الهوى يقظان والعقل راقد
د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
11 November, 2021
11 November, 2021
نشر في سودانايل بتاريخ 1 مايو, 2019
بسم الله الرحمن الرحيم
منشورات حزب الحكمة:
abdelmoniem2@hotmail.com
ظهرت بوادر الفوضويَّة، كما حذَّرنا، وكشّر العسكر عن أنيابهم ونحن نعلم أنّهم لا يبتسمون. وعلا صوت الخطاب العسكري الذي يحذِّر من انفلات الأمن، ويتَّخذه ذريعة لاتِّخاذ القرار نيابة عن الشعب أو غصباً عنه، وهو ما ظلّت حكومات الإنقاذ تخوّفنا منه وتستند على حُجّته لمواصلة الحكم الغاشم. ليس هذا وقت الإملاء على الشعب، ولا فرض سياسة الأمر الواقع، ولا الغرور بالقوّة الماديّة حتى وإن ساندهم جزء قليل من الشعب مُغيّب الوعي.
ولقد سمعنا نفس الخطاب القديم من أمثال: “هيبة الدولة أو عدم السماح بالمساس بسمعة القوات المسلحة واعتبار ذلك من الجرائم التي يعاقب عليها القانون”. وما كان لمثل هذا الخطاب أن يعود بعد انتصار إرادة الشعب إلا نتيجة للفراغ الدستوري، نتيجة لضعف المعارضة وارتباك قادتها وقلّة خبرتهم، والتي وجد فيه العسكريون سانحة للتمدّد فيه ومواصلة ديدنهم القديم، فالفراغ لا يقبل أن يظل فجوة كالثقوب السوداء، فإن لم تملأه بالطيب امتلأ بالخبيث.
ويجب أن ينتبه العسكريون أنّ قيمتهم متساوية مع غيرهم من المواطنين، ولهم أدوار مختلفة يحتاجها الوطن، وقيمة المرء ما يحسنه. ولا يحقّ لعسكري في بزّته العسكرية أن يحكم مدنيين يفوقونه عدداً وقوّة، فما قوّة السلاح التي وفّرها لهم الشعب بأقوى من الشعب الذي في يده أن يحل كلّ الجيوش، إذا أراد ذلك، كما حدث في بلدان أخرى.
وماذا كانت حصيلة الجيوش السودانية المنظمة وغير المنظّمة منذ الاستقلال إلا توجيه بنادقهم صوب صدور الشعب الذي أقسموا بحمايته؟ فأهلكوا الملايين نتيجة سياسات رعناء قام بها قادة أغبياء معظمهم من العساكر. فليوضّحوا لنا أي أعداء الوطن قاتلوا؟
ولأي غرض يذهب ما يعادل ثلاثة أرباع الميزانية لهم بدلاً من مشاريع التنمية وتوفير الخدمات للمواطنين؟ فالفقر والجوع والجهل والمرض أكثر عداء من جنود خارجيين لم يضعوا أحذيتهم على أرض الوطن وحتى الذين فعلوا ذلك لم يجدوا من يصدّهم.
وحُجَّة أنّهم يذودون عن الوطن بأرواحهم حجّة داحضة لأنّهم اختاروا أن يخدموا الوطن في هذا المجال اختياراً حُرّاً، وهم ليسوا أكثر تعرّضاً لخطر الموت من الطبيب الذي يتعرّض لملايين الجراثيم الفتَّاكة.
ليعلم أهل السودان أنّ هيبة الدولة في يد من يحكمها لا في يد المحكوم، وهو علميّاً مفهوم مغلوط. فهيبة الدولة ناتج؛ أي صيرورة، وليست مدخلات أو عملية سيرورة. وذلك يعني إذا احترمت الحكومة القانون وطبقته على نفسها أوّلاً، ولم تندس خلف الحصانات أو وراء التهديد، وضربت بذلك مثلاً في الوطنية وصارت قدوة حسنة، فإنّ الشعب سيحترم القانون وسيرفع من شأن الحاكم العادل، ويدافع عن أرضه التي تأويه وتوفّر له سبل العيش الكريم، وبذلك تكون للدولة هيبة تباهي بها الأمم. فالدولة تتكون من حكومة وشعب وأرض، ومن تراضي على طريقة وشكل الحكم والمساواة، فالهيبة للقانون المُطبّق وليست للدولة.
ولا شيء يخاف العدو منه أكثر من شعب مُتّحد يحبّ وطنه، حاكمه ومحكومه، ويدافع عن حقوقه بضراوة، ويعيش في وطن حيث تسود قيم العدالة، فتنقص بذلك فرص الخيانة بتماسك الجبهة الداخلية.
