الورقة التي قدمها البروفسير الطيب زين العابدين بعنوان (الديمقراطية التوافقية طريقنا للاستقرار السياسي)

 


 

 



نقلا عن (حريات)

قدم البروفسير الطيب زين العابدين ورقة بعنوان (الديمقراطية التوافقية طريقنا للاستقرار السياسي) مساء الاثنين 17 سبتمبر بمركز مامون بحيري .

وننشر نص الورقة أدناه :

بسم الله الرحمن الرحيم

الديمقراطية التوافقية طريقنا للاستقرار السياسي

أ.د. الطيب زين العابدين

مقدمة

ظل السودان منذ الاستقلال يبحث لنحو ستين عاما عن نظام سياسي مستقر دون جدوى. فقد تعاقبت على حكمه ثلاثة أنظمة ديمقراطية لمدة أحد عشر عاماً فقط وثلاثة أنظمة عسكرية دام حكمها زهاء الأربعين عاماً، وما زالت البلاد تبحث عن دستور دائم ترضى عنه القوى السياسية في المركز والأقاليم ويضع البلاد على طريق الاستقرار والتنمية. كانت الأنظمة الديمقراطية التي اتسم حكمها بالقصر في فتراتها الثلاث (1954-58؛ 1965-69؛ 1986-89) هشة التكوين وضعيفة الأداء، فهي لم تفلح في إرساء قواعد متينة لحكم البلاد تستجيب لتطلعات أهل الجنوب في الحكم اللامركزي، ولم تبذل جهداً واضحاً في تنمية المناطق المتخلفة مما أدى إلى حرب أهلية طويلة مع الجنوب وإلى نزاعات إقليمية وتمرد مسلح ضد المركز، ولم تتمكن تلك الحكومات من وضع أسس اقتصادية سليمة توائم بين التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية حتى تسير البلاد في طريق النهضة والرفاهية؛ بل إنها لم تستطع في فتراتها الثلاث أن تضع دستوراً دائماً للبلاد بسبب الخلاف بين القوى السياسية على نظام الحكم ومرجعياته الفكرية والآيدولوجية، وأدى الصراع على السلطة إلى أزمات متلاحقة.وبسبب ضعف الحكومات الديمقراطية وزوال هيبتها لم تنجح حتى في حماية نفسها من مغامرات العسكريين الطامحين في السلطة، ولم يهب الشعب الذي انتخبها للدفاع عنها ضد الانقلابات العسكرية التي أطاحت بها لأن أداءها لم يكن مقنعا لعامة الناس. وبالطبع هناك أسباب حقيقية تفسر ضعف أداء الحكومات الديمقراطية، منها قصر المدة التي حظيت بها في السلطة وحداثة تجربة الحكم الوطني الذي جاء بعد ستين عاماً من الاستعمار البريطاني الذي عزل الشمال تماماً عن الجنوب وشكّل إدارات أهلية في الأقاليم على أسس قبلية، ولعدم توفر الأغلبية النيابية لحزب واحد في النظام البرلماني جاءت تكوينات كل تلك الحكومات إئتلافية من عدة أحزاب متنافرة تاريخياً وذات توجهات وطموحات متباينة من خلال ديمقراطية تنافسية، الأصل فيها غلبة حزب واحد على بقية الأحزاب. وعلى حداثتها نشأت الأحزاب السودانية على أسس طائفية أو إقليمية أو قبلية أو عقائدية تفتقد جميعاً النهج الديمقراطي والثقافة الديقراطية ومؤسسية الأجهزة الحزبية، فلم يكن سلوكها أو أداؤها مما يرسخ للنظام الديمقراطي أو يجعله جاذباً للشباب والطبقة الوسطى.ولكن يحمد للحكومات الديمقراطية أن الانتخابات الخمس التي أجرتها في عهدها كانت نزيهة وعادلة ومقبولة إلى حدٍ كبير لكافة القوى السياسية؛ وأن سجلها لم يشوه بانتهاكات واضحة لحقوق الإنسان، ولم تسع لتسييس القوات النظامية أو الخدمة المدنية أو الجهاز العدلي أو تستغل موارد الدولة لمصالح حزبية، وإن حاولت الأحزاب العقائدية تشكيل خلايا لها داخل الجيش لتستعين بها في الاستيلاء على السلطة، وهو نهج  للحكم كان سائداً في كثير من الدول العربية والإفريقية والآسيوية.

وتعاقبت على حكم البلاد ثلاثة أنظمة عسكرية دام حكمها لنحو أربعين عاماً (1958-64؛ 1969-85؛ 1989-2012)، جاء الحكم العسكري الأول نتيجة لتسليم السلطة لقيادة الجيش في نوفمبر 1958م من رئيس الوزراء المدني (عبد الله خليل) الذي أوشك أن يفقد منصبه بسبب تشكيل تحالف جديد داخل البرلمان كان سيطيح به، وكان الثاني انقلاباً عسكرياً من القيادات الوسطى في الجيش المتأثرة بالتجربة الناصرية ودعوتها للاشتراكية والقومية العربية، وجاء الانقلاب الثالث نتيجة تدبير وتنظيم من الحركة الإسلامية السودانية (الجبهة الإسلامية القومية) المتأثرة بفكر الأخوان المسلمون في مصر. وشاركت الأحزاب السياسية بدرجات متفاوتة ولمدد قصيرة في تأييد ودعم الحكومات العسكرية، ولكن القرار السياسي بقي بيد الإنقلابيين العسكريين باستثناء فترة الإنقاذ الأولى إذ سيطرت القيادة المدنية للجبهة الإسلامية على مقاليد السلطة؛ وفي كل الحالات انقلبت العصبة العسكرية على الأحزاب والقيادات التي جاءت بها للحكم أو دعمتها لتمسك بالسلطة كاملة وتضعها في يد قائد فرد أبعد عن السلطة حتى من شاركوه من الضباط في صنع الإنقلاب. وقد كان المناخ السياسي في عمومه بالدول العربية والإفريقية مواتياً للحكومات العسكرية والأنظمة الشمولية نسبة لهشاشة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني،ولضعف أداء الحكومات الديمقراطية التي جاءت عقب الاستقلال، والتي واجهت مشكلات اقتصادية وسياسية ونزاعات إثنية لم تستطع معالجتها بالقدر الكافي.

وقد كان من سمات الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان لأربعة عقود، أنها تبدأ عهدها بتعطيل الدستور وحكم القانون وتحجر على الحريات العامة وتحظر نشاط الأحزاب السياسية والاتحادات المهنية والنقابات العمالية المنتخبة وتقيد حرية الصحافة، وتقمع المعارضين المدنيين عبر القوة المفرطة بواسطة أجهزة الأمن والشرطة والمحاكم الاستثنائية وتدابير الطوارئ والأحكام العرفية والفصل من الخدمة العامة، مما أدى إلى إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتعطل بذلك التطور الديمقراطي في البلاد الذي بدأ واعداً عند مطلع الاستقلال. وعرف الحكم العسكري بتجييره للقوات النظامية والأجهزة العدلية والخدمة المدنية لمصلحة السلطة العسكرية القائمة بدلاً من مصلحة البلاد القومية، وبإحالته للصالح العام كل من يشتبه فيه من ضباط القوات النظامية أوقيادات الخدمة المدنية أو السلك القضائي بأنه معارض للنظام. وبلغت تلك الإجراءات التأمينية ذروتها في عهد سلطة الإنقاذ التي توفرت لها كوادر مؤهلة في شتى قطاعات الدولة حتى تماهت الحدود بين أجهزة الدولة والحزب الحاكم، وأصبحت سياسة “التمكين” لعناصر الحزب في أجهزة الدولة منهجاً رسمياً معلناً على رؤوس الأشهاد.وأدت تلك السياسات الإقصائية إلى ضعف المؤسسية وتدني الأداء في أجهزة الدولة بدرجة كبيرة بسبب تقديم الولاء للنظام على الكفاءة، وإلى انتشار الفساد في الخدمة المدنية لأن أهل الولاء الذين تسنموا القيادة كانوا فوق المحاسبة.

