انتحار الشعراء وبعض المشكلات الفكرية لشعر السودان المعاصر … بقلم: د. أحمد عكاشة أحمد فضل الله
3 February, 2009
بسم الله الرحمن الرحيم
د. أحمد عكاشة أحمد فضل الله
(باحت في الفكر والثقافة السودانية)
لاهاي – هولندا
الإهداء: إلى روح عبد الرحيم أحمد أبوذكرى
(شاعر سوداني راحل 1944-1990م)
مقدمة:
في نهاية عام 2006م استعاد بعض الكتاب في الصحافة الإلكترونية ذكرى وأشعار عبد الرحيم أبو ذكرى . هو شاعر وباحث في الآداب العالمية رحل عن عالمنا في بداية التسعينيات من القرن ال20. وقد فارق الشاعر الدنيا في أوان من إختياره وعلى نحو إرتضاه. وقبل متابعة النقاش لا بد من الإقرار بحقيقة أن الشاعر الراحل كان ذا موهبة شعرية خلاقة واتصف كشخص بالكثير من الود والرقة والوداعة والإحساس المرهف. وكان إمرئ خيراً حقاً.
هذه المقالة لا تهدف إلى غير معالجة المشكلات الفكرية التي طرحها إبداعه وانتحاره. وهي المسائل التي شعرت بأنها لم تلق معالجة أرحب حينما ستعاد ذكرى وأشعار أبي ذكرى في صفحات المطبوعات السودانية. وغالباً ما يعمد الأشخاص الذين عرفوا عن قرب عبد الرحيم أبو ذكرى إلى تذكر حياة وإبداع هذا الشاعر الذي آثر العزلة والإنزواء.ومثلي مثلهم كانت لدي بعض المعرفة الوثيقة بالشاعر الراحل, وتعود الصلة بيننا إلى سنوات الشباب والدراسة, فقد جمعتنا عضوية الجمعية الأدبية في خور طقت الثانوية وحينذاك أصبحت شاهداً على نبوغ شعري مبكر ولمست الحياء والرقة اللذين كانا يميزان خلق وطباع الشاعر وكذلك جمعتنا دراسة الأدب الروسي أبان الدراسة الإعدادية للتحصيل الجامعي. وفي تلك الفترة تلمست بعض الجوانب الفكرية لشعره وشغفه بقضايا الأدب الروسي وعبرها بقضايا الإبداع الإنساني قاطبة ومن ثم فرقت بيننا الإيام, غير أن معرفتي به على قصرها فرضت على أن أحي ذكرى مبدع طرح نتاجه الشعري وانتحاره بعض ضرورة مناقشة المشكلات الفكرية للإبداع السوداني.
إنتحار النفس الشاعرة:
قبل عبد الرحيم أبو ذكرى فجع الأدب السوداني على نحو مماثل في أحمد الطيب عبد الحفيظ (شاعر ومربي وعالم) وكذلك في محمد عبد الرحمن شيبون (شاعر ومربي ومناضل وطني). وهي فواجع متباعدة زمنياً وكذلك لم يصبح انتحار الشعراء نوعاً من الظواهر المميزة للحياة الأدبية في السودان. ما يجمع بينهم حقيقة أنهم شعراء وأن رحيلهم من الدنيا قد جاء على نحو وفي أوقات من إختيارهم, وكذلك في حالات إنتحار- النفس الشاعرة يجد المرء نفسه في ميالاً للبحث وسط الغموض والحيرة- عن دوافع قيام هذا الشاعر أو ذاك بإزهاق روحه بيديه. ويهدف مثل هذا البحث إلى العثور على تصريح أو بيان صدر عن قصد أو بدون قصد اريد بالإنتحار النطق بهما, أية رسالة قصد البوح أو الايحاء بها بواسطة إزهاق الروح.
فإذا ما أراد أحد الشعراء أن يخلف وراءه أسطورة حول ذاته فإن الإنتحار يشكل آخر فصل من فصول تلك الأسطورة.إذ يمكن للإنتحار تأكيد الإتجاه العام لحياة وإبداع الشاعر, إذ أنه قد يكون دلالة على صدق نوايا الشاعر أو أنه قد يلقي بظلال من الشك العميق على قيم وفكر وإبداع الشاعر. وكان كل من محمد عبد الرحمن شيبون وعبد الرحيم أبو ذكرى مثالاً للإنتحار الذي جرى تفسيره على وجهين نقيضين. لقد فسر انتحار كل شاعر على أنه مغادرة لحياة سئمها فقرر إنهاءها بدون وجل أو أسى وأن كل شاعر لقي الموت بدون رهبة أو جبن. وكذلك فسر البعض انتحار كل شاعر على أنه هروب الجبناء من المشكلات والآلآم التي تعمر بها الحياة.
