(الوطني) و(الشعبية): إلى أين تتجه موازين القوة؟

 


 

 



من واشنطن للخرطوم
عبد الفتاح عرمان
fataharman@yahoo.com

ما من أحد كان يظن أن "الجمهورية الثانية" التي بشّر بها المؤتمر الوطني الشعب السوداني- حتي قبل إنفصال الجنوب بأشهر عديدة- ستخوض حرباً شاملة (Full Scale War) ضد جنوب سياسي جديد بهذه السرعة، وهو جنوب يحمل نفس جينات الجنوب الجغرافي. لكن هناك من حذروا المؤتمر الوطني بأن تركيزه في شجرة واحدة دون رؤيته للغابة التي أمامه ستجعله يقطع الشجرة- الجنوب- لكنه حتماً سيجد أن الغابة بأكملها ما زالت في انتظاره- ما بقي من أشلاء السودان. لكن قادة المؤتمر الوطني وببلادة يُحسدون عليها أصروا على مواصلة المسير بنظرية (دار ابوك لو خربت شيل ليك فيها شلية)؛ وما غاب عنهم هو استحالة عودة عجلة التاريخ إلى الوراء، فلا المؤتمر الوطني هو نفس الحزب الذي أستولي على السلطة في 1989م، ولا الظرف الداخلي هو نفسه حينما كانوا يشترون فيه الولاء والسلاح بإستغلال أموال البترول الذي عاد إلى أصحابه؛ وما عاد العامل الإقليمي يسير في مصلحتهم، حيث سقطت عروش الجبابرة في كل من مصر، ليبيا- جارتي السودان- وبشار الأسد- حليف البشير- في طريقه إلى السقوط. وليس من المتوقع أن يظل السودان جزيرة معزولة في محيط ثوري، وإن تشبث قادته بأستار الكعبة، فلا منجي اليوم غير العدل، فهو أقرب للتقوي، ومنجٍ من الثورة.
على الصعيد الميداني، المؤتمر الوطني متفوق جوياً عبر  طيرانه الحربي الذي لا يميز بين المدنيين العزل ومقاتلي الجيش الشعبي، لكن الغطاء الجوي غير مجدً إذا لم تكن هناك قوات برية فعالة للسيطرة على الأرض. قوات المؤتمر الوطني ومليشياته مهما كانت فعاليتها لا تستطيع هزيمة أهل الأرض والجمهور- بلغة أهل الكورة-، لاسيما أن الحلو وعقار يحاربون في أرض خبروها وخبرتهم لسنين عددا، ويجدون تعاطف كبير من الأرض التي يقاتلون فيها، لانهم ينحدرون من نفس القبائل الأصلية ( Indigenous tribes)، التي ظلت تعاني من تهميش المركز لها؛ بل أن أعدادا مقدرة من أبناء النوبة و النيل الأزرق في القوات المسلحة رفضوا تنفيذ الأوامر بالهجوم على قوات مالك والحلو، الأمر الذي يشل قدرة المؤتمر الوطني العسكرية بالقضاء عليهم.
في المقابل، الجيش الشعبي التابع لعقار والحلو لن يخوض حرباً مفتوحة مع جيش المؤتمر الوطني، وإنما حرب عصابات طويلة المدى، خاصة بان فصل الخريف على الأبواب، مما يعطل حركة أي جيش نظامي، ويساعد الطرف الآخر بالإستمرار في حرب العصابات التي لا تحتاج إلى قوات كبيرة، وإنما لسرايا صغيرة حسنة التدريب، لتنفيذ عمليات خاطفة على مواقع العدو.