وانتهجت جميع الحكومات الإنقلابية العمل العسكري حلاً لمشكلة الجنوب، على الأقل لفترة من الزمن حتى استيأست منه حاولت اللجؤ إلى معالجة سياسية بنصف قناعة،مما وسع الشقة بين أهل الشمال والجنوب وقاد لخسائر هائلة في الأرواح والممتلكات،وأدى في النهاية  إلى انفصال جنوب السودان في يوليو 2011 في عهد الحكم العسكري الأخير؛ وفقد السودان بذلك ثلث مساحته وربع سكانه وثروات معدنية وزراعية ومائية هائلة. وكانت الفترات العسكرية مرتعاً خصباً للفساد والرشوة واهدار المال العام والمحسوبية واستغلال النفوذ، والتفاوت المريع بين الصرف على الأجهزة الأمنية التي يستند عليها النظام والصرف على التنمية والخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن. وضاق الشعب ذرعاً بالحكم العسكري فهب ضده بقواه المدنية والسياسية واستطاع الإطاحة به مرتين، الأولى في ثورة أكتوبر المجيدة ( 1964) ضد حكم الرئيس ابراهيم عبود،  والثانية في انتفاضة جماهيرية مشهودة في (أبريل 1985) ضد حكم الرئيس جعفر نميري. ولا زال الحكم العسكري الحالي رغم طول بقائه في السلطة يعاني من النزاعات العسكرية الجهوية والاحتجاجات الجماهيرية ومن عدم الاستقرار السياسي والاداري، ومن العزلة الإقليمية والمحاصرة الدولية والأزمات الاقتصادية. وليس مستبعداً أن ينتفض الشعب السوداني ضد الحكم القائم مرة ثالثة كما فعل بسابقيه خاصة وأن الربيع العربي ضرب مثلاً في نجاح الثورات الجماهيرية على الحكومات الاستبدادية. وخلاصة تجربة السودان خلال العقود الستة منذ الاستقلال أنه لا يمكن أن يحكم بمركزية قابضة ولا بحكم استبدادي شمولي، عسكرياً كان أم مدنياً، وكلاهما من سمات الأنظمة العسكرية بحكم هيكلتها التراتيبية وتدريبها الصارم على طاعة الأوامر العليا دون نقاش أو مراجعة. وخيار السودان الذي لا بد منه هو النظام الديمقراطي اللامركزي الذي يتبنى تحقيق العدالة الاجتماعية على مستوى الأفراد والأقاليم والمجموعات العرقية مهما كانت مشكلات التطبيق التي تعترضه. ولكن كيف للسودان أن يؤسس ديمقراطية فيدرالية مستدامة؟ هذا ما تحاول الورقة الإجابة عليه.

مشكلات النظام الديمقراطي في السودان

إذا كان النظام الديمقراطي التعددي هو الأفضل لأهل السودان، وأن الحكم العسكري أو الشمولي غير مقبول لديهم بدليل ثورتهم الشعبية عليه مرتين في 1964 وفي 1985 فلماذا إذن لم تدم الديمقراطية أكثر من إحدى عشر سنة في حين تطاول الحكم العسكري لأربعين عاماً؟ لا بد أن هناك أسباباً موضوعية، سياسية واجتماعية، أدت لضعف النظام الديمقراطي مما أغرى المغامرين العسكريين بالإنقلاب عليه دون أن تهب الجماهير للدفاع عنه. يعزى نجاح الإنقلاب العسكري في الإستيلاء على السلطة، رغم بعض المحاولات الفاشلة، على حفظ سريته ودقة الإعداد لهو تجنيد قوة مؤيدة له في أسلحة الجيش المختلفة، بالإضافة إلى توفر الظرف السياسي المواتي المتمثل في تدني شعبية الحكومة الديمقراطية وغفلتها عن حماية نفسها. أما طول بقاء الحكومات العسكرية فلا يعتمد على رضا الجماهير عنها بقدر ما يعتمد على مدى طاعة القوات النظامية في الأمن والشرطة والجيش لها، واستعدادها لإحباط أية محاولة عسكرية أو مدنية ضدها، وكسب قدر من التأييد السياسي في أوساط بعض القطاعات الشعبية مثل رجال الإدارة الأهلية ورجال الأعمال وشيوخ الطرق الصوفية مما يضفي عليها قدراً من المسحة الجماهيرية التي تدعيها، وتحسين علاقاتها مع بعض القوى الإقليمية والدولية لتكسب تأييدها، وتستعين بها في معالجة مشاكلها الاقتصادية والأمنية وتدفع عنها ما تتعرض له من هجوم من الدول الغربية والمنظمات الحقوقية.

ما هي المشكلات الموضوعية التي تسببت في ضعف النظام الديمقراطي وسقوطه مرة بعد أخرى؟

    طبيعة تكوين السودان باتساعه الجغرافي (مليون ميل مربع قبل انفصال الجنوب) مع ضعف وسائل الاتصال والمواصلات ووعورة الطرق بين أقاليمه المترامية، وحدوده المصطنعة المتداخلة سكانياً مع الجيران، وحداثة جمع كيانه الوطني في بلد واحد على يد الاستعمار التركي(1821م) أولاً ثم البريطاني (1898م) ثانياً بعد أن كان ممالك متفرقة لقرون عديدة، وتنوعه العرقي والديني والثقافي في أقاليم متباعدة ذات مستويات اجتماعية وثقافية متباينة. أدى كل ذلك لصعوبة حكمه مركزياًمن عاصمة البلاد أو أن ينفرد بحكمه حزب واحد أو اثنان ولو نالا أغلبية برلمانية كبيرة. وأدى التنوع العرقي والثقافي إلى تمرد وصراعات ونزاعات مسلحة في جنوب السودان (1955) وجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وشرق السودان، وهي كلها مناطق متخلفة لم تجد حظاً مناسباً في اقتسام الثروة والسلطة. وكانت مشكلة الجنوب هي أكبر مهدد للديمقراطية والاستقرار السياسي في البلاد مما شجع العسكر لاستلام السلطة بدعوى دحر التمرد وإنقاذ البلاد.
    عدم توفر الشروط والظروف الاجتماعية والثقافية التي يتطلبها نجاح النظام الديمقراطي في السودان بالدرجة الكافية: الوضع الاقتصادي المناسب الذي يمكن الدولة من الوفاء بالتزامتها المالية الأساسية تجاه نفقات وتكلفة أجهزة الدولة المختلفة،وتقديم الخدمات الضرورية للمواطنين (الصحة والتعليم والماء والغذاء)، وتحقيق قدر معقول من المشروعات التنموية والاستثمارية الذي يؤدي إلى نمو اقتصادي بدرجة مرضية؛ وحجم مقدر للطبقة الوسطى من مهنيين ومنتجين ومثقفين وعمالة ماهرة لها مصلحة وارتباط باستمرار النظام الديمقراطي؛ وانسجام عام في التكوين الاجتماعي للأمة يجعل أهدافها القومية متقاربة؛ أحزاب سياسية ناضجة ترتبط وتمثل قطاعات وفئات اجتماعية بعينها؛ وانتشار وقبول في أوساط المجتمع للسلوك الديمقراطي ولاحترام السلطة والالتزام بحكم القانون؛وتوفر قدر من الوعي السياسي يمكن الناخب من تحديد خياره الانتخابي على أساس برنامج للحزب قابل للتنفيذ لا على أساس العرق أو الطائفة أو العلاقات الاجتماعية أو المنفعة الذاتية. ومعظم هذه الشروط غير متوفرة في المجتمع السوداني.
    طبيعة تكوين الأحزاب السودانية وثقافتها السياسية جعلتها ضعيفة الالتزام بالنهج الديمقراطي داخل أجهزتها الحزبية، وفي قناعتها بحرية النشاط السياسي للأحزاب المنافسة لها، وبقبولها التداول السلمي للسلطة حسب الفترات الانتخابية التي يحددها الدستور، وبشكها وعدم ثقتها في التزام القوى الأخرى بأسس وقواعد النظام الديمقراطي. فالأحزاب التقليدية الكبيرة (الأمة والاتحادي الديمقراطي) التي حكمت البلاد طيلة الفترات الديمقراطية الثلاث تنحصر بصورة غالبة في شمال السودان المسلم وهي ذات قواعد طائفية دينية تتبع توجيهات مرشدها الديني دون أن تطالبه بحقوق ديمقراطية؛ وأحزاب جنوب السودان ذات طبيعة قبلية تحالفية تخضع لرغبات السلاطين والزعماء القبليين وطموحات قياداتها المتعلمة من أبناء القبيلة وهي تحالفات قصيرة العمر في معظم الأحوال؛ والأحزاب المنافسة للأحزاب التقليدية في الشمال وتحوز على تأييد النخب المتعلمة هي أحزاب عقائدية في المقام الأول (إسلامية أو يسارية) تؤمن بأيدلوجيتها الفكرية وتتعصب لها أكثر مما تؤمن بالنظام الديمقراطي وتلتزم به، وقد كانت تقف من وراء دعم الانقلاب العسكري الثاني والثالث. فأنّى لأحزاب بهذه الطبيعة والتكوين أن تكون سنداً لاستقرار النظام الديمقراطي وديمومته في بلد متخلف من بلدان العالم الثالث.