وقليل من الشعراء المعاصرين أثاروا الإهتمام مثل ذلك الذي لقيه عبد الرحيم أبو ذكرى: إذ في بداية شبابه لقي نشيده (من طقت الكبرى أصدح بهذا النشيد...) لقي ذيوعاً شديداً. آن ذاك اتجهت إليه الأنظار كشاعر يتناول بشفافية شاعرية التجربة الإنسانية في السودان حديث العهد بالإستقلال والتحرر, وكانت أشعاره معنية بمشكلات التقدم والتحرر الإنساني والجماليات المعاصرة. وأظن أنه إلى حين رحيله المؤسف كانت حياة الشاعر أبو ذكرى عامرة بمعالجة هذه المشكلات الفكرية وقضايا الشعر والإبداع.
هنالك إضافة هامة أخرى, هنالك الكثيرون من معارف الشاعر الذين أشاروا إلى أنهم فجعوا بإنتحاره ولعل بعضهم إعتقد بأنه لا يزال ذاك الشخص عميق الإهتمام والتفكير الذي اعتادوه. ولعل البعض الآخر منهم لاحظ انحطاط معنوياته واكتئآبه وتوتره. ولا يمكن للخوض في الخصوصيات أن يجدي إلا أن الأسئلة التي طرحها إنتحار الشاعر يمكن العثور على إجابات أجدى وانفع لها إذا ما إستقصيت حياته الفكرية وابداعه الشعري أكثر من التركيز على حياته الشخصية.
وفي واقع الحال أن كل وجود أنساني هو تجربة وبحكم طبيعته هذه يوفر أجوبة حول مإذا فعل فرد ماء بحياته؟ وأظن أن حياة أبي ذكرى إذا ما درست توفر إجابات شيقة من حيت تعدد إمكانياته الإبداعية وأبحاثه في مجال الآدآب العالمية وكذلك تعددت وتنوعت الحركات التاريخية التي أثرت تجربته الشعرية: الفكر الذي أفرزه الإستقلال الوطني, الدراسة في الإتحاد السوفيتي التي مكنته من التعرف على شعراء وأشعار بروليتاريين وكذلك عرفته بمشكلات الآدآب العالمية.
حينما انخرط عبد الرحيم ابوزكرى فى دراسة الادب الروسى ، كان شاعرا معروفا . وعلى الرغم من ذيوع صيته آثر دراسة الادب الروسى والادب العالمى عامة . واضحى كلاهما هما اديبا وبحثيا لابى ذكرى حتى مفارقته الحياة .
كانت موسكو ايام الستينات من القرن الماضى اكثر الاماكن امتاعا لفرد ذى طبيعة ابداعية وشاعرية فذة . كانت موسكو مركزا هاما (عاصمة لقوة عظمى – اتحاد السوفيات ومركزا للفكر اللينينى الثورى والبناء الاشتراكى كما كان يعتقد )
وكذلك كانت مدينة المسرح ، السموفونيات والاوبرا والبالية . وكانت تعيش فيها الانتلجنسيا العمالية . وآنذاك بدا ابوذكرى مهتما بالحياة الثقافية في روسيا اذ كان يعتقد بأنها جيدة أو لعله وجدها أحسن من الاجواء الثقافية والفكرية السابقة لقدومه الى موسكو
غير ان للحياة الثقافية فى روسيا السوفيتية اوجه مغايرة عدة منها :
- لايمكن لاى مبدع روسيا كان او اجنبيا الجمع بين الابداع والنهج البوهيمى فى العيش او السلوك الفردى
- كانت هنالك الارثوذوكسية الماركسية وهي سلطة سياسية ورقابة على الفكر والادب والثقافة ، والى جانبها وجدت ثقافة وابداع الاحتجاج وكذلك كان هنالك الابداع المحرم – الجزء الذى يلقى فى الغالب رضا الاجيال الناشئة والمبدعين الذين يتسع افقهم الفكرى والثقافى فى حين تعتبره السلطة هداما او مغايرا .