من ناحية التحالفات، عجز المؤتمر الوطني عن توحيد نفسه أولا، رافعا شعار "لن أعيش في جلباب أبي"، بالعودة إلى عباءة الشيخ الترابي، وفشل في عقد تحالفات مع ذوي القربى، مثل حزب الأمة بقيادة الإمام الصادق المهدي، والحزب الإتحادي بقيادة مولانا الميرغني، لاسيما أن ثلاثتهم يشرب من نفس النهر الديني. في الضفة الأخرى،  استطاعت الحركة الشعبية الحفاظ على علاقتها مع أحزاب تحالف جوبا، ولم تقطع حتي الآن شعرة معاوية. بل قامت في فترة وجيزة بنسج تحالفات مع بعض الحركات الثورية الدارفورية بقيادة مناوي وعبد الواحد، وتعكف الآن على نسج تحالف يضم الدكتور خليل إبراهيم مع بقية الحركات الأخري. في الوقت الذي يتضخم فيه رصيد الحركة الشعبية من التحالفات ينضب فيه رصيد المؤتمر الوطني بصورة مستمرة، تعجل من إشهاره الإفلاس. لأن الحرب المستعرة في ثلاث جبهات ستفرغ خزينة المؤتمر الوطني من الأموال، مضافاً إليها غلاء أسعار السلع الإستهلاكية، مما يخصم من رصيد المؤتمر الوطني الجماهيري ويصب في حسابات الآخرين؛ حيث ظل المرجل يغلي طوال شهر رمضان المبارك، ومشاهد صفوف السكر أعادت للأذهان فترة الديمقراطية الثالثة، وشح السلع الإستهلاكية في الأسواق. وكان أفضل لجهابزة المؤتمر الوطني أن تكون السلع الإستهلاكية معدومة في الأسواق بدلاً أن يرى أصحاب المسغبة أرفف المحلات والأسواق مليء بما لذ وطاب، ولكنهم لضيق ذات اليد لا يقدرون على شراءها.. وما حدث في بريطانيا في هذا الشأن ليس ببعيد عن الأذهان.
على المستوى الدولي، المؤتمر الوطني ظل يخسر حلفاءه بإستمرار خاصة بعد هجومه على أبيي في مايو الماضي؛ وإشعاله للحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق. وللمرة الأولى، ظهر دونالد باين، عضو الكونغرس الأميركي ذائع الصيت مطالباً الإدارة الأميركية بتغيير نظام الخرطوم على الطريقة الليبية، بالإضافة إلى رفيقه فرانك وولف، عضو الكونغرس الجمهوري عن ولاية فرجينيا الذي دعا صراحة أمام جلسة استماع في الكونغرس الأميركي للمطالبة بضرب نظام الخرطوم الإجرامي- على حد تعبيره. صحيح أن محمد عطا، رئيس جهاز الأمن السوداني كان قد إلتقي نظيره الفرنسي بباريس في شهر يوليو الماضي حيث عقد عطا مع الأخير صفقة بإيصال صواريخ ومضادات أرضية للثوار الليبيين عبر السودان مقابل عمل الحكومة الفرنسية في مجلس الأمن الدولي على تأجيل أمر القبض على الرئيس البشير لمدة عام آخر، لكن الفرنسيين وغيرهم لا يدفعون ثمن ما يهدي لهم. خاصة بأن منطقة جبال النوبة وما حدث فيها من جرائم طيلة فترة التسعينيات جعلتها تحظي بعناية خاصة من دول أوربية عديدة مثل النرويج التي رعت إتفاق وقف العدائيات قبل التوقيع على إتفاق السلام الشامل.
بإمكان المؤتمر الوطني القيام بتدابير عاجلة لوقف الحرب، والسماح بالمساعدات والإنسانية بالنسبة لجنوب كردفان، النيل الأزرق ودارفور ، والوصول إلى إتفاق سلام مع المناوئين له، وقيام مؤتمر دستوري لوضع دستور دائم للبلاد، وإعطاء المعارضة 50% من السلطة، على أن يتم تنصيب نائب للرئيس من دارفور. مقابل أن توافق المعارضة على أن يكمل الرئيس البشير دورته الحالية، والإعداد المبكر لإنتخابات رئاسية، برلمانية وولائية حقيقية، وليست صورية كما حدث في 2005م. دون هذه الترتيبات سيواجه المؤتمر الوطني مصيره مثله مثل القذافي.. وفي أحسن الأحوال إبن علي. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.

 

آراء