وتأمّلوا كيف كانت هيبة دولة السودان وهيبة أهلها في سالف الزمان، وقارنوها بحالها في العقدين الأخيرين. لقد رأينا ذلّة وانكساراً لأنّنا اضطّررنا للهجرة من وطن يصعب الاستقرار فيه أو الرجوع إليه، فعرف الأعراب ذلك فاستغلّوا ضعفنا وهواننا على الناس، واشتروا حُكّامنا واشتروا أراضي السودان بثمن بخس، فأين كانت هيبة الدولة؟
إنّ جميع الجيوش المجتمعة اليوم لم ترفع من شأن السودان ولا من هيبته في سنواتها الأخيرة، ولكنّها خفضت سمعته وهيبته بمساندة الحاكم الظالم، فانقلبت من خادم للشعب لمُذلٍّ له، وها هي اليوم تستمرئ ما اعتادت عليه وتحاول أن تفرض إرادتها شاء الشعب أم أبي.
لا شخص، مهما كان مركزه، فوق القانون وفوق النقد، وكلّ مواطن في موقعه خادم للشعب لا سيّداً يأمره وينهاه، والأجدر للجيش السوداني أن يستعيد هيبته باسترجاع مهنيّته وقوميته، وطرد اللصوص الذين يريدون أن يسرقوا تضحيات الشعب، وحلّ كل المليشيات العسكرية التي هي إفراز لعصر الشمولية البغيض، ولا يخدعنّه مظهر القوّة وإحساسها فهي عرض زائل. والأجدر أيضاً أن يحملوا المعاول بدلاً عن البنادق لتعمير البلد.
فالثورة لا تزال في بداية خطواتها الأولي وستحتاج إلى سنوات، لا تقلّ عن تسعة، لبلوغ سنّ الرشد، ولكن ذلك لن يتمّ إذا غابت القيادة الرشيدة، وغامت الرؤية، واستمرّت الغفلة، وتواري الفهم، وقلّت الخبرة.
إنّ قادتنا الجُدد يفتقرون للعلم والخبرة، لينجزوا لنا ما نأمل، فالتفاوض علم، والقيادة علم ولا أري غير أمثال دون كيشوت يقاتلون خيال مآتة أو طواحين هواء. إنّ معظم فرسان هذا العصر هم محض لصوص، وإن ندّدوا باللصوص وادّعوا أنّهم ضمير للشعب، فليكن الشعب واعياً ومدركاً لأحابيلهم وحارساً أميناً لوطنه.
إنّّنا نحتاج أن نعيد برمجة الذهنية السودانية ابتداءً من سنّ الطفولة لينشأ لنا شعب جديد، ولاؤه وانتماؤه للوطن، يحترم الإنسان وحقوقه، ويحترم القانون والزمن والعقل حيث تستيقظ العقول ويرقد الهوى.
ودمتم لأبي سلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
منشورات حزب الحكمة:
abdelmoniem2@hotmail.com
ظهرت بوادر الفوضويَّة، كما حذَّرنا، وكشّر العسكر عن أنيابهم ونحن نعلم أنّهم لا يبتسمون. وعلا صوت الخطاب العسكري الذي يحذِّر من انفلات الأمن، ويتَّخذه ذريعة لاتِّخاذ القرار نيابة عن الشعب أو غصباً عنه، وهو ما ظلّت حكومات الإنقاذ تخوّفنا منه وتستند على حُجّته لمواصلة الحكم الغاشم. ليس هذا وقت الإملاء على الشعب، ولا فرض سياسة الأمر الواقع، ولا الغرور بالقوّة الماديّة حتى وإن ساندهم جزء قليل من الشعب مُغيّب الوعي.
ولقد سمعنا نفس الخطاب القديم من أمثال: “هيبة الدولة أو عدم السماح بالمساس بسمعة القوات المسلحة واعتبار ذلك من الجرائم التي يعاقب عليها القانون”. وما كان لمثل هذا الخطاب أن يعود بعد انتصار إرادة الشعب إلا نتيجة للفراغ الدستوري، نتيجة لضعف المعارضة وارتباك قادتها وقلّة خبرتهم، والتي وجد فيه العسكريون سانحة للتمدّد فيه ومواصلة ديدنهم القديم، فالفراغ لا يقبل أن يظل فجوة كالثقوب السوداء، فإن لم تملأه بالطيب امتلأ بالخبيث.
ويجب أن ينتبه العسكريون أنّ قيمتهم متساوية مع غيرهم من المواطنين، ولهم أدوار مختلفة يحتاجها الوطن، وقيمة المرء ما يحسنه. ولا يحقّ لعسكري في بزّته العسكرية أن يحكم مدنيين يفوقونه عدداً وقوّة، فما قوّة السلاح التي وفّرها لهم الشعب بأقوى من الشعب الذي في يده أن يحل كلّ الجيوش، إذا أراد ذلك، كما حدث في بلدان أخرى.