ومن نماذج الممارسات غير الديمقراطية في سلوك الأحزاب السودانية منذ الاستقلال: اتفاق زعيمي الختمية والأنصار في عام 1956 على إسقاط حكومة الأزهري بعد شهور من إعلان استقلال البلاد، وقد كان حزب الأزهري (الوطني الاتحادي) هو الوحيد الذي فاز بأغلبية برلمانية في أول انتخابات في البلاد ولم يتكرر ذلك في كل الانتخابات الديمقراطية التالية؛ تسليم رئيس وزراء حزب الأمة السلطة لقيادة الجيش في نوفمبر 1958 تفاديا لسحب الثقة منه في تحالف برلماني جديد؛ تحالف أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق على تعديل الدستور وإسقاط عضوية نواب الحزب الشيوعي من البرلمان في عام 1965؛ رفض الحكومة تنفيذ حكم المحكمة العليا التي قضت ببطلان إسقاط عضوية الشيوعيين؛ تغيير الحزب الاتحادي لتحالفه مع حزب الأمة في 1967 للجناح المنشق من ذلك الحزب ثم العودة مرة أخرى للجناح الآخر وحل البرلمان بصورة غير دستورية لإجراء انتخابات جديدة تقوي موقف الحزب الاتحادي وتضعف موقف حزب الأمة المنشق؛ بروز ظاهرة انشقاقات الأحزاب وشراء النواب لتأييد هذه الحكومة أو تلك؛ دعم الأحزاب اليسارية (الناصري والبعثي والشيوعي) لإنقلاب نميري في 1969؛ الإنقلاب العسكري للحزب الشيوعي على نظام نميري في يوليو 1971؛ تأييد الأحزاب الجنوبية لنظام نميري بعد اتفاقية أديس أببا في 1972 والتي منحتهم حكماً ذاتياً في الجنوب وقدراً من حرية العمل السياسي والانتخابي؛ محاولات الجبهة الوطنية (أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق) الإنقلاب المسلح على نميري في 1975 وفي 1976؛ مصالحة حزبي الأمة وجبهة الميثاق لنظام نميري في 1977 دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في شمولية النظام العسكري؛ تكتل الأحزاب في انتخابات 1986 ضد مرشح الجبهة الإسلامية القومية (د. حسن الترابي) في دائرة الصحافة مما أدى إلى سقوطه؛إنقلاب الجبهة الإسلامية القومية على الديمقراطية الثالثة في يونيو 1989؛ محاولة حزب البعث العربي الإنقلاب على نظام الإنقاذ في 1991؛ تعاطي الأحزاب السياسية مع نظام الانقاذ بدرجات متفاوتة خاصة بعد اتفاقية السلام الشامل في 2005 والتي سمحت بقدر لا بأس به من التعددية الحزبية والحرية السياسية رغم بقاء السيطرة التامة للحزب الحاكم في شمال البلاد.

    ولعب العامل الخارجي الإقليمي والدولي دوره في تشجيع ودعم الإنقلابات العسكرية والنزاعات المسلحة، كان على رأس تلك الدول مصر في عهد عبد الناصر وليبيا في عهد القذافي والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، كل منها دعم الحكم العسكري المتعاطف معه كما دعم المعارضة العسكرية ضد النظام الذي لا يواليه.

تدل كل هذه الممارسات الحزبية القصيرة النظر على ضعف التزام الأحزاب السياسية بالنهج الديمقراطي السليم، وبقلة صبرها على مفارقة كراسي الحكم ولو أدى ذلك لذهاب النظام الديمقراطي نفسه، واستعدادها للتعاطي مع الأنظمة العسكرية لو منحتها قدراً من المشاركة في الحكم. كثير من هذه المشكلات والسلوكيات لن تزول من المجتمع السوداني في المدى القريب أو المتوسط، ولذا لا ينبغي انتظار زوال هذه المشكلات بصورة تامة حتى يمارس السودان نظاماً ديمقراطياً تعددياً يقوم على التفويض الانتخابي الحر ويراعي كل حقوق الإنسان والمرأة والأقليات. فالبديل للديمقراطية هو الحكم العسكري أو الشمولي الذي يزيد من تلك المشكلات بدلاً من حلها أو تخفيفها. ما هي إذن الوسيلة الناجعة لممارسة الديمقراطية التعددية الانتخابية التي يمكن أن تتعايش وتتعاطى مع مشكلات المجتمع السوداني المذكورة آنفا،ً دون أن يقود ذلك إلى صراع أو استقطاب سياسي حاد لا تحتمله الأجهزة الدستورية والقانونية الهشة فيودي ذلك بالنظام الديمقراطي كلية كما حدث في فترات الديمقراطية الثلاث.

تدعو  هذه الورقة إلى تبني نظام الديمقراطية التوافقية على المدى المتوسط في السودان (ما بين عشرين إلى ثلاثين سنة) حتى نضمن استمرار الديمقراطية واستقرارها لمدة مناسبة يعتاد فيها الناس على قبول التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وعلى المنافسة السياسية المقننة دون تطرف، وعلى ترسيخ السلوك الديمقراطي ونشر الثقافة الديمقراطية بين قطاعات المجتمع المختلفة خاصة الطبقة الوسطى تتمسك بالديمقراطية أكثر من غيرها. ونحسب أن مثل هذه التجربة إذا تم الأخذ بها في جدية وصدق تعمل تدريجياً على حلحلة المشكلات التي ساهمت في ضياع النظام الديمقراطي لسنوات طويلة منذ الاستقلال، وتمهد الطريق لتأسيس ديمقراطية ناضجة في المستقبل.

ما هي الديمقراطية التوافقية؟

ظهر مفهوم الديمقراطية التوافقية  Consociational Democracy) ) في عقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عقب الحرب العالمية الثانية لتجيب على سؤال محوري: كيف نجعل النظام السياسي ديمقراطياً ومستقراً خاصة في المجتمعات التي تحفل بالصراعات على أسس عرقية وثقافية ودينية؟ وهي مفهوم جديد يطرح بديلاً للديمقراطية التقليدية التنافسية التي راجت في الدول الغربية حيث المجتمعات متجانسة سكانياً ومتطورة اقتصادياً. بل هناك شكوى حتى في الدول الغربية من احتكار السلطة بين الأحزاب الكبيرة (محافظين وعمال في بريطانيا، جمهوريين وديمقراطيين في أمريكا، اشتراكيين ومحافظين في ألمانيا وفرنسا وايطاليا) وهي أحزاب تمتلك المال الوفير الذي يمكنها من تمويل الحملة الانتخابية المكلفة، والتنظيم القوي المنتشر في أنحاء البلاد، والآليات الانتخابية المحترفة. وكان أكثر من كتب وروّج لهذا المفهوم هو بروفيسر آرند لايبهارت ( Arend Lijphart) أستاذ العلوم السياسية الممتاز ( Professor Emeritus) بجامعة كلفورنيا، ورئيس الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية (1995-96) والذي استقى أفكاره الأولى عن الموضوع من أطروحته عن النظام السياسي في هولندا التي تطبق قدراً من الديمقراطية التوافقية. وكان من أوائل كتبه في هذا المجال: سياسة الاحتواء 1968؛ الديمقراطية التوافقية 1969؛ الديمقراطية في المجتمعات المتنوعة 1977.