ولعل وجود الارثودوكسية اللينينية والانتلجسيا العمالية ونظرة كل منهم الى بعض الابداع الادبى والشعرى والثقافى كابداع معادى او هدام . كل هذا يشكل عائقا امام ادراك المواطن السوفيتى او المبدع الوافد لخصائص العصر الثقافى الجديد الذى كانت اتجاهاته سائده خارج الاتحاد السوفيتى والدول الواقع تحت نفوذه . وفى تلك الفترة والى حين عهد البورسترويكا ( عهد مفارقة الشاعر العالم ) كانت للنظرية الينينية اهميتها القصوى بالنسبة للادب والفن والابداع عامة فى الاتحاد السوفيتى . اذ كانت هنالك متطلبات ماعرف بالواقعية الاشتراكية – وهى مصدر تقنين اصدار الاحكام على المبدعين وعلى شتى صنوف ابداعهم ، وكثيرا ماادت الاحكام المسبقة والحزازات مقرونة بسوء استخدام النفوذ – ادت الى ملاحقة واقصاء المبدعين او حجب انتاجهم الادبى والفنى .
ولم يؤد احتجاج شاعر روسى او اجنبى اقام بتلك البلاد الى تخفيف القيود على الابداع او الافلات من مراسم نيل الاعتراف باشخاصهم او ابداعهم ، ولم يجد اللجؤ الى الضمير العالمى او اتساع التعاطف الشعبى فى اتقاء الملاحقة او الابعاد (مثال بوريس بوستراناك
بالطبع كان للتواجد فى الاتحاد السوفيتى فوائده المالوفة :
- اضاف تواجد الشاعر فى روسيا السوفيتية طراوة على شعره الذى اضحى متضمنا انطباعات جديدة والكثير من ادوات التشويق .
- زاد من احتمال مصادفة او لقياء موضوعات جديدة ومنابر شعره أشخاص او رموز او اوضاع انسانية مختلفة .
-حرر التواجد بروسيا من ثم العودة للسودان والرجوع مرة اخرى من التقيد بالمكان (سودانا اكان ام روسيا ) وفيما بينهما مرت عليه احداث متعدده متباينة واثر كل هذا فى انطباعاته واحاسيسه . وهكذا اضحت حياته على بساطتها وتواضعها ترحالا مستمرا من مكان ما الى مكان اخر .
ليس لدي قناعة محددة فيما يتعلق بتصنيف أبي ذكرى أترى كان يطمح إلى أن يكون (ملحاً للأرض) أو (حنجرة للشعب) أو (شاعراً بروليتارياً). لقد فاضت بعض قصائده بالحماسة والمشاعر الوطنية الصادقة ودعوات إلى السلم والعدالة والتقدم. وكذلك لم يكن سرا حبه لأشعار بوشكين وليرمنتوف ومايكومسكي.
بالطبع أن مثل هذه التعريفات تبقى ذات طابع غير محدد أو دقيق. وهي من العموم بقدر كبير وبالتالي فإنها تزيد من التعقيد والخلط اللذين قد ينجما من حسن أو سوء استخدام مثل هذه التعريفات.
ولعله لو قدر للشاعر أن يعيش حتى نهاية الحقبة الأخيرة من القرن الماضي أن يبدي امتعاضه من استخدام أحد هذه التعريفات في حقه أو ازاء بعض أو جل اشعاره. وحقاً فإن الإشارة إلى واقعية الشعر أو الشاعر لا ترضيه ولا ترضي حتى الشعراء والكتاب الذين عالجوا موضوعات من الواقع المعاش (القصة والمسرحيات من نوع
The genre
والروايات الشعرية....... وكذلك لاتعين هذه التعريفات على فهم الشعر او الادب نسبة للتعميم .