وماذا كانت حصيلة الجيوش السودانية المنظمة وغير المنظّمة منذ الاستقلال إلا توجيه بنادقهم صوب صدور الشعب الذي أقسموا بحمايته؟ فأهلكوا الملايين نتيجة سياسات رعناء قام بها قادة أغبياء معظمهم من العساكر. فليوضّحوا لنا أي أعداء الوطن قاتلوا؟
ولأي غرض يذهب ما يعادل ثلاثة أرباع الميزانية لهم بدلاً من مشاريع التنمية وتوفير الخدمات للمواطنين؟ فالفقر والجوع والجهل والمرض أكثر عداء من جنود خارجيين لم يضعوا أحذيتهم على أرض الوطن وحتى الذين فعلوا ذلك لم يجدوا من يصدّهم.
وحُجَّة أنّهم يذودون عن الوطن بأرواحهم حجّة داحضة لأنّهم اختاروا أن يخدموا الوطن في هذا المجال اختياراً حُرّاً، وهم ليسوا أكثر تعرّضاً لخطر الموت من الطبيب الذي يتعرّض لملايين الجراثيم الفتَّاكة.
ليعلم أهل السودان أنّ هيبة الدولة في يد من يحكمها لا في يد المحكوم، وهو علميّاً مفهوم مغلوط. فهيبة الدولة ناتج؛ أي صيرورة، وليست مدخلات أو عملية سيرورة. وذلك يعني إذا احترمت الحكومة القانون وطبقته على نفسها أوّلاً، ولم تندس خلف الحصانات أو وراء التهديد، وضربت بذلك مثلاً في الوطنية وصارت قدوة حسنة، فإنّ الشعب سيحترم القانون وسيرفع من شأن الحاكم العادل، ويدافع عن أرضه التي تأويه وتوفّر له سبل العيش الكريم، وبذلك تكون للدولة هيبة تباهي بها الأمم. فالدولة تتكون من حكومة وشعب وأرض، ومن تراضي على طريقة وشكل الحكم والمساواة، فالهيبة للقانون المُطبّق وليست للدولة.
ولا شيء يخاف العدو منه أكثر من شعب مُتّحد يحبّ وطنه، حاكمه ومحكومه، ويدافع عن حقوقه بضراوة، ويعيش في وطن حيث تسود قيم العدالة، فتنقص بذلك فرص الخيانة بتماسك الجبهة الداخلية.
وتأمّلوا كيف كانت هيبة دولة السودان وهيبة أهلها في سالف الزمان، وقارنوها بحالها في العقدين الأخيرين. لقد رأينا ذلّة وانكساراً لأنّنا اضطّررنا للهجرة من وطن يصعب الاستقرار فيه أو الرجوع إليه، فعرف الأعراب ذلك فاستغلّوا ضعفنا وهواننا على الناس، واشتروا حُكّامنا واشتروا أراضي السودان بثمن بخس، فأين كانت هيبة الدولة؟
إنّ جميع الجيوش المجتمعة اليوم لم ترفع من شأن السودان ولا من هيبته في سنواتها الأخيرة، ولكنّها خفضت سمعته وهيبته بمساندة الحاكم الظالم، فانقلبت من خادم للشعب لمُذلٍّ له، وها هي اليوم تستمرئ ما اعتادت عليه وتحاول أن تفرض إرادتها شاء الشعب أم أبي.
لا شخص، مهما كان مركزه، فوق القانون وفوق النقد، وكلّ مواطن في موقعه خادم للشعب لا سيّداً يأمره وينهاه، والأجدر للجيش السوداني أن يستعيد هيبته باسترجاع مهنيّته وقوميته، وطرد اللصوص الذين يريدون أن يسرقوا تضحيات الشعب، وحلّ كل المليشيات العسكرية التي هي إفراز لعصر الشمولية البغيض، ولا يخدعنّه مظهر القوّة وإحساسها فهي عرض زائل. والأجدر أيضاً أن يحملوا المعاول بدلاً عن البنادق لتعمير البلد.
فالثورة لا تزال في بداية خطواتها الأولي وستحتاج إلى سنوات، لا تقلّ عن تسعة، لبلوغ سنّ الرشد، ولكن ذلك لن يتمّ إذا غابت القيادة الرشيدة، وغامت الرؤية، واستمرّت الغفلة، وتواري الفهم، وقلّت الخبرة.
إنّ قادتنا الجُدد يفتقرون للعلم والخبرة، لينجزوا لنا ما نأمل، فالتفاوض علم، والقيادة علم ولا أري غير أمثال دون كيشوت يقاتلون خيال مآتة أو طواحين هواء. إنّ معظم فرسان هذا العصر هم محض لصوص، وإن ندّدوا باللصوص وادّعوا أنّهم ضمير للشعب، فليكن الشعب واعياً ومدركاً لأحابيلهم وحارساً أميناً لوطنه.
إنّّنا نحتاج أن نعيد برمجة الذهنية السودانية ابتداءً من سنّ الطفولة لينشأ لنا شعب جديد، ولاؤه وانتماؤه للوطن، يحترم الإنسان وحقوقه، ويحترم القانون والزمن والعقل حيث تستيقظ العقول ويرقد الهوى.
ودمتم لأبي سلمي