(The Politics of Accommodation; Consociational Democracy; Democracy in Plural Societies)

وقد نال لايبهارت جائزة جوهان اسكايت (Johan Skytte) المتميزة في العلوم السياسية عام 1997م، وبجانب مصطلح التوافقية (consociational) استعمل لايبهارت مصطلح “الديمقراطية الإجماعية” (Consensus Democracy) بصورة مرادفة للتوافقية، ويبدو لي أنه أخذ كلمة “الإجماع” من المبدأ المشهور في الفقه الإسلامي فالكلمة الانجليزية المرادفة لا تستعمل في مجال السياسة التي تقوم على الصراع والتنافس في العرف الغربي أكثر منها على الاتفاق والإجماع. وقد نظّمت الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية بالتعاون مع معهد الدراسات الإنمائية بجامعة نيروبي في يوليو 2011م مؤتمرا كبيراً عن: الديمقراطية التوافقية في إفريقيا، دام لمدة أسبوعين وحضره أكثر من مائة أستاذ وخبير في العلوم السياسية من شتى أنحاء العالم، وقدمت فيه عشرون ورقة بحثية استفاد كاتب هذه الورقة من بعضها. وكان القصد من ذلك المؤتمر الكبير هو الترويج للديمقراطية التوافقية على أساس أنها الأنسب للدول الإفريقية المنقسمة عرقيا وثقافيا ودينيا؛ وكان السودان أحد الأمثلة التي دار نقاش حول تجربتها المرة،وقد شارك الدكتور عبده مختار من جامعة أمدرمان الإسلامية في ذلك المؤتمر وكتب عنه ورقة هي إحدى مصادر هذا المقال. تهدف الديمقراطية التوافقية إلى احتواء النزاعات والاحتكاكات السياسية بين المجموعات المتعددة والمنقسمة في داخل الوطن الواحد،عن طريق آليات ومؤسسات تؤدي إلى المشاركة في السلطة بين النخب التي تمثل تلك المجموعات بقصد استدامة الديمقراطية في ذلك البلد. فالانقسامات السياسية الحادة تشكل أكبر عقبة لتحقيق الديمقراطية واستقرارها لأنه من الطبيعي أن تعمل الأقليات المحرومة على تخريب الديمقراطية التي لا تجد منها شيئاً؛ وبدون احتواء الأقليات واستيعابها لا أمل في نظام ديمقراطي مستقر في مجتمعات تعددية منقسمة فيما بينها.

وتستند الديمقراطية التوافقية على أربع ركائز رئيسة هي: تحالف حكومي عريض تمثل فيه كل المجموعات السياسية ذات الوزن المقدر في البرلمان؛ تمثيل نسبي واسع يستوعب مختلف المجموعات السياسية والاجتماعية عند توزيع مقاعد البرلمان ومناصب الخدمة المدنية؛ الاستقلال المناطقي عبر نظام فيدرالي أونحوه؛ حق النقض للأقليات في القرارات الإدارية والسياسية الكبيرة التي تهمها. وهذا يعني أن الديمقراطية التنافسية التي تؤدي إلى أغلبية حزب واحد أو اثنين يتولى/ يتوليان السلطة لتنفيذ برنامجه/برنامجهما الانتخابي غير وارد في الديمقراطية التوافقية، لأن ذلكمما يكرس حكم الأغلبية وينفي وجود الأقليات الأخرى ولو كانت ذات حجم مقدر في الكثافة السكانية. ويزداد الخطر على النظام الديمقراطي في أعقاب النزاعات المسلحة الأهلية التي يتطلب تجاوزها بناء مؤسسات سياسية توافقية تحول دون العودة للحرب. ويقول لايبهارت إن النتيجة الأساسية التي خرج بها من تحليل المؤسسات السياسية في 118 بلداً بين عامي 1985 و 2002 أن نظام التمثيل النسبي والاستقلال المناطقي (اللامركزية) كان لهما الأثر الأكبر في استدامة السلام في أعقاب النزاعات المسلحة بتلك البلدان. والديمقراطية التوافقية معمول بها في عدد من البلاد بدرجات متفاوتة وأحيانا في بعض أجزاء  البلاد مثل: كندا، هولاندا، سويسرا، السويد، لبنان، اسرائيل، النمسا، بلجيكا. وكما هو معلوم فإن لبنان هو أكثر البلاد العربية ديمقراطية رغم أن مؤسساته السياسية والإدارية والنظامية تقوم على محاصصة طائفية دينية لكنها مع ذلك استمرت منذ الاستقلال إلى اليوم لقبول المجتمع لتلك المعادلة السياسية. وقد نجح السودان في وقف الحرب الأهلية في الجنوب مرتين عن طريق اتفاقية أديس أببا في 1972م واتفاقية السلام الشامل في 2005م، ومنحت الاتفاقيتان الجنوب حكماً ذاتياً واسعاً (أقرب للاستقلال في الاتفاقية الثانية) ومشاركة مقدرة في السلطة المركزية. ولكن النظام العسكري ارتد عن اتفاقية أديس أببا مما أعاد الحرب الأهلية مرة ثانية، وارتدت حكومة الإنقاذ عن منهج الاحتواء السياسي الذي بدأته مع الحركة الشعبية لتحرير السودان مما أضرم الصراع المسلح مرة ثانية في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور.

وأحسب أن الديمقراطية التوافقية تنسجم مع تعاليم الإسلام الذي يجعل الإجماع المصدر الثالث للتشريع بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويدعو للشورى الملزمة في الشأن العام، ويؤسس شرعية الحكم على البيعة التعاقدية بين الحاكم والمحكومين، ويعرّض الحكام للمحاسبة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويساوي بين الناس أمام القاضي المستقل، ويأمر بإنصاف وإحسان معاملة المستضعفين من الناس  مثل الرقيق والموالي والخدم والمرأة والأقليات الدينية (قصة الخليفة عمر بن الخطاب مع القبطي المصري الذي تظلم له من ولد عمرو بن العاص)، ويخصص الإسلام نصيباً من الزكاة لتوليف قلوب المستجدين في الإسلام ويجوزها بعض الفقهاء لغير المسلمين.ويعطي الفقهاء اعتباراً للرأي الغالب بين الناس فيقولون: هذا ما يراه جمهور الفقهاء، وهذا ما عليه سواد الناس، وهذا حديث متواتر، وهذا حديث متفق عليه مما يعني تغليب الاتفاق الواسع على رأي الفرد أو القلة من الناس. وتشهد “صحيفة المدينة” التي كتبها الرسول (ص) في أول سنة له في يثرببسعيه الجاد للتوفيق بين كل سكان المدينة من أنصار ومهاجرين ويهود ومشركين ومنافقين وذلك على أساس المساواة التامة بينهم في الحقوق والواجبات.وقد كان الهدف الرئيس من وراء تلك الاتفاقية هو استتباب السلام في المدينة حتى يتفرغ المسلمون للدعوة الدينية وللدفاع عن المدينة في مواجهة قريش التي تتربص بهم.

لماذا الديمقراطية التوافقية في السودان

نحسب أن الديمقراطية التوافقية بالمعنى المذكور سابقا تناسب المجتمع السودان بتعدديته العرقية والثقافية والدينية وتجربته الطويلة في النزاعات بين هذه المجموعات، كما أنه فشل في المحافظة  على الديمقراطية التقليدية التنافسية لمعظم سنوات ما بعد الاستقلال. وفيما يلي نذكر الأسباب التي تدعونا للأخذ بالديمقراطية التوافقية وإلى أي حدٍ يمكن أن تستجيب لواقع المجتمع السوداني ومشكلاته التي أعاقت مسيرته في التطور الديمقراطي.

