انا ذلك الولد الذي دناياه كانت ها هنا

 


 

 

 

من الصعب ان يعبر الانسان عن ما تجيش به دواخله من حنين ابدي مزروع في قيعان النغس لملاعبه ومراتع صباه ، خصوصا ان كانت تلك المراتع أعصى عن الوصف بالكلمات إلا اذا استفذت مكامنه بعض لحظات التجلي وغابت عن النفس غشاوات الرآن على وعينا الحاصل جراء حفريات المدنية وخربشات الزمان على وجداننا. 

سئلت قبل ايام عن ما إذا خيرت ان أعيش في
المنارة ؟(قرية صغيرة تقبع خلف تلة رملية بالنيل الأبيض تفصل بينها وبين مسقط رأسي شبشة) ، شبشة ؟، كوستي؟ ، صنعاء ،؟ بريتوريا؟ (والتي انا فيها الان لنيف وعشرين عام ، صدئت نفسي وتغبشت رؤاي فيها مدنيتها الزائفة) فأي منهم تختار؟
فأخترت من بينها المنارة، قرية صغيرة واداعة في النيل الابيض تقبع خلف تلة صغيرة من قوز رملي... واخر ما بينها وبين قرية صغيرة اخرى " ود سارح" ، ما بهذه القرى وبين الله الا فضاء سمائه الرحيب ، وفجاج ارضه الرحبة المكلوءة بالرغيد من البهاء والخضرة وكأن الله قد اختصهم بجزئية من آياته ، ولوحاته الطبيعية "...... وما انزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) ، فهي بلدة طيبة ورب رحيم تمرع في رحاب فيض الله.
فأخترت المنارة بالطبع، و لو استدبرت من امري ما استقبلت ، لسكنت على " تلة قوز المحيريبا" بين قريتي المنارة وود سارح....فهناك ملعبي وانا بعد بن السابعة ... وهناك مربعي وساحتي في الجري والسباق مع جروتي الصغيرة "براقة" بين سرابات القطن.. وبالات الشون ، وهناك فتحت عيني من فوق تلة ذاك القوز على تذهب الفجر واحمرار المساء.. وهناك نعمت باكل العنكوليب والتبش ... ونعمت بالنور ولوز القطن ولون القمح وصحن الفضاء الواسع امامي... احبو وامرح واجري واتلاعب مع الاطفال فيه ... عاري الصدر ... مغبش القدمين .... ولقمة من قديد كانت تسد الرمق وتجلب السعد والحمد.
سأختار المنارة... بشرط ان يرجع لي الزمان .. لعباتي الحبيبات ، علب الصلصة الحمراء... والقحاف المخربشة ... وابقار الطين ... وبلي القزاز ... والتيوة.... وشليل .... وقمر قمر .. وان يرجع علي تنسمي وسعادتي برائحة الدعاش ... ولون القمح وخدرة الطين ، ووشوشة الاغصان والقناديل المائلة الحمول ... واصوات والابقار والاغنام ، ومتاليب العجول ، ودواديب الدروب ، والاغنام حولي ترعى .. والجداول ترعى ... برقراقها ... وحسنها وسناها المشوق مع وهج النهار ، وبشرط ان ترجع لي المدنية طفولتى وأماني الصغيرة واحلامي الوديعة وشفف نفسي وبرئها وبراءتها وان ترجع لي الغربة..... طعم التفونية .... والكسرة بي موية... وحلاوة الطماطم بالملح ورائحة الخبز الصعيدي... والرغيف المسوق بصناديق الشاي... وان ترجع لي براءتي وعفة نفسي ... وبساطة تفكيري ، وابتساماتي الوضيئة ، وسماحي وسماحتي مع الناس وأن يرجع لي الزمان ، صفي النسائم ، ونقي الأجواء ، وان يرجع لي حريتي وسجيتي واندياحي في الحياة ، سدرة باب بيتنا وقصب جدرانه ، و سحارة خزنتنا ، وثلاجتنا المشلعيب ، وتذوقي للطعام وتلذذي بالماء البارد واعجابي بالحلوي وإغتنائي بالتعاريف.
سأختار المنارة بالطبع.....
" أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت ها هنا"
الرفيع بشير الشفيع


rafeibashir@gmail.com

 

آراء