الوكالة والأصالة في الحروب والفتن: بلغراد إيران، كابول روسيا ورواندا عنان في دمشق. بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي
د. عبد الوهاب الأفندي
9 August, 2012
9 August, 2012
في البدء كانت بوسطون، في 16 ديسمير 1773، و "حفلة الشاي" الأشهر في العالم. نفد صبر سكان المستعمرة بعد رفض حاكم الولاية طلب إرجاع شحنة ثلاث سفن محملة بالشاي إلى بريطانيا احتجاجاً على قانون بريطاني يفرض ضرائب على واردات الشاي المحتكرة لشركة الهند الشرقية، فقامت مجموعة من "المندسين" يسمون نفسهم "أبناء الحرية" باعتلاء السفن وإفراغ شحنتها في مياه خليج بوسطون. لم تقبل الامبراطورية التي لم تغب عنها الشمس هذه الإهانة، فقامت ففرضت الحصار في العام التالي على تجارة بوسطون حتى تقوم المدينة بتعويض مالكي السفن عن كامل خسائرهم عن هذا العمل "التخريبي". ولكن أمريكا كان "بدها حرية"، فلم تقبل هذا العسف، بل امتدت الاحتجاجات وعقد مؤتمر عموم أمريكا الذي طالب بإلغاء القوانين وبدأ في تنسيق الاحتجاجات. وخلال عام ظهرت "عصابات مسلحة"، وتوالت الانشقاقات من الجيش البريطاني، وتصاعدت الثورة حتى تم تحرير كامل التراب الأمريكي وإعلان الجمهورية خلال بضع سنوات.
"التدخلات أجنبية" كانت حاضرة، فقامت فرنسا (ومعها اسبنانيا وهولندا) لدوافع تخصها، بمد الثوار بالمال والرجال والعتاد والدعم المعنوي (ما يزال تمثال الحرية الذي أهداه الفرنسيون شاهداً على ذلك). وما لبثت الدول الثلاث أن تدخلت بشكل مكشوف في الصراع، وأعلنت الحرب على بريطانيا، مما كان له أكبر الأثر في نجاح الثورة. ولكن المفارقة كانت أن تكلفة هذا الدعم أثقل كاهل الخزينة الفرنسية، مما اضطر الملك لدعوة البرلمان للانعقاد لمعالجة الأزمة، فمهد لذلك لتفجر الثورة الفرنسية كما هو معلوم.
أصبحت التجربة الأمريكية نموذجاً لهبات أخرى للشعوب ضد قاهريها المحليين والأجانب، بداية من الثورات المتتالية ضد الدولة العثمانية والنمساوية في دول البلقان، ثم الثورة المهدية في السودان، فالثورة العربية الكبرى. وكانت هناك أيضاً مقاومة اثيوبيا للغزو الإيطالي في نهاية القرن التاسع عشر، وثورة عرابي، والمقاومة ضد إيطاليا في اثيوبيا وفي ليبيا في ثلاثنيات القرن الماضي، فالحرب الأهلية الاسبانية، ثم حروب الاستقلال في الهند الصينية والجزائر وأماكن أخرى. ثم جاءت حرب أفغانستان بعد الغزو السوفيتي عام 1979 (متزامنة مع الثورة الإيرانية)، فحروب البلقان مرة أخرى في التسعينات.
في كل تلك التجارب، لم يكن للتدخلات الخارجية الدور الحاسم، وإنما نجحت عندما كانت لصالح الشعوب ومع حركة التاريخ، حتى لو كانت ضد الامبراطورية البريطانية القوة العسكرية الأعظم وقتها. وقد صمدت بريطانيا في تلك الحرب لثمان سنوات، واستطاعت الدفاع عن مستعمراتها في الكاريبي، بل إنها كانت قادرة، حتى في عام 1812، على مهاجمة أمريكا، واحتلال ونهب عاصمتها. ولكن المعادلة بين إرادة الشعب (رغم أن سكان المستعمرات الأمريكية كانوا يعتبرون أنفسهم "إنجليز" في ذلك الوقت) والقدرات القمعية كانت دوماً لصالح الأولى.