    أول هذه الأسباب هو ضعف الإلتزام بمطلوبات التداول السلمي للسلطة والخوف الشديد من إنفراد حزب بتلك السلطة وتجييرها لمصلحته أو محاولة المحافظة عليها بكل السبل المشروعة وغير المشروعة. يتضح ذلك في المحاصصة الحزبية الحادة حول توزيع المقاعد الوزارية بين أحزاب الائتلاف الحكومي التي تستمر لعدة أشهر قبل أن تفضي إلى تسوية ما قد لا تكون مرضية لكل الأطراف، في حين لا تهتم هذه الأحزاب بالاتفاق على برنامج محدد للحكم تقوم بتنفيذه في الفترة المتاحة لها. كما تبرز في التهجم والنقد الشرس من أحزاب المعارضة ضد الحكومة في كافة أعمالها المخطئة والمصيبة، وكأنها تعمل بالمثل السوداني الدارج (يا فيها يا أطفيها) ! فإذا كانت كل الأحزاب الفاعلة التي نالت قدراً من التمثيل النيابي مشاركة في الحكومة بنسبة تساوي حجمها فإن ذلك كفيل بتبديد مخاوفها من انفراد حزب بالسلطة وبتعاونها مع الحكومة لتحقيق البرنامج المتفق عليه.
    وبما أن الديمقراطية التوافقية المقترحة تحول دون سيطرة حزب على الحكومة وتسمح في ذات الوقت بالمشاركة فيها لكل الأحزاب الممثلة في البرلمان، فإن تغيير الحكومة بعد انتخابات جديدة لا يقلب معادلة السلطة رأساً على عقب بل يجعل تداولها أمراً روتينياً لا يحدث تغييراً كبيراً في تشكيلة الحكومة أوسياساتها؛ وعليه فلا ينبغي لحزب فاعل أن يخشى من التداول السلمي للسلطة لأنه لا يعني إبعاده كلياً من السلطة. ولن يصبح خوض الانتخابات الراتبة معركة حياة أو موت للأحزاب تستعمل فيها الأساليب الفاسدة وتصرف عليها الأموال الطائلة، وتجرّح فيها الزعامات السياسية المنافسة وتنتقد الحكومة السابقة بالحق والباطل، وتبذل فيها الوعود الخلب التي لا يسمح واقع البلاد الاقتصادي بتنفيذها. وسيكون لبرامج الأحزاب أثر أكثر على الناخبين لأنها مجتمعة ستشكل جزءاً من البرنامج التنفيذي المتفق عليه بين القوى المشاركة في الحكومة، وسيضعف ذلك تدريجياً النعرات الطائفية والعرقية والعوامل الشخصية في التصويت لهذا المرشح أو ذاك.
    وستسهم الديمقراطية التوافقية في بناء التيار الوسطي الغالب لأهل السودان عبر البرنامج المشترك للحكومة، وتقارب بين الاتجاهات السياسية والفكرية مما سيدعم الشعور بالهوية القومية والذي بدوره يعمل،مع مرور الزمن،على تأسيس قومية سودانية موحدة بين سكان الأقاليم من مختلف العرقيات والطوائف.
    وستتيح الديمقراطية التوافقية الفرصة لإضعاف الشعور بالتهميش في بعض المناطق الجغرافية أو بين بعض شرائح المجتمع أو فئاته المهنية لأنها ستكون جميعاً ممثلة في السلطة التشريعية وربما التنفيذية، ويصعب على الحكومة تجاوزها مهما قل وزنها العددي. وليس هناك من سبب يدعو أبناء بعض المناطق لحمل السلاح ضد الحكومة المركزية إذا ما تحققت لهم المشاركة في السلطة والثروة. ولن تكون الانقلابات العسكرية جاذبة لبعض القوى السياسية حتى تتآمر مع الإنقلابيين على حساب الحكومة المنتخبة؛ وبدون توفير دعم سياسي واضح من بعض القوى السياسية لا يجرؤ الإنقلابيون على محاولة الإطاحة بالسلطة القائمة خاصة في المناخ الدولي الجديد.
    وستؤدي كل تلك العوامل إلى خلق مناخ سياسي معتدل تشارك فيه كل القوى السياسية الفاعلة في بناء الدولة، مما يسهم في تحقيق الاستقرار السياسي الذي افتقده السودان طويلاً منذ الاستقلال. وهذا هو الشرط الأساس لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد.

التدابير القانونية لتطبيق الديمقراطية التوافقية

نعني بذلك التعديلات الدستورية والقانونية التي ينبغي أن يؤخذ بها حتى تضمن المشاركة المجتمعية الواسعة في شؤون الحكم والإدارة من خلال هيكل ومستويات الحكم، وتحديداً السلطة التشريعية،والتنفيذية،والقضائية، والخدمة العامة، والقوات النظامية.

    1.    هيكل الحكم:اتفقت القوى السياسية في السودان على تبني النظام الفيدرالي بعد تجربة مشكلة الجنوب المريرة، وبما أن بعض مناطق السودان الشمالي المتخلفة قد حملت السلاح من أجل أخذ نصيبها المستحق في السلطة والثروة فإن استمرار النظام الفيدرالي يصبح أمراً ضرورياً لاستقرار الحكم. ولكن تقسيم البلاد إلى سبع عشرة ولاية أساساً للحكم الفيدرالي برهن على ضعف كبير لأن معظم تلك الولايات لا تملك موارد مالية كافية لتسيير أجهزة الحكم ولا كوادر بشرية متخصصة في المجالات الإدارية والمهنية، كما أنها فتحت المجال للتطلعات القبلية والعرقية كل منها يريد ولاية أو محلية خاصة بهمما يستنزف الموارد المالية المحدودة على مخصصات الدستوريين في البرلمان والحكومة. والأنسب لحال السودان أن يؤسس نظامه اللامركزي على الأقاليم القديمة (دارفور، كردفان، الاقليم الأوسط، الشمالية، الاقليم الشرقي، الخرطوم) التي أثبتت جدواها الإدارية والاقتصادية في الماضي،بل وتتسم بتقارب شخصيتها الثقافية والاجتماعية مما يؤهلها أساساً لوحدات فيدرالية فاعلة. وينبغي زيادة الصلاحيات الدستورية للإقليم أكثر مما هي عليه في دستور 2005م حتى تعنى حكومته بكافة شؤونه الإدارية والخدمية والتنموية. ولا معنى في ظل نظام فيدرالي حقيقي أن تقوم في المركز وزارات خدمية للصحة والتعليم والإعلام والثقافة والشؤون الاجتماعية وغيرها. كما لا بد من فيدرالية مالية واضحة المعالم تقتسم موارد البلاد على أسس عادلة ومعايير منضبطة تنحاز إيجابياً لمصلحة المناطق المتخلفة وتجاز بقانون من كلا المجلسين (النواب والأقاليم)، وتشرف على تنفيذ تلك المعايير مفوضية قومية يتوافق على تكوينها ولوائحها ممثلو الأقاليم في مجلس الأقاليم. ويلي المستوى الاتحادي والإقليمي الحكم المحلي الذي ينبغي أن يعطى اهتماما أكبر وبصلاحيات محددة وموارد مالية تأتيه بصورة ثابتة مقننة من المركز أو من حكومة الإقليم. إن إصلاح النظام الفيدرالي هو أساس الحكم الراشد الذي يعمل على تنمية المناطق المتخلفة ويقدم الخدمات الاجتماعية الضرورية حتى يحول دون الهجرة العشوائية للمدن وهجر الزراعة والرعي في المناطق الريفية.
    2.    السلطة التشريعية:تقترح الورقة مجلسين تشريعيين في المركز، أحدهما مجلس للنواب ينتخب من كل البلاد ومجلس للأقاليم تختار عضويته بواسطة المجالس التشريعية في الأقاليم (يمكن أن يكون لكل اقليم خمسة ممثلين يراعى في اختيارهم مناطق الإقليم المختلفة والتعددية السياسية الموجودة داخل المجلس التشريعي). وأن يعطى مجلس الأقاليم صلاحيات حقيقية ورقابية في حماية حقوق الإقليم الدستورية والاقتصادية، وله أن يستجوب الوزراء المعنيين في المركز حول تلك الحقوق.

