الهيئة القومية لدعم خيار الانفصال!!!!! … بقلم: د.عثمان إبراهيم عثمان

 


 

 

  امتهنت كلمة القومية كثيراً هذه الأيام، وأصبحت تطلق بغير ضابط أو رقيب؛ ولم لا؟ ألم تتحول مؤسساتنا القومية نفسها إلي واجهات لحزب المؤتمر الوطني بعد أن استولى على السلطة في ليل بهيم؛ وصار يجيرها لأي منشط حزبي يخصه ويستعديها تجاه الأحزاب الأخرى. إننا لا نطلق الحديث على عواهنه في هذه القضية الهامة؛ فدونكم تسخير كل إمكانات الدولة، ومؤسساتها للحملة الانتخابية لحزب المؤتمر الوطني: فالإعلام القومي من إذاعة، وتلفزيون، ووكالة أنباء كان يسبح صبح مساء بحمد قادة المؤتمر الوطني، ويهمل في ازدراء فعاليات الأحزاب المنافسة له في الانتخابات الأخيرة، الأمر الذي يعد انتهاكاً صريحاً لقانون الانتخابات؛ كما استغلت طائرات، وسيارات الدولة في حل وترحال مرشحي الحزب الحاكم الذين طافوا ولايات السودان كافة؛ وأنفقت أموال الشعب السوداني الفلكية على حملة المؤتمر الوطني للانتخابات؛ وليس آخراً انحياز أجهزة الدولة من شرطة، وقوات مسلحة، وسفارات بالخارج للمؤتمر الوطني عند إنفاذ فعاليات الانتخابات الأخيرة؛ حتى صارت كلمة القومية تعني المؤتمر الوطني، وأصبح المؤتمر الوطني مطابقاً للقومية؛ تماماً كما لا تستطع أن تفرق الآن بين أموال الدولة، وأموال الحزب ومنسوبيه– فعاليات سوق المواسير المشبوه بدأت بمكتبين برئاسة شرطة ولاية شمال دارفور حسب تصريح وزير العدل ( أجراس الحرية 6 مايو 2010م)، أصدق مثال لما نقول.

 انسجاماً مع هذا الوضع البئيس، قامت هيئة أطلق عليها اسم: الهيئة القومية لدعم انتخاب المواطن عمر البشير، مرشح حزب المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية. ليس من حقنا أن نعترض على قيام أي جسم يسعى لدعم أي مرشح للانتخابات، أو أن يطلق عليه اسم هيئة دعم انتخاب المواطن عمر البشير؛ ولكن أن يعتدى على كلمة القومية بهذه الصورة البشعة؛ فهذا كذب، وافتراء، وتدليس لن نسكت عليه؛ فالساكت عن قول الحق شيطان أخرس. ليس ذلك فحسب، بل أن كل أهدافها، وأنشطتها موجهة نحو دعم مرشح حزب معين في فعالية هي في الأساس تنشد التنافس الحزبي، ومن ثم فلا مجال لحشر مصطلح القومية فيها. أما ثالثة الأثافي، فهي تكوين الهيئة نفسها، والذي هو حزبي حتى الثمالة: فرئيسها المشير(م) عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب هو أحد أوائل الذين انضموا، في مطلع خمسينات القرن الماضي، لجيل الطلائع العسكري الإخواني، كأول خلية عسكرية حزبية بالقوات المسلحة (الجيش السوداني والسياسة : دراسة تحليلية للانقلابات العسكرية، ومقاومة الأنظمة الدكتاتورية في السودان/عصام الدين ميرغني طه (أبو غسان)، ص 42)، الأمر الذي يتعارض مع قومية القوات المسلحة، ولذا فهو كان يعمل ضد القومية منذ ذلك التأريخ؛ وانكشف توجهه ذلك بوضوح إبان توليه لرئاسة البلاد في الفترة الانتقالية بعد انتفاضة أبريل 1985م من خلال إنحيازه لمصالح الجبهة الإسلامية آنئذ (المؤتمر الوطني حالياً مع بعض التشرذم)، فأدخل البلاد في هذه الدوامة  التي استحكمت حلقاتها بعد انقلاب الجبهة الإسلامية القومية على السلطة الشرعية المنتخبة بقوة السلاح، ومن ثم دعمه لذلك الانقلاب، لتتم مكافأته بالجلوس على رأس منظمة الدعوة الإسلامية، وليتقاضى راتبه بالدولار الأمريكي الكافر. أما بقية أعضائها، فهم إما من منسوبي حزب المؤتمر الوطني نفسه، أو الأحزاب الكرتونية النطيحة، أو المؤسسات المجيرة قصراً للمؤتمر الوطني مثل: إتحاد أصحاب العمل، وإتحاد كرة القدم، وإتحاد المهن الموسيقية وغيرهم من من آثر البعد عن الشر وغنى له. كما انكشف الغطاء الشفيف الذي يستر عورة مؤسساتنا القومية (مجازاً)، عندما بادرت بالاحتفاء بفوز مرشح حزب المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية؛ حيث نظمت القوات المسلحة السودانية حفلاً بهياً بهذه المناسبة، - هل من سبيل لقيام هذا الاحتفال لو فاز العميد(م) عبد العزيز خالد بالرئاسة؟ - تخلت فيه عن قوميتها الجامعة، وتدثرت بثوب الحزبية الضيق، فخالها المراقب مليشيا لحزب المؤتمر الوطني يخاطبها رئيسه باللباس العسكري، حتى بعد أن أحال نفسه للمعاش اتساقاً مع متطلبات الترشح للرئاسة، ومدينة المنصب، وليس آخرها سد ذرائع الانتماء المزدوج. كما احتفت سفارات "السودان" وقنصلياته بالخارج بفوز مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة، غير عابئة بطبيعتها القومية غير المنحازة لأي حزب أو جهة؛ فهل يا تري كانت سوف تحتفي بفوز ياسر عرمان مثلاً؟؛ وغيرها الكثير من الاحتفالات التي أقامتها مؤسسات "الدولة" والتي سوف تقام قريباً؛ الأمر الذي ينطوي عليه بلاء عظيم، وعدم مصداقية في التعاطي مع القضايا الوطنية الكبرى.

