الواثقُ، المُوثّق والمُوثُوقُ به

 


 

 

قليلةٌ تلك الكتب، التي تشدّك منذُ الصفحة الأولى ولا تتركها قبل أن تطوي الصفحة الأخيرة. والكتاب قيد العرض الآن، ليس روايةً أو قصّة، تتابع فيهما السرد، أو الحبكة وانتظار لحظة التنوير، أو ديوان شعر يحلّق بك في ملكوت الكلمات، وإنما هو كتاب في الأدب السياسي ويؤرخ لفترة مُحددة وهامّة من تاريخنا السياسيّ المعاصر. وهو من تأليف الدكتور الواثق كمير الموسوم "رحلتي مع منصور خالد، الخروج من الذات لملاقاة الآخر، جون قرنق والبحث عن السلام والوحدة".
الكتاب الصادر عن دار "مدارات بالخرطوم، في عام 2021، من الحجم المتوسط ويضمّ 452 صفحةً، ويحتوي إلى جانب المُقدمة على عشرةِ فصولٍ، وخاتمة إلى جانب الملاحقِ والمراجع.
يقودنا المؤلف عبر كتابه إلى محطاتٍ عديدةٍ من حياة وتاريخ الكاتب والمفكّر الموسوعي والمؤثر البارز في متن السياسة السودانية المتناقضة عبر السنين، الدكتور منصور خالد، ومنذُ اشتراكه في العمل السياسي المباشر في عهد الرئيس جعفر نميري كوزير للشباب ثم الخارجية، ودوره في اتفاقية أديس أبابا في 27 فبراير 1972، ثم العمل في المنظمات الدولية وانضمامهِ إلى الحركة الشعبيّة والجيش الشعبي لتحرير السودان عام 1987، كمستشار سياسيّ لقائد الحركة د. جون قرنق. ومشيراً إلى دوره البارز وعطائه المثمر للحركة والتعريف بها عبر كتاباته للقارئ العربي، ويكشف عن جوانب ربما غير معروفة للكثرين، مثل اهتمامه بالفنون الجميلة، فالعديد من لوحات الفنّ التشكيلي تزين حائط بيته العامر وافتنانه بأغاني الحقيبة الخالدة، والتي يحتفظ بمجموعة نادرة منها. لا يمكن هنا عرض الكثير من الجوانب العديدة والجميلة، التي جاءت في متن الكتاب، ولعلنا نقتطف بعض الفقرات، وهي تتعلق بفترة عضويته في الحركة.
إنّ اللقاء الذي تمّ ــ بعد إعلان جون قرنق في 21 فبراير 1995 عن مبادرة "لواء السودان الجديد" وذلك في أعقاب إقرار الحركة الشعبية لـ "حقّ تقرير المصير" كأحد الخيارات للتعاون والتفاعل المشترك بينها وبين القوى السياسية في الشمال الداعية لإجراء تغيير أساسي في أوضاع البلاد ــ بين قائد الحركة ود. حيدر إبراهيم علي ود. فاروق محمد إبراهيم في أسمرا، وخلافهما مع الحركة حول تكوين اللجان الشعبية وتأمين استقلالها والاحتفاظ بهُويتها ومن ثم قرارهما بالخروج عن من اتفاق أسمرا.
يعلّق منصور على ذلك "إنّ العلاقة بين قائد الحركة والأستاذين حيدر وفاروق لم تخلُ من تضاربِ في الرُوى، خاصّة حول وسائل إسقاط النظام التي يملك قرنق من عُدتها ما لا يملك الصديقان الأكاديميان. لذلك لم يكن مسعى الأستاذين مع قرنق هُو الانضمام للمُبادرة، بل، في حقيقة الأمر، كانا يتحدثان عن انتفاضة وشيكة يسعيان ـ فيما رويا ـ تنظيم قواعد بالداخل. هذا أمر لم تؤكد صدقيته الأحداث فيما بعد، مما يُثير تساؤلاً عن المعطيات التي اعتد عليهما الصديقان حتى أكسبتهما تلك الثقة المطلقة بالنفس".