وينبغي تعديل النظام الانتخابي لمجلس النواب حتى يعكس بصدق التعددية السياسية التي تذخر بها الأقاليم،ويعطى كل إقليم مقاعد حسب تعداده السكاني. وينبغي أن تجرى الانتخابات على أساس التمثيل النسبي الغالب حتى تتاح الفرصة لمعظم القوى السياسية والاجتماعية أن تجد تمثيلاً في البرلمان الاتحادي،وأن تخصص نسبة 80% من المقاعد على أساس التمثيل النسبي للأحزاب ولأية مجموعات تتفق على تقديم قائمة موحدة، وتترك ال 20% الباقية للمقاعد الجغرافية الفردية. ولا يحدد سقف لتأهيل القائمة بل يكون الفوز حسب قوة المقعد التي تحددها قسمة الناخبين على عدد المقاعد المخصصة للإقليم لأن الهدف هو تمثيل أكبر قدر من الكتل السياسية داخل الإقليم؛ وقد هزمت نسبة السقف التأهيلي في انتخابات 2010م مضمون فكرة التمثيل النسبي وحرمت كثيراً من القوائم الحزبية والنسوية أن تجد تمثيلاً في البرلمان. ولا بأس أن تحظى المرأة بنسبة 25% من مقاعد البرلمان، لكن من الأفضل أن يكون ذلك في قائمة واحدة مع الرجال ترتب بصورة تضمن النسبة المطلوبة للمرأة. وينبغي فتح المجال أيضاً لتمثيل القطاعات المنتجة الرئيسة في البلاد مثل الزراع والعمال والرعاة وأصحاب العمل بجانب الاتحادات المهنية الكبيرة المنتشرة في أنحاء القطر مثل المعلمين والمحامين والزراعيين والأطباء وأساتذة الجامعات والبياطرة وغيرهم، وأن تقوم لجانهم المركزية أو مجالسهم العمومية بانتخاب مندوبيها.

وأن يراعى في اختيار أعضاء مفوضية الانتخابات القومية التمثيل الإقليمي بجانب الكفاءة والحيدة والنزاهة، على أن تعتمدها الهيئة التشريعية القومية (مجلس النواب ومجلس الأقاليم)بنسبة الثلثين.وينبغي تحديد نسبة عالية من التصويت تصل إلى أغلبية الثلثين لإجازة القوانين الهامة التي تتصل بحقوق الإنسان،وحقوق الأقاليم الاقتصادية والخدمية، والموازنة السنوية، والقوانين الجنائية ومثلها. ويكون من حق الإقليم الاعتراض على القوانين والسياسات التي يتضرر منها، وإذا أيد الاعتراض أغلبية نواب الإقليم في البرلمان الاتحادي والمجلس التشريعي فينبغي إعادة النظر في ذلك القانون أو السياسة المعنية حتى يعدل بصورة يرضى عنها الإقليم. وينبغي مراعاة التمثيل الإقليمي والسياسي  في تقسيم المناصب القيادية في البرلمان والمجالس التشريعية.

ويكون انتخاب السلطة التشريعية الإقليمية على غرار المركز، أي 80% للقوائم النسبية و 20% للدوائر الجغرافية الفردية والحفاظ على نسبة 25% للنساء، وليس من الضروري تمثيل القطاعات الإنتاجية أو الاتحادات المهنية في عضوية المجلس التشريعي الإقليمي. ومن المناسب أن تكون مقاعد المجلس التشريعي بين ال 40 إلى 60 مقعداً حسب مساحة الإقليم وتعداد سكانه، حتى لا تستهلك موارد الإقليم المالية على مخصصات عدد كبير من الدستوريين. وينبغي تحديد نسبة عالية في إجازة بعض القرارات الهامة التي تؤثر على حياة المواطنين في كل مناطق الإقليم؛ ويراعى أيضاً في تقسيم المناصب القيادية بالمجلس التشريعي التمثيل السياسي والمناطقي داخل الإقليم.

    3.    السلطة التنفيذية: تكون القيادة التنفيذية العليا على أساس النظام المختلط بأن يكون هناك رئيس جمهورية يجئ بانتخابات على مستوى الجمهورية بنسبة تزيد على ال 50% من أصوات المقترعين كما ينبغي أن يحصل على أعلى الأصوات في ثلاثة أقاليم على الأقل، وأن يترشح معه في ذات التذكرة الانتخابية نائب للرئيس يكون من إقليم مختلف عن إقليم الرئيس. ويكون للرئيس 6 مساعدين يمثلون أقاليم السودانويقوم المجلس التشريعي لكل إقليم بترشيح ثلاثة أعضاء يختار الرئيس أحدهم ليعينه مساعداً له، ويشكل الرئيس ونائبه ومساعدوه مؤسسة الرئاسة التي ينبغي أن تناقش وتعتمد القرارات الهامة ومشروعات القوانين التي تؤثر على حياة المواطنين في كل البلاد، ولا بد من موافقة مساعد الرئيس للإقليم في المسائل التي تخص ذلك الإقليم. وينبغي أن تجيز مؤسسة الرئاسة ترشيحات عضوية اللجان والمفوضيات القومية مثل مفوضية الانتخابات، والأراضي، وحقوق الإنسان، واللجنة العليا للخدمة المدنية، والمحكمة الدستورية، ومجلس شؤون الأحزاب وغيرها قبل أن تقدم للبرلمان لإجازتها، وكذلك تكوين لجان التحقيق التي تنظر في المسائل القومية والجنائية الكبيرة والتعدي على حقوق الإنسان والأقاليم مثل قتل المتظاهرين وضحايا الصراع القبلي والفساد على مستوى الدستوريين والنزاع بين أجهزة الدولة.

وأن يكون هناك رئيسًا للوزراء ينتخبه البرلمان بأغلبية الثلثين، ويفضل أن يكون من غير حزب الرئيس. وأن تمثل في مجلس الوزراء كل الكتل البرلمانية التي حصلت على خمسة مقاعد أو أكثر، ولا تحصل أكبر الكتل البرلمانية على أكثر من ثلث الحقائب الوزارية. وتقوم الكتلة البرلمانية بترشيح شخصين أو أكثر لكل حقيبة وزارية تستحقها ليختار رئيس الوزراء أحد المرشحين للوزارة المعنية. وينبغي للكتل أن تراعي تمثيل المرأة والأقاليم مع توفر الكفاءة في ترشيحاتها وعلى رئيس الوزراء أن يراعي ذلك أيضاً عند التعيين. ويضع البرلمان لائحة مفصلة لتوزيع الحقائب الوزارية على حسب عدد الكتل المؤهلة وتعداد نوابها ونوعية الوزارات التي تستحقها كل كتلة حسب قوة تمثيلها البرلماني، ولا بد من التوازن في توزيع حقائب الوزارات الهامة حتى لا تذهب لكتلة واحدة أو اثنين مع المرونة الكافية لتقديم صاحب الكفاءة على غيره في مجال معين. وفي النهاية لا بد للبرلمان أن يجيز تشكيل الوزارة بأغلبية الثلثين. ولمنع التصادم والاحتكاكات يجب أن ينصّ الدستور بصورة واضحة على اختصاصات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ويفضل أن يختص رئيس الجمهورية بشؤون الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية وحماية حقوق الأقاليم ويترك ما سوى ذلك لمجلس الوزراء.

وبالنسبة للسلطة التنفيذية بالإقليم ينبغي التمسك بانتخاب الوالي/حاكم الإقليم من كل الناخبين المسجلين في الإقليم على أن يحصل على أكثر من 50% من أصوات المقترعين، وأن يشكل حكومته الصغيرة (5 إلى 8 وزراء) مثل ما يحدث في مجلس الوزراء الاتحادي وذلك بتمثيل الكتل السياسية والمناطقية الفائزة في المجلس التشريعي. يمارس الوالي صلاحياته التنفيذية وفقاً لما يليه في جداول الاختصاصات المنصوص عليها في الدستور؛ والتي ينبغي أن تزيد عمّا كانت عليه في دستور 2005م كما أشرنا سابقاً.

