيرون يعتقدون أن الاتفاقية وقعت بسبب ضغوط سياسية . المؤكد ان الارقام تدل على الإجحاف.

ونحن نتصفح كتب ودراسات ووثائق " غرفة المياه"  شرح لي الدكتور سلمان شرحاً مستفيضاً، رؤيته حول موضوع " مياه النيل"  واشار الى ان مشاكل المياه في جميع أنحاء العالم ، تتسبب فيها الجغرافية، عندما تكون منابع الانهار في دولة أو دول ، ومصبها في دولة أو دول أخرى ، وهذا هو حال نهر النيل.

إذ نظرنا الى مسيرة نهر النيل، وجميع تفرعاتها، سنجد اننا أمام ثلاث حالات واضحة. دول منبع ومصب ودولة ممر هي بلادنا، يوضح الدكتور سلمان في مقال نشره اخيراً ، كل ذلك ويقول " نهر النيل هو أطول نهر في العالم. يجري لمسافة 6650 كيلومتر من بداية منابعه في بورندي ورواندا وحتّى مصبه في البحر الأبيض المتوسط. أحد روافده وهو النيل الأبيض، ينبع من ثاني أكبر بحيرة في العالم (بحيرة فكتوريا). تقع على بعض روافد النهر أكبر المستنقعات في العالم (السٌدّ بجنوب السودان)، وفوقه شيدت أكبر السدود في العالم (أسوان والسد العالي بمصر، وسنار وجبل أولياء والروصيرص ومروي بالسودان). تتشارك تنزانيا وكينيا ويوغندا بحيرة فكتوريا والتي هي المصدر الأساسى للنيل الأبيض. أكبر روافد بحيرة فكتوريا هو نهر كاغيرا الذي ينبع في بورندي ورواندا مضيفاً هاتين الدولتين كدولٍ منبع لنهر النيل. يدخل النيل الأبيض بحيرة البرت بعد خروجه من بحيرة فكتوريا، ويضيف في هذا الأثناء قليلاً من المياه لحوضه، وبما أن بحيرة البرت تتشاركها الكونغو الديمقراطية ويوغندا فإنّ هذا الوضع يضيف الكونغو كدولةٍ من دول المنبع . من الجانب الآخر ينبع نهر السوباط والنيل الأزرق ونهر عطبرة من أثيوبيا. أحد روافد نهر عطبرة وهو نهر السيتيت يمرّ من ارتريا، مضيفاً اريتريا كدولةٍ من دول منبع لنهر النيل. تلتقي معظم روافد نهر النيل في السودان وتكوّن نهر النيل الذي يعبر شمال السودان ثمّ مصر قبل أن يصب في البحر الأبيض المتوسط ".

بدأت الأزمة الاخيرة التي نبهتنا الى أن هناك مشكلة متفجرة تطل في الأفق. عندما وقعت أربع من دول منابع النيل هي أثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا اتفاقا لإطار تعاوني في حوض النيل. وانضمت كينيا لاحقا إلى هذه المجموعة، ووقعت الاتفاق الذي منحت دول منبع ومصب النيل الأخرى مهلة عام ينتهي في مايو من العام المقبل للتوقيع والمصادقة على الاتفاقية. وفور توقيع هذه الاتفاقية شكلت القاهرة "خلية أزمة" لمتابعة النزاع مع دول المنبع حول مياه النهر.

مصر بدأت مفاوضات نشطة مع دول المنبع، لذلك بادرت الى دعوة قادة هذه الدول الى القاهرة ، مع " ترحيب" لافت بهذه الزيارات، وهو أمر محسوب ومفهوم، في حين أن بلادنا "منهمكة" في أمور أخرى. غارقة في " الاحتفالات" منشغلة بطائرة "خليل ابراهيم" التي حطت في هذا المطار وأقلعت من ذاك المطار.

تقول الاحصاءات إن 86 بالمائة من مياه النيل تأتي من الهضبة الاثيوبية حيث تبين أرقام الدكتور سلمان أن 59 في المائة من النيل الأزرق و14 في المائة من نهر السوباط و13 في المائة من نهر عطبرة، في حين تساهم البحيرات الإستوائية (دول المنبع الاخرى مجتمعة)  بحوالي 14 في المائة  فقط من مياه نهر النيل. وأكبر منطقة هدر لمياه النيل ، توجد في " دولة الجنوب".

لغة الارقام بطبيعتها جافة رغم أن لها قدرة على البيان لا تضارعها فيها وسيلة أخرى من وسائل التعبير. ولغة الارقام تقول إن " قضية نهر النيل" تهم بالدرجة الاولى بلادنا ومصر واثيوبيا و" دولة الجنوب".

بلادنا ، كما اسلفت غارقة الآن وربما لفترة في مشاغل "الاحتفالات"  وتشكيل "  المجالس والحكومات ". مصر أطلقت "ديبلوماسية مياه" نشطة، جعلت بعض قادة دول المصب، يعاملون معاملة قادة الدول العظمى عندما يزورون القاهرة. اثيوبيا تحتمي الآن خلف اتفاقية عنتبي لحماية مصالحها، و"دولة الجنوب" تعمل من اجل ان تكون نتائج "استفتاء يناير" كاسحة.

اعود من جديد الى رؤية "دكتور سلمان" الذي يقول "إن التمسك بنصوص الإتفاقيات السابقة غير مفيد ولن يساهم بأي صورةٍ من الصور في المساهمة في حلحلة أيٍ من المشاكل التي يواجهها حوض النيل. كما أن توقيع إتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل بواسطة خمس دول أوحتّى ثمان دول سوف يخلق إشكالات قانونية معقدة حول وضعية مبادرة حوض النيل ومن يحق له التصرف والتحدث باسم المبادرة" ويخلص الى أن حلّ مشاكل حوض النيل " يتطلب النظرة إلى الحوض كوحدة مائية وإقتصادية وبيئية واعتراف كل دولة بحقوق الدول الأخرى، وهذا بدوره يتطلب التعاون الكامل بين دول الحوض والتركيزعلى تقاسم المنافع".

إن قضية نهر النيل ، قضية حيوية لبلادنا التي يراودها الحلم القديم بان تصبح " سلة غذاء العالم ". هي قضية حياة،وهذا يتطلب وضع سياسة وطنية خالصة، وأشدد على " سياسة وطنية" لا مجاملة فيها لدول المنبع أو دولة المصب، ولا علاقة لها بحسابات وتكتيكات النظام الحالي لانها قضية أجيال.

 هذه السياسية تبدأ في رأيي من تشكيل" مفوضية عليا لنهر النيل"  تمنح لها صلاحيات تنفيذية وتفاوضية واسعة في ظل هذا النظام او في غيره ، على ان نضع على رأس هذه المفوضية، كفاءة سودانية أثبتت جدراتها على المستوى الدولي، وهو رجل وطني نزيه، وأعني الدكتور سلمان محمد سلمان.

نقطة على السطر.

 

عن " الأحداث"

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

 

آراء