وفي تعليق أخر لمنصور بعد التفاعل الايجابي للمبادرة من جانب الراحل الأستاذ الخاتم عدلان ومقاله المميز بعنوان "لواء السودان الجديد: حجر في الحركة الساكنة!". جاء حديث منصور عن الخاتم بعد حواره مع جون قرنق واصفاً له بأنّه كان " حواراً ناضجاً، جعلني أقول عند رحيله إنّ الساحة السياسية افتقدت بموت الخاتم مُفكراً كانت في أمسّ الحاجة إلى إسهاماته الفكريّة في أكثر مراحلها اضطراباً. ولعل من أكثر ما أوجعني إصرار الاِخوة الشيوعيين، ليس فقط على رفض طلب قدمته جماعة الخاتم للانضمام، إلى التجمع، بل اصطحاب الرفض بتهديد الحركة بأن قبول تلك الجماعة في التجمع سيحمل الشيوعيون على قبول مجموعة لام أكول، وكان ذلك في وقت تقدم فيه لام بطلب لرئيس الجمع (الميرغني) للالتحاق بالتنظيم المُعارض بعد خلافه (أي خلاف لام) مع المؤتمر الوطني، أياً كانت دواعي الحزب الشيوعي لقفل الطريق أمام المفكر وحرمانه من الاِسهام في عمل وطني عام، وفي أكثر مراحل الحياة السياسية حرجاً، هو في حُساباتنا عملُ غير صالح وتغابن غير كريم."
ويعلق منصور وفي حلقه غصة عن مسار لواء السودان الجديد. "المسيرة المتعثرة لأطروحة لواء السُودان الجديد، بل التربص من جانب البعض حول ما ظلت تدعو له الحركة حول السودان الجديد، يكشف عن تواني العقل البشري عن قبُل التغيير، وتردُد البشر في قبُول التخلي عن القيم والمفاهيم الموروثة. هذا أمر لا نتصادم عنه، ولكن يُخالجنا أسى كبير عندما نرى فتور النخب السياسية الرائدة (أو التي كان ينبغي أن تكون) عن قبول الأفكار الجديدة، حتى وإن كانت هذه الأفكار هي السبيل العملي الوحيد لتحقيق ما ظلت هذه النُخب تقول أنّها راغبة في تحقيقه، لا لسبب إلاّ الخَيْلاء الزائفة. هذا هو السودان بكلّ تعقيداته، ولا شكّ في أنّ أيّ شخصٍ لا يُدرك تلك التعقيدات سيصل إلى حكم غريب، هُو أن ّ بعض أهل الشمال يُفضلون القهر على يد قائدٍ شمالي، على الانعتاق والحُرية على يد سياسي جنوبي".
ويكتب منصور الوحدوي بعد أن تجرع مرارة انفصال الجنوب "بينما ساهمت النخبة السياسية الشمالية، بشقيها الحُكومي والمُعارض سوياً، وبالتضامن، ولو بدرجات متفاوتة، في حرمان الشعب السوداني من وحدة البلاد، والديمقراطية والرفاهيّة، التي بشرت بها اتفاقية السلام الشامل، كشفت النخبة السياسية الجنوبية عن قُصور مُولم في إدارة شئون الدولة، وعدم القُدرة على الارتقاء إلى مستوى القيم التي وجهت النضال طوال ثلاثة عقود. فهذه النُخبة، وإن شبّت وتمّ تعميدها بالنار على مبدأ أن السلطة للشعب، إلاّ أنّها انتهت إلى مُحاكاة ذات أسلوب المؤتمر الوطني في التعاطي مع الحُكم. وبالتالي، بدلاً عن "بلد واحد بنظامين"، انتهى السُودان إلى "بلدين بنظام واحد". يبدو أن ماضي السودان المنقوص لا يزال يطارد البلاد، حينما نرى ما حاق بالإنجاز العظيم للسلام من تشويه، عبر التجاوُزات المقصودة، والأخطاء غير المُتعمدة، وسوء الائتمان، وخيانة الفلسفة والمبادئ، والتي لولاها لما كانت اتفاقية السلام الشامل، حقاً، إنّه من المؤسف القول بأن " المِحن المُتكررة في البلدين، ليست بمظهر من مظاهر إدمان فشل النخبة السياسية فحسب، بل، ربما أيضاً دليل على حساسيّة هذه النخبة ضدّ النجاح!".