    4.    السلطة القضائية: ينبغي الحرص التام على فصل السلطة القضائية من السلطة التنفيذية والتشريعية كما تعمل بذلك كل الأنظمة الديمقراطية، وهذا يعني الاستقلال المهني والإداري والمالي؛وأن لا تكون الأحكام القضائية خاضعة لأي تأثيرات خارجية؛ وأن تكون تعيينات وترقيات وتنقلات ومحاسبة القضاة شأناً داخلياً بحتاً تختص به السلطة القضائية. وأن تكون موازنة القضاء بعد إجازتها من الجهاز التشريعي كاملة تحت تصرف الجهاز القضائي ولا يعني ذلك استثناء حساباتها من المراجعة القانونية المعتادة. يتولى مجلس القضاء العالي الإشراف التام على الجهاز القضائي وكفاءة إدارته والقيام بمسئولياته على أحسن وجه، ويتكون المجلس من رئيس القضاء ونوابه والنائب العام وعدد من وكلاء الوزارات ذات الصلة (العدل والمالية والداخلية) وممثل  للمحكمة الدستورية ورئيس مفوضية حقوق الإنسان وعدد من كبار قضاة المحكمة العليا.ويعين رئيس الجمهورية أعضاء مجلس القضاء العالي  بعد التوافق عليهم في مؤسسة الرئاسة. يعين رئيس الجمهورية رئيس القضاء ونوابه ورؤساء الأجهزة القضائية بالأقاليم وقضاة المحكمة العليا بناء على توصية من مجلس القضاء العالي. ويعين رئيس القضاء، بناء على توصية من رئاسة الهيئة القضائية التي تشكل من رئيس القضاء ونوابه وكل رؤساء الأجهزة القضائية بالأقاليم، كل قضاة السودان؛ وتتولى رئاسة الهيئة القضائية الإشراف على ترقية القضاة للمحكمة العليا وتعيين رؤساء محاكم الاستئناف ومحاسبة أعضاء المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف حسب الإجراءات التي ينص عليها القانون. يكون رئيس القضاء رئيساً لمجلس القضاء العالي والمحكمة العليا ورئاسة الهيئة القضائية. يعين رئيس الجمهورية قضاة المحكمة الدستورية بناء على توصية من مجلس القضاء العالي (المفوضية القومية للخدمة القضائية) وبموافقة ثلثي جميع الممثلين في مجلس الأقاليم، وتختص المحكمة بتفسير الدستور وحمايته والفصل في المنازعات التي يحكمها الدستور ودساتير الأقاليم، وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية كما تنص عليها وثيقة الحقوق في الدستور. وإبعاداً للتأثير السياسي يكون النائب العام مستقلاً عن وزارة العدل، وينتدب للمنصب أحد كبار قضاة المحكمة العليا بترشيح من رئاسة الهيئة القضائية كما كان يحدث سابقاً. ولا بد من مراعاة التمثيل الأقاليمي مع الكفاءة والخبرة في اختيار شاغلي المناصب القيادية في الجهاز القضائي. لقد توسعت الدولة كثيراً في منح الحصانات الإجرائية والموضوعية لكل الدستوريين ومنسوبي القوات النظامية وعدد كبير من الموظفين مما أخل بمبدأ المساواة أمام القانون وأدى إلى الإنفلات من العقاب حتى في جرائم القتل، وهذه سمة غير إسلامية وغير ديمقراطية. وعلى الدولة وهي حارسة القانون أن تصحح هذا الوضع الشاذ والظالم.
    5.    الخدمة المدنية: ينبغي أن تكون الخدمة المدنية الاتحادية مؤسسة قومية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، مفتوحة للتنافس عند التعيين والترقي لكل أبناء الأقاليم وأن يتم الإعلان عن الوظائف والمؤهلات المطلوبة لها وسنوات الخبرة قبل مدة كافية في كل الأقاليم. وأن تكون لجنة الاختيار قومية التشكيل تتسم بالكفاءة والتأهيل والخبرة والمصداقية. وينبغي عند استيفاء المؤهلات الأكاديمية والمهنية المطلوبة لدى المتقدمين أن يراعى تمثيل الأقاليم المختلفة في مرافق وأجهزة الدولة. وأن تكون المناصب القيادية في كل مرفق أو وزارة مفتوحة للتنافس لكل المؤهلين في ذلك المرفق، ويكوّن الوزير أو المسئول المعني لجنة من أهل الخبرة والدراية من داخل وخارج المصلحة المعنية لفرز طلبات المتقدمين وتقديم توصية بالمرشح الفائز للوزير أو الشخص المسئول، ولا يجوز تجاوز الشخص المرشح إلا لأسباب قاهرة تعلن للأشخاص المتنافسين؛ ومن حق المتقدم الذي تم تجاوزه التقدم باستئناف للجهة المعنية. ينبغي أن تكون هناك لائحة مفصلة تحدد معايير الاختيار لقيادات الخدمة المدنية، ويعتبر النشاط السياسي المعلن نقطة سالبة في حق الشخص القيادي بالخدمة المدنية، ولا يجوز التمييز ضد أي مواطن مؤهل على أساس الدين أو العرق أو الاقليم أو النوع.استعادة دور الوكيل أو الأمين العام للوزارة بصفته المسؤول الإداري والمالي الأول ويقتصر دور الوزير على الاشراف والتخطيط ووضع السياسات العامة.

هناك فوارق كبيرة في شروط الخدمة وفي المخصصات والترقيات ومكافآت المعاش بين قطاعات الخدمة (خاصة بين الخدمة المدنية والقوات النظامية) غير مبررة من حيث المؤهلات أو الخبرة أو طبيعة العمل مما خلق ضغائن واحتقانات في جسم الخدمة المدنية. لذا ينبغي وضع هياكل راتبية جديدة لكل قطاعات  الخدمة المدنية تناسب الأوضاع المعيشية في البلاد وتساوي بين العاملين على أساس المؤهلات وسنوات الخدمة وطبيعة العمل وتميز الأداء، وأن يكون المجلس الأعلى للأجور هو الجهة المسئولة عن تقدير مخصصات كل العاملين في الدولة بما في ذلك القوات النظامية؛ولا ينبغي للوزير أن يعطي مخصصات لأحد خارج الهيكل الراتبي إلا بموافقة من مجلس الوزراء. إن هناك الكثير من الأمراض والمعوقات داخل أجهزة الخدمة المدنية أقعدتها عن أداء دورها بالكفاءة المطلوبة وعلى رأسها التدخل السياسي في التعيين والترقي مما يتطلب وضع المعالجات المناسبة لها.تنشأ مفوضية قومية للخدمة المدنية من أشخاص يتميزون بالكفاءة والخبرة والنزاهة، تتولى المفوضية إسداء النصح للحكومة الاتحادية حول وضع وتطبيق السياسات ذات الصلة بالتوظيف والتدريب في الخدمة العامة وبتعويضات العاملين، وبمراعاة العدالة في تمثيل الأقاليم المختلفة في أوساط قيادات الخدمة المدنية؛ ولا بأس من تحديد حصة معينة (كوتة) لبعض الأقاليم ذات التمثيل المتدني في قيادات الخدمة المدنية. يعين رئيس الجمهورية بعد التوافق عليها في مؤسسة الرئاسة المفوضية القومية للخدمة المدنية من شخصيات تميزت بالكفاءة والخبرة والنزاهة والتجرد على أن تعتمد بثلثي الأعضاء من داخل البرلمان. وتختص المفوضية بالنظر والفصل في تظلمات العاملين بالخدمة المدنية، وأن تنشئ لها فروع في أقاليم البلاد وذلك دون المساس بالحق في اللجوء إلى المحاكم.