وبالمقارنة بين التدخل الأمريكي في فيتنام والهند الصينية في الستينات، والتدخل السوفيتي في أفغانستان في الثمانينات، نجد أمريكا ألقت بكل ثقلها الامبراطوري خلف الحكومات الموالية في الهند الصينية: أنفقت البلايين، وأرسلت جيوشها، واستخدمت أحدث أسلحتها وأكثرها فتكاً. وبالمقابل قدم الاتحاد السوفيتي، وإلى درجة أقل الصين، دعماً متواضعاً للثوار. في أفغانستان كذلك ألقى الاتحاد السوفيتي بكل ثقله خلف حلفائه الشيوعيين، وجند كل ترسانته العسكرية وموارده لدعمهم، بينما اقتصر الدعم الغربي للثوار على إرسال عدد محدود من ضباط المخابرات، وبذل عشرات الملايين من الدولارات لباكستان، لم يذهب إلا قليل منها للثوار. ولكن في الحالين، هزم عملاء الامبراطورية رغم جبروتها، ونجح طلاب الحرية، رغم الدعم اللامحدود للأوائل، والدعم البسيط للآخرين.
في حروب أسبانيا والبلقان، اختلف الأمر قليلاً، حيث شهدت هذه البلدان انقسامات حادة في أوساط الشعوب: في اسبانيا بين اليسار والمحافظين، وفي البلقان بين الصرب ومنافسيهم من الكروات والبوسنيين والألبان والسلوفين. وهذا يخلق تعقيداً إضافياً، لأن عامل الحماس والتوق للحرية وتأكيد الهوية المستقلة، وهو العامل الحاسم في مثل هذه الصراعات، يوجد بقدر متقارب عند الطرفين. وقد تعقد الأمر أكثر لأن التدخلات الدولية في الحالين لم تكن متوازية. فقد كان التدخل الألماني-الإيطالي لدعم قوات فرانكو في اسبانيا ضد الحكومة اليسارية مباشراً وحاسماً، بينما كان الدعم للحكومة ضعيفاً، واقتصر في أحيان كثيرة على وصول مجموعات من المتطوعين. في البلقان أيضاً كان الدعم المباشر من روسيا للصرب ملموساً وقوياً، بينما كان "دعم" المجتمع الدولي لضحايا العدوان الصربي سالباً في مجمله، لأنه شمل حظر سلاح حرم البوسنيين من الدفاع عن أنفسهم ضد الجيش الصربي المدجج بالسلاح. ولم يحسم الأمر إلا بعد أن ارتكب الصرب مجازر وفظائع لم يعد السكوت عليها ممكناً، أو قاموا بتهديد أمن أوروبا، كما حدث حين هجروا جل سكان كوسوفو في عام 1999.
نستحضر هذه الأمثلة الآن إذ كثر الحديث عن أن الصراع في سوريا قد تحول، كما يقول أمين عام الأمم المتحدة وكثيرون غيره، إلى "حرب بالوكالة" بين القوى الكبرى. وهذا في حقيقته توصيف غير دقيق، لأنه من غير المعقول الحديث عن نظام الأسد وأنصاره بأنهم "وكلاء" لإيران وروسيا والصين، كما أن وصف الثورا السوريين بأنهم "عملاء" لغيرهم يتجاوز حدود المعقول بأكثر من ذلك بكثير. فلا يمكن أن يتعرض السوريون لما يتعرضون له من فظائع لم يسبق لها مثيل في التاريخ من أجل تحقيق فائدة لجهة أخرى، خارجية كانت أو داخلية. فالحالة السورية أقرب إلى الحالة الصربية، أو إلى الحالة الرواندية، من حيث وجود فئة تدافع عما تراه مصالحها الحيوية ضد مخاطر تراها، سوى أن الصرب في مناطقهم والهوتو في رواندا كانوا الأغلبية، بينما النظام السوري لا يحظى إلا بدعم أقلية تتناقص كل يوم.