لا أريد أن أجادل هنا، إذا كان قرنق مؤمناً حقاً بوحدة السودان، ولكنني أشير هنا إلى "الضلع الثاني"، حسب ما جاء في ديباجة بروتوكول مشاكوس، الاِطار الجامع لكل البروتوكولات التي تليها، "جعل الوحدة خياراً جاذباً، وبصفة خاصّة لشعب جنوب السودان"، هذا الضلع هو البذرة التي أينعت انفصال جنوب السودان. فكيف يمكن لجنوبي أن يصوّت للوحدة وهو الذي خبر نقد العهود والاِزلال والحروب المستمرة، ومهما قيل بأنّ المؤتمر الوطني كان على استعداد للتخلي عن الجنوب من أجل البقاء في السلطة، فأنّ انفصال الجنوب هي مسؤولية الأحزاب الشمالية والمثقفين الشماليين منذُ فجر الاستقلال، وهذا ما أشار أليه وشرحه الكاتب بوضوح وبأمانة.
لقد اُتهم منصور لمساندته للأنظمة الدكتاتورية من خلال تعاونه مع النميري، وبالخيانة للوطن لانضمامه إلى حركة مسلحة تعمل على تدمير السودان. منصور خالد لم يحمل البندقية، وإنما القلم والقرطاس، مخاطباً ومجادلاً ومحترماً بهما عقل القارئ.
تعرفتُ على منصور مباشرة لأوّل وأخر مرّة منذ سنوات طويلة، عندما حضر إلى برلين، ممثلاً للجنة الدولية للبيئة، بدعوة للمشاركة في المؤتمر الصحفي، الذي دعتْ له وزيرة التعاون والتنمية في ألمانيا
السيدة هيداماري فيسورك ــ سويل ،
لمناقشة تقرير التنمية البشرية (الاِنسانية)،Heidemarie Wieczorek Wieczorek – Zeul
الصادر حديثاً عن برنامج الأمم المتحدة الاِنمائي، وكنتُ ممثلا لمنظمة حقوق الاِنسان في الدول العربية ألمانيا (أومراس)، لقد قدّم منصور عرضاً وافياً لقضايا البيئة وخاصّة في العالم الثالث، ولا أزال أذكر النقاش الحامي، الذي أثاره أحد الصحفيين المصرين منتقداً بعنف التقرير، وفي الواقع كانت النقاط التي أثارها، جاءت ضمن المقال الذي نشره أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة المعروف، حسن نافعة في صحيفة الأهرام، جاء ردّ منصور بكثيرٍ من التفاصيل والاِحصائيات وهو يتكلم من الذاكرة. وغادر منصور المؤتمر إلي مدينة درسدن، للمشاركة في مؤتمر نظمته الأمم المتحدة لمناقشة قضايا البيئة أيضاً، وضاعت عنّا فرصة لقاء سوداني برليني للتعرف عن قرب على الزائر الكبير.
جاء في الملحق السابع، عن الحركة الشعبية لتحرير السودان في شمال السودان، وثيقة الرُوية والبرنامج الإطاري:
"إنّ الحركة الشعبية بشمال السودان تتميز عن التنظيمات السياسية الأخرى بوحدة قاعدية جماهيرية حقيقية، ومسيرة نضال مُشترك توثقت بالدماء و تعمدت بالمُعاناة على مدى أكثر من ربُع قرن من الزمان، فالحركة لا تُعبر عن الواقع السوداني المتنوع إثنيّاً وثقافياً واجتماعياً على المستوى الفكري والنظري فحسب، بل تجسد عضويتها المُتنوعة هذا التعدد، كما أنّها تمارس أقصى درجات الديمقراطية في اختيار قياداتها، دون اعتبار للعرق أو الدين أو الجهة".