    6.    القوات النظامية: تتكون القوات النظامية من القوات المسلحة والشرطة (يعمل جهاز الأمن كأحد إدارات الشرطة) وقوات السجون وأي وحدات مسلحة تنشؤها الدولة بقانون يجيزه البرلمان، وهي قوات قومية احترافية وغير حزبية تعمل لحماية سيادة البلاد وتأمين سلامة أراضيها ومواطنيها، وحفظ النظام والقانون، والمشاركة في إعمارها، والمساعدة في درء الكوارث التي تلم بها، ويجوز للسلطة المدنية أن تستعين بها في مهام أخرى يبينها القانون. ويجب على القوات النظامية الدفاع عن النظام الدستوري واحترام سيادة حكم القانون، والامتثال لقرارات السلطة المدنية المنتخبة، والدفاع عن القيم والقواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية وإرادة الشعب المعبر عنها في انتخابات أو استفتاءات عامة.وينبغي المنع البات لتشكيل كيانات عسكرية دون قانون يجيزه البرلمان ودون أن تكون خاضعة تماماً للجيش أو الشرطة. ويحرم على عناصر القوات النظامية الإنتماء للأحزاب السياسية أو القيام بنشاط سياسي حزبي أو تشكيل خلايا داخل القوات النظامية ذات أغراض سياسية. ينبغي تدريب القوات النظامية على معرفة وتطبيق القوانين التي تتصل بتعاملها مع الجمهور حتى تكون نموذجاً لرعاية حقوق وكرامة المواطن، ولا ينبغي أن تسبغ حصانة من أي نوع لمن يعتدي على حقوق المواطن المعنوية أو الجسدية، وللمواطن المعتدى عليه الحق في اللجوء إلى المحاكم المدنية لأخذ حقوقه من أي فرد ينتمي للقوات النظامية. تقتصر خدمة جهاز الأمن الوطني على جمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة المناسبة حول حفظ الأمن للسلطات المعنية، وليس من حقها سلطة الاعتقال أو التحقيق أو الحجر على الحريات الأساسية أو التدخل في الشؤون السياسية أو الاقتصادية، فالتعامل مع الجمهور في كل ما يتصل بالمخالفات أو الجرائم من شأن الشرطة والنيابة العامة والمحاكم المدنية. لذا ينبغي أن يتبع جهاز الأمن لوزارة الداخلية كما كان سابقا قبل مجئ الأنظمة العسكرية الشمولية حتى يكون وزير الداخلية مسؤولاً عن أدائه وانضباطه أمام البرلمان.

وأن تكون القوات النظامية مفتوحة لكل السودانيين بما يعكس تنوع وتعدد المجتمع، وينبغي على قيادات القوات النظامية السعي لتجنيد عناصرها على مستوى الجنود والضباط من كافة أقاليم السودان، وتراعي ذلك في اختيار قياداتها الوسيطة والعليا.

خاتمة: إن مفهوم الديمقراطية التوافقية بهذا المعنى الذي شرحناه له عيوبه في قبض يد الحاكم وتقصير سلطاته مما يؤدي إلى تأخير القرارات حتى تتم إجازتها من المؤسسات المعنية أو التوافق عليها مع القوى السياسية الأخرى، ولكن تجارب السودان أثبتت أن مخاطر تركيز السلطات في يد واحدة واتخاذ القرارات دون تشاور  أو مراجعة مؤسسية أو توافق سياسي أكبر بكثير من تأخير إصدار القرارات بسبب التشاور والتوافق حولها. وكان تركيز السلطات هو سمة الأنظمة العسكرية التي حكمت البلاد لأربعة عقود فما جنينا من تلك السلطات المطلقة سوى القهر والفساد وضعف الأدء الحكومي  وتدهور الإنتاج والخدمات والنزاعات المسلحة وأخيرا تقسيم البلاد؛ وكانت الحصيلة أن السودان ما زال يقف في مؤخرة الأمم سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً. وحتى في التجارب الديمقراطية الليبرالية الناضجة التي تسمح للحزب الفائز في الانتخابات أن ينفرد بإدارة شؤون الحكم لفترة محددة  ينفذ فيها البرنامج الانتخابي الذي وعد به الناخبين، نجد أن هناك ضوابط دستورية وقانونية وسياسية تقوم على فصل السلطات وتوازنها بين مؤسسات الحكم تفادياً للسلطة المطلقة التي في عرفهم تؤدي إلى مفسدة مطلقة. وأثبتت القوى السياسية السودانية أنها لا تصبر على انفراد جهة بالسلطة دون الآخرين ولو لسنوات قليلة حتى يتم التداول السلمي بعد كل انتخابات جديدة. ولذا فإن الديمقراطية التوافقية التي تنزع إلى المشاركة الجماعية في السلطة هي الطريق الوحيد للاستقرار السياسي القائم على التداول السلمي للسلطة ورعاية حقوق الإنسان وتوفير الحريات الأساسية في المرحلة المنظورة من تاريخ السودان. وينبغي الاستفادة من فرصة وضع دستور جديد للبلاد لتبني مفهوم الديمقراطية التوافقية، وأن تتسع المشاركة في صناعة الدستور لكل القوى السياسية والاجتماعية والحركات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة، وأن تكون صناعة الدستور الجديد آلية للمصالحة والتعافي وتحقيق السلام في أنحاء البلاد. وينبغي أن تسهم الديمقراطية التوافقية في تقريب الشقة بين الأغنياء والفقراء، وبين سكان المدن والريف، وبين درجة النمو في كل الأقاليم، وبين قطاعات الانتاج المختلفة (الزراعة والرعي والصناعة والتجارة والخدمات) حتى يجد الكل عائداً مجزياً عن عمله. وأن توفق بين تشجيع الاستثمار وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبين الحقوق والواجبات، وبين سلطة الحكومة الضابطة ودور المنظمات الطوعية في خدمة المجتمع. فالتوافق لا ينبغي أن يكون فقط في تشكيل السلطات التشريعية والتنفيذية والأجهزة الحكومية ولكن ينبغي أن يكون كذلك في السياسات والخطط والقرارات التي تؤثر على حياة الناس المعيشية والاجتماعية والثقافية.

والله الموفق

المراجع

    Helga Malmin: “Consociational Democracy and Postconflict Peace”, The 13th Annual National Political Science Conference, Norway, January 2005.
    Laurent de Briey: “Centripetalism in Consociational Democracy: the Multiple Proportional Vote”, a paper presented in Nairobi Conference on Consociational Democracy in Africa, July 2011.
    The Political Science Reviewer 1983: “The Views of Arend Lijphart and Collected Criticisms”, distributed in Nairobi Conference, July 2011.
    Wikipedia: the Free Encyclopedia.
    ابراهيم محمد حاج موسى: التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان، دار الجيل، بيروت، 1970.
    بيتر ودوارد (ترجمة محمد علي جادين): السودان الدولة المضطربة 1898-1989، مركز محمد عمر بشير، الخرطوم، 2001.
    تيم نبلوك (ترجمة الفاتح التجاني ومحمد علي جادين): السلطة والثروة في السودان منذ الاستقلال وحتى الانتفاضة، مطبعة جامعة الخرطوم، 1990.
    عبده مختار: “تقرير عن مؤتمر الديمقراطية التوافقية في إفريقيا (نيروبي: 23 يوليو – 6 أغسطس 2011)، مجلة إفريقيا المستقبل، العدد الأول، السنة الأولى، يناير 2012، 246-251.
    عبد الوهاب الأفندي: الثورة والإصلاح السياسي في السودان، منتدى ابن رشد، لندن، 1995.
    عطا الحسن البطحاني: أزمة الحكم في السودان، مطبعة جامعة الخرطوم، 2011.
    محمد أحمد محجوب: الديمقراطية في الميزان، طبعة جديدة بمناسبة الخرطوم عاصمة الثقافة العربية، الخرطوم، 2004.
    محمد سليمان محمد: السودان: حرب الموارد والهوية، دار عزة، الخرطوم، 2006.
    وزارة العدل: دستور جمهورية السودان الإنتقالي لسنة 2005
 

 

آراء