مسألة الأقلية والأغلبية لم تكن العامل الحاسم في هذه الأحوال، فما قلب المعادلة كان تورط جانب معين في فظائع وممارسات لا إنسانية أفقدت المتورطين المشروعية. وفي حالة كل من التورط الأمريكي في فيتنام والروسي في أفغانستان (وحتى الأمريكي في العراق)، كانت هناك ردود فعل بعيدة المدى داخل الدول نفسها، تمثلت في قيام تحركات معارضة للحرب في داخل أمريكا. سرعان ما تطورت الاحتجاجات إلى ما يشبه الثورة الحقوقية، بحيث تغير وجه أمريكا السياسي نتيجة لذلك. أما الاتحاد السوفيتي، فقد اعتبره انهياره أحد تداعيات الصدمة الكبرى التي سببتها الهزيمة في أفغانستان. وفي كل من صربيا ورواندا تبلور رأي عام دولي كاسح ضد التجاوزات والفظائع التي ارتكبها المتطرفون الصرب والهوتو، وأعقب ذلك أو رافقه تحولات داخل تلك الدول وحولها، شملت تغيير الأنظمة وتقديم القادة إلى محاكم داخلية أو دولية. وقد ذهبت حتى بعض المطالب المشروعة لتلك القوميات، مثل حق الأغلبية في الحكم في رواندا، أو وحدة التراب الصربي، ضحية لهذه التحولات.
في ضوء كل هذه التجارب، يمكن التنبؤ بثقة بمسارات الأحداث في سوريا، حيث تشبه الأوضاع جزئياً التجارب الأمريكية والجزائرية والصربية. فهنا نجد أن الاحتجاجات والمطالب المشروعة للمواطنين تقابل برد فعل رسمي قاسٍ، أدى بدوره إلى زيادة التوتر ثم رفع سقف المطالب، وأخيراً الثورة المسلحة. وقد ساهمت الفظائع التي ارتكبت في قمع الثورات في زيادة اشتعالها، كما شهدنا دوراً مهماً هنا للميليشيات الموالية للأنظمة (الصرب، المستوطنون في الجزائر، إلخ.). ويمكن تشبيه الدور الذي تلعبه إيران هنا بدور روسيا في صربيا، هو دور أضر بروسيا ولم ينفع صربيا، لأنه شجعها على التمادي في طريق التهلكة. أما معركة روسيا في سوريا فتذكر بحربها الخاسرة في أفغانستان، سوى أن تدخلها هنا كان أقرب إلى دورها في صربيا، أي أنه دعم معنوي ولفظي أكثر منه عملياً، وهو أيضاً أقرب للاستدراج للتهلكة، كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، ثم تبرأ منه قائلاً "إني أخاف الله رب العالمين."
ولعل الخطأ الأكبر هنا هو تكرار المبعوث العربي-الأممي كوفي عنان لخطيئته في رواندا، حين اعتبر مسألة الإبادة الجماعية "وجهة نظر" تحتمل التفاوض والأخذ والرد. فهو في مبادرته تعامل مع نظام الأسد كما لو كان نظاماً عادياً، قابلاً لضبط النفس، ويمكن إقناعه بوقف القتل الجماعي والتعذيب وإطلاق سراح أسراه، ثم الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع ضحاياه حتى يتحدد مصيره بالحوار معهم. ولا يحتاج الإنسان ليكون أميناً سابقاً للأمم المتحدة، وشاهداً على فظائع رواندا والبوسنة وكوسوفو، ليدرك أن النظام السوري قد ورط نفسه منذا الطلقة الأولى في درعا في مستنقع لا مخرج منه إلا بإبادة جل الشعب السوري وفرض العبودية على الباقين، وأنه ظل يثقل نفسه باضطراد بأثقال من الفظائع والجرائم والتجييش الطائفي تجعله يغوص أعمق في ذلك المستنقع. فمسار الأزمة السورية لا يحتاج إلى منجمين لإدراك مآلاته، ولكنها لا تعمى الأبصار، وإنما تعمى القلوب التي في الصدور.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]