وعليه فقد جرؤت على استخدام هذه التعريفات نسبة لان الكثير من اشعاره تحتوى على تاثير ثورى – وهو الاثر الادبى الرئيسى لكثير من اشعاره ، وكذلك طمح كثير من شعراء الجيل السابق او المعاصر للشاعر امثال محمد عبد الرحمن شيبون او على عبد القيوم الى ان يكونوا منتمين الى اليسار السياسى او الفكرى وان يلتصقوا بالكفاح الجماهيرى الوطنى او الطبقى او الاجتماعى . وما من شك من ان ابو ذكرى كان قد استثمر بعض عواطفه وشعره فى هذه الاغراض الشعرية . وكانت شاعريته تمتاز برقة ودعة ومشاعر انسانية جياشة . وكثيرا ما كانت شاعريته هذه ثائره كأنها تتحدى اولعلها تختبر انسانيتنا .
لقد تطرقنا الى فواجع ثلاث : رحيل احمد الطيب عبد الحفيظ (شاعر محدث ومربى ) ، ومحمد عبد الرحمن شيبون شاعر وطنى وكاتب ، ثم عبد الرحيم ابو ذكرى (شاعر وباحث فى الادب ) . وغير المأساة التى تجمع بين هؤلاء الشعراء الثلاثة كانت هنالك رغبتهم فى تحديث الشعر السودانى وربطه بالادب الانسانى بعد ظل رافدا من روافد الشعر العربى فقط .
والحديث عن تجديد او تحديث او عن خلق ارتباط بين الشعر السودانى وذاك الانسانى ، هو حديث مقبول اذ ان كل واحد من هؤلاء الشعراء قطع جذريا صلته بقيم وافكار من سبقهم من شعراء السودان ، فقد عرف احمد الطيب عبد الحفيظ
Shelly.. Keats
وما تلاهم من الشعراء الانكليز المحدثين واضحى محمد عبد الرحمن شيبون ماركسيا وآمن بوجود علاقة مابين الادب والظروف الاقتصادية التى يعتقد ان لها اكبر الاثر على الفكر : وكان نتاج هذا الاشعار الوطنية والاشتراكية . ولعل عبد الرحيم ابوذكرى وجد سعادته المؤقته فى الثورة والبناء الاشتراكى على الرغم من ان اشعاره لم تعالج هذه المسائل على نحو محدد مثلما هو الحال فى شعر شيبون .
وكذلك عنى تجديد الشعر السودانى عند هؤلاء الشعراء الثلاثة وعند غيرهم من المحدثين ما يلي :
_ اضحى كل من اسلوب وبيان الشعر الى جانب التخيلات واللغة المجازية – ثائره (ردايكالية ) .
_ عوضا عن الايقاع والاوزان الشعرية والعروضيات المنتظمة والمألوفة استخدمت ايقاعات واوزان شعرية متقلبة ومتميزة .
ونتيجة لهذا اضحى الشعر السودانى المستحدث من قبل هؤلاء الثلاثة شعراء اكثر من مخاطبة للعقل واكثر نزعة للحدس مقارنة بالشعر السودانى السابق لعصرهم . واضحت اشعار كل منهم عبارة عن تعليق جارى حول حياتهم وحول تجاربهم الشعرية : اذ ان هذه الاشعار خاصة فى حالة عبد الرحيم ابوزكرى – كانت تعكس افكار وآمال ورغبات كل واحد من هؤلاء الشعراء . وكذلك عكست اشعارهم خيبة الامل لديهم الى جانب ما تهيأ لهم (اى اوهامهم) .
وبالطبع (مثلما هو الحال عند حدوث المتغيرات والتطور ) ينعدم اجماع الاراء فيما يتعلق بجودة اشعارهم : فلم يقيم احد من النقاد شعر احمد الطيب عبد الحفيظ او شعر شيبون او ابوزكرى بانه شعره راقى وجيد . وكان هنالك الاعتراض الدائم على انتظام الايقاع والاوزان الشعرية والعروض . فقد رأى بعض النقاد فيها الفوضى وعدم الملاءمة مع الشعر السوداني .