أين الحركة الشعبية في الشمال الآن، وأين قادتها الميامين؟ أحدهم يضع شروطاً مسبقة يستوجب تنفيذها قبل الدخول في الحوار، وكأنّه لا يفهم معنى كلمة حوار، وأخر قدم لنا دروسا في النضال والثبات على المبادئ وحذرنا بالمفتوح من مخبري الأمن، الذين يحوطوا بنا في ألمانيا، عند مشاركته لأول مرّة في المؤتمر السنوي لمنبر السودان في مدينة هيرمانزبورج في ولاية ساكسونيا السفلى، وتعميد معاناته الآن، مستظلا بحماية، من حذر منهم سابقاً، وثالثهم ينفخ في قربة مقدودة.
وعن قادة الجبهة الثورية! فحدث ولا حرج، فرنين وبريق الدنانير كشف عن معدنهم الأصيل، ناهيك، .(NO) عن مستر
لم التق بجون قرنق عند زيارته إلى ألمانيا، ولا حتى عرضاً، عندما حضر بدعوة رسمية لمخاطبة
البرلمان في بون في بداية عام 1989 فلم يُسمح لنا بالحضور حتى كزوار مستمعين. فقد كانت الحكومة تخشى من مشاحنات بين السودانيين. وكانت أجهزة الأمن تطوق البرلمان خوفَ ألاّ يقتصر الأمر على مشادّة كلاميّة فقط، لقد أصابت الدهشة والاستغراب نواب البرلمان، بالطريقة التي استقبل بها أعضاء الوفدين بعضهما البعض "بالأحضان والابتسامات وتبادل القفشات". بعد حديث د. قرنق جاء التعقيب من د. بشير عمر وقتها وزير الطاقة والتعدين، ممثلاً لحكومة السيد الصادق المهدي.
وأذكر هنا ما علمته لاحقاً، باحتجاج البروفيسور عبدالله علي إبراهيم، لدى رئيس البرلمان الألمانيّ، (عن طريق السفير الألماني في الخرطوم؟) معترضاً، مخاطبة قرنق لبرلمان ديمقراطي وهو يعتنق تكتيك حرب العصابات ويرفض الدعوة بترك الحرب والمساهمة في حلّ ما يرضي أهل السودان مستفيداً من ساحة الديمقراطية الناشئة. كما كان هناك تحفظ من بعض النواب الألمان أيضاً، من وجهة نظر قريبة من وجهة نظر عبد الله.
إن عطاء وإسهامات د. الواثق كمير للحركة الشعبية وعلاقته مع د. قرنق لحوالي عشرين عاماً، لا تقلّ عن إسهامات صديقه منصور، التي تمتد علاقته به لأكثر من ثلاثة عقود. فالواثق هو الدينمو الشمالي في الحركة الجنوبية. فكان يصيغ البرامج ويحضر ويقيم السمنارات وكثير الترحال للتنوير، وكانت اقتراحاته وتوصياته، بحكم الثقة المتبادلة بين ثلاثتهم، تجد القبول مع تعديلات وإضافات طفيفة من قائد الحركة ومن منصور، وهذا ليس مستغرباً، فالواثق عمل من قبل في المجال الأكاديمي والتنمية وبحوث السياسات لعدة سنوات.
أعقبت خاتمة الكتاب شهادات حميمة صادقة من أصدقاء وأقارب منصور، وجاء تقديم الكتاب بقلم شخصيتين متميزتين سياسياً وفكرياً، هما د. لام أكول والمحبوب عبد السلام.
هذا الكتاب ماتع، تميز بأسلوبٍ سلسٍ ولغة ناصعة، ويضمّ كثيراً من الوثائق والمستندات، ويكشف عن معدن الصداقة والوفاء.
الواثق ينتمي إلى زمرة الأكاديميين والباحثين المرموقين في بلادنا، الذين يتوخون الدّقة في أبحاثهم والأمانة في عرض أفكار وآراء معارضيهم، وكتابه شاهد عليه. وهو لا يزال يمارس دوره التنويري في الفكر السياسي والاجتماعي والثقافي عبر الصحافة الاِلكترونية.
التحية والتقدير للواثق، المُوثّقُ والمُوثوقُ به
برلين 7 أكتوبر 2022

hamidfadlalla1936@gmail.com

 

آراء