  فالقضايا الوطنية الكبرى صارت رهينة للمصالح الحزبية، والشخصية المدمرة؛ وما طلب الهيئة القومية لدعم انتخاب المواطن عمر البشير، بتحويلها إلي هيئة قومية لدعم خيار الوحدة، إلا مثالاً صارخاً لما نقول. فكون أن هذا الأمر تم بناءً على طلب الهيئة نفسها، فهذا مدعاة للتبصر حول المفاسد التي تنطوي عليه من منافع شخصية لمنسوبيها؛ في حين أن هذه الهيئة لم تحسن صنعاً في مهمتها الأولى بدعم مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة؛ ولذا لن تكون إلا هيئة لدعم خيار الانفصال؛ وذلك استناداً على الكسب الانتخابي لمن تنادوا لدعمه في ولايات الجنوب، ولما لذلك من دلالة على مآلات الاستفتاء؛ والتي نلخصها في النقاط التالية:

1-لم يحصل مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة إلا على ما يقارب 14% من جملة الذين صوتوا بالجنوب؛ في حين أن مرشح الحركة الشعبية المنسحب من السباق الرئاسي قد حصل على ما يفوق 76% من جملة هذه الأصوات؛ الأمر الذي يؤهل السيد ياسر عرمان، عن جدارة واستحقاق، لقيادة أي هيئة شعبية لدعم خيار الوحدة، وإطلاق يده في أمر تغذيتها بمن يراه مناسباً لعضويتها، ودعم المركز له مادياً ولوجستياً، لتحقيق هذا الهدف الوطني الغالي؛ أن كنا فعلاً جادين في أمر هذه الوحدة.

2-حصل مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة على نسبة 95% من جملة الأصوات الصحيحة في كل السودان من الولايات الشمالية؛ مما يعنى أنه حصل على نسبة 5% فقط من نسبته الكلية من ولايات الجنوب العشرة؛ الأمر الذي يعني الرفض القاطع للمواطنين في الجنوب لبرنامج المؤتمر الوطني، الذي يحوي بالطبع رؤيتهم لموضوع الوحدة والانفصال؛ ومن ثم يمكن القول، ومن دون تردد، أن أي داعم لترشيح المواطن عمر البشير، هو داعم للانفصال.

3-فحتى المرشح المستقل للرئاسة محمود أحمد جحا(15%) تفوق على مرشح المؤتمر الوطني(12%) في ولاية جونقلي؛ في حين اكتسح مرشح الحركة الشعبية المنسحب(66%) الانتخابات الرئاسية في هذه الولاية؛ كما تقاربت النسبتين اللتين حصل عليهما المرشح المستقل السيد جحا مع تلك اللتين بلغهما مرشح المؤتمر الوطني في ولايتي الاستوائية الوسطي وشمال بحر الغزال.

4-أما في ولايتي المشورة الشعبية (النيل الأزرق وجنوب كردفان) فلم يحصل مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة إلا على نسبة كلية تبلغ 64%؛ في حين حصل مرشح الحركة الشعبية على 24%، رغم انسحابه من السباق الرئاسي؛ مقارنة بما حققه الأول (لا يقل عن 90%) في بقية ولايات الشمال الأخرى؛ الأمر الذي ينبئ عن سيرهما في طريق الجنوب الوعر إن لم نتدارك الأمر قبل فوات الأوان.

لاشك أن هذه الإحصاءات مخيبة لآمال المؤتمر الوطني؛ ولذا كان الإحباط بائناً على وجوههم في ذلك الاحتفال المقتضب الذي أقاموه بالنادي الكاثوليكي بعد إعلان نتيجة رئاسة الجمهورية. ولكن الأهم من كل ذلك هو دلالتها على مستقبل الوحدة؛ الذي أصبح في كف عفريت منذ توقيع بروتوكول مشاكوس في عام 2002م؛ وهو التأريخ الذي اقتنع فيه أصحاب المشروع الحضاري باستحالة هزيمة الكفرة بجنوب البلاد، رغم التجييش الجهادي المصحوب بالمتحركات المليونية، واحتفالات أعراس الشهداء، والكرامات الخارقة؛ فما كان منهم إلا قنعوا بالسودان الشمالي، حفاظاً على كراسيهم؛ كما ملت الحركة الشعبية الحرب، ورضيت بالتوقع جنوباً، بعد أن فشلت في زحزحة الإنقاذيين قيد أنملة عن قشور مشروعهم الحضاري الذي أحالهم لمواطنين من الدرجة الثانية، الأمر الذي أكده السيد باقات أموم عندما أفصح بأن على المؤتمر الوطني التخلي عن مشروعه الإسلامي إذا أراد الوحدة (أجراس الحرية 6 مايو 2010م) ؛ وليأت التشاكس بين الشريكين عند تنفيذ اتفاقية السلام الشامل فيقصم ظهر الوحدة الجاذبة المنصوص عليها في الفترة الانتقالية، فترسخت أشواق الانفصال عند الطرفين.

 فما لم تتغير المعطيات الماثلة الآن بصورة دراماتيكية – سنعرض لها لاحقاً – فإن الانفصال لا محالة واقع؛ وأن هيئة سوار الذهب المزعومة سوف تعمقه، وتعجل به؛ خاصة إذا ما أضيف إليها داعمون لترشيح الرئيس البشير في قامة المهندس الطيب مصطفي، والأستاذين الصادق الرز يقي، وإسحق أحمد فضل الله؛ الذين ترك لهم النظام الحبل على الغارب ليضطلعوا بمهمة التبشير بالانفصال، والحض عليه، والإساءة والتشهير بقادة الحركة الشعبية، مثل الحديث غير المسئول عن زواج الفريق سلفاكير (الرأي العام 5 مايو 2010م).

 إن التغيير الدراماتيكي المنشود للحفاظ على وحدة السودان يتطلب تضحيات جسام – للأسف تتقاصر عنها القامات اليوم – سيسجلها التأريخ بأحرف من نور لمن يضطلع بها؛ والتي يمكن تلخيصها في الآتي:

 1-تأجيل استحقاق الاستفتاء – كما يقترح جوكية المؤتمر الوطني من أساتذة العلوم السياسية والتأريخ بالجامعات السودانية رغم أنهم لم يتقدموا بذلك المقترح قبل قيام الانتخابات لتفادي ربطه بها.

2-إلغاء نتائج الانتخابات في الشمال والجنوب، فلم تكن حرة أو نزيهة بشهادة الطرفين؛ ومزورة بتوثيق صوتي، ومرئي في الشمال. بغير ذلك يكون المؤتمر الوطني قد قبل بنتائج الانتخابات التي جرت بالجنوب تحت سلطان الحركة، رغم علمه بأن المواطن الجنوبي لم يكن حراً في التعبير عن رأيه – حسب تصريح السيد الرئيس المنتخب (الرأي العام 30 أبريل 2010م) – فهل سيقبل بنتائج الاستفتاء تحت نفس الظروف؟ أم سيكشف عن التزوير في حينه، خاصة وأنه غير مطالب بدفع أي استحقاق تجاه ذلك كما في حالة الانتخابات؟

3-تكوين حكومة قومية - بعيداً عن الاستعلاء والتكبر والغطرسة التي عبر عنها بعض قادة المؤتمر الوطني عند دعوتهم الأحزاب للانضمام للحكومة الموسعة التي يدعون لها خوفاً من تحملهم وحدهم لمسئولية انفصال الجنوب – حديث د.مصطفى إسماعيل لقناة الشروق في برنامج "المقعد لمن" يوم السبت 1/5/2010م) - تضطلع بالمهام التالية:

  أ-تنفيذ اتفاقية السلام الشامل نصاً وروحاً، وترميم الدستور الانتقالي مستندين في  

    ذلك على دستور 1974م.

 ب-حل مشكلة دارفور برد الحقوق لأهلها وإقامة العدل بين الناس.

 ج-الإعداد لانتخابات عامة - تحت إشراف مفوضية جديدة من شخصيات ذات انتماء  

    حزبي معلوم، ومرجعية محددة - بعد إكمال كل خطوات التحول الديمقراطي،  

    ومواءمة  القوانين السارية مع الدستور الانتقالي المرمم.

 د-ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، وإنفاذ حكم محكمة العدل الدولية فيما يخص 

    منطقة أبيي، وتكوين مفوضيتي الاستفتاء بهما من شخصيات حزبية ذات مسئولية

    معلومة.

هـ-إقامة مشاريع التنمية في جميع ربوع السودان وبتمييز إيجابي نحو المناطق التي

   تعرضت للنزاعات في الماضي.

 و-استنهاض البعد الاجتماعي والثقافي والرياضي في ترميم التشوهات التي حدثت

   إبان الحرب.

بغير ذلك فالطوفان لا محالة قادم؛؛؛

 

اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد؛؛؛؛؛

osman30 i [osman30i@hotmail.com]

 

آراء