لعل الفاجعة الوحيده التى لم تثر جدلا او اهتماما هى رحيل احمد الطيب عبد الحفيظ . فى حين آثار انتحار ابو زكرى الاهتمام الا ان كل جل الاهتمام والجدل آثاره انتحار شيبون . مرد هذا لمقدمة ديوان غصبة الهبباى . والتى كانت هادفة لمجادلة سياسية . وكان الاحرى بالشاعر صلاح احمد ابراهيم الاهتمام بمسائل الشعر التى يثيرها اصدار مجموعة شعرية جديدة . لقد ادى ذلك الجدل السياسى الى اهمال المشكلات الفكرية للشعر السودانى التى طرحها شعر شيبون وصلاح احمد ابراهيم وحجبت عن الادراك الموهبة الادبية والشعرية لعمر مصطفى المكى صاحب القطعة النثرية الرائعة " سنوات تحت الارض " والتى كانت رصدا تاريخيا لسنوات العمل السياسى السرى تحت الحكم العسكرى الباكر ولم يعرف عمر مصطفى المكى الشاعر والاديب . وكذلك جرى اهمال مناقشة التجديد الشعرى الذى نجم عن اصدار ديوانى شعر صلاح احمد ابراهيم : الباكر غابة الابنوس والاخر غضبة الهبباى :
وكذلك بعد صلاح احمد ابراهيم مجددا على النحو الذى اراده للشعر السودانى وشمل هذا مايلى :
_ الابتعاد عن المجاز (اللغة المجازية) التقليدية .
_ محاولة ادخال عناصر البيان والبلاغة (خاصة اللغة المنمقة والمجاز المستلهم) .
_ الميل الى التعبير عن الفكرات والعواطف الى الابحار بها عن طريق الرموز يراد بها اداء معنى متسع لبلالة من الصوفية والغموض .
وعلى الرغم من عدم تلغيه دروسا فى الادآب الكلاسيكية استطاع صلاح التعرف على الشعر اليونانى واستخدام المثلولويجيا اليونانية فى اشعاره والى جانب رمزية بعض اشعاره جعلت ابداعه جامعا بين مركبات (منها ماهو طريحه والاخر نقيضه) وهذا ماميز ابداعه عن سائر الشعر السودانى .
ماعرف عن شيبون هو ولعه بالواقعية الاشتراكية وبالطبع لم يمكنه قصر عمره ان يشهد انفضاح امر الواقع القمعى الذى مورس حيال الابداع الاخر وان الادب الذى لقى ترحيب حكام البلدان الاشتراكية . كان بمثابة تشويه لكلاسيكيات يستخدم اشكالا متناسقة تتطلب الوضوح واستخدام الميثولويجيا المناصره للسوفيات وكانت هنالك على الدوام الحاجة الى فرض الرقابة حزبية او حكومية.
وكانت الواقعية الاشتراكية عند شيبون أداة لتقييم التجارب الجمالية شعرا ام نثرا وكافة أنواع الابداع وكانت تعني لديه تناول الحياة المادية وتلك المعتادة والحياة اليومية بكل الصدق.
عكس الحياة بكل تجرد وكما هي.
رفض كل ما يعطيها محتوى مثاليا من مصطلحات او صيغ.
تناول موضوعات من الحياة المعاصرة والوضع القائم ويستحسن تناول المشكلات السياسية والاجتماعية الراهنة بجانب.
الالتزام جانب الطبقة العاملة والكادحين والبسطاء.
ويلتقي احمد الطيب عبد الحفيظ مع شيبون في واقعية الشعر والابداع فقط اذا كان ميالا لتناول الواقع بكل الصدق التي وجدها في الشعر الانجليزي: مسرحيات شكسبير، قصائد شعراء مثل
S swift
Description of the morning
Thomas hardy
في قصيدة
Friend beyond
Rudyand kipling
في قصيدة
Danny deaver
وعليه كان مفهوم الواقعية مرتبطا ليس فقط بالقصيدة بل بقيمتها الجمالية وعقب شيبون اضحى تاج السر الحسن وجيلي عبد الرحمن فحول الشعر الواقعي اشتراكيا ومن تجربتهم الشعرية يمكن استخلاص الاتي فيما يتعلق الشعر الملتزم اشتراكيا أو كفاحيا:
كان ذاك الشعر يتقبل متطلبات المفهوم العام للشعر السوداني او الشعر العربي:
كان يستخدم مقاطع لفظية واصوات مقطعية تتقافي(القوافي والايقاع) لتمجيد الاشتراكية والكفاح العمالي والوطني وكان شعرهم يبتعد عن الغموض المسخي( المتحول) عند وصف الحياة والاوضاع والامور والقضايا.
كان شعرهم يبدي الفرح ويحتفي بالحب والصداقة الانسانية ، كان تاج السر الحسن وجيلي عبد الرحمن معنيان بالكفاح أكثر من تحديث الشعر السوداني وعموما فإن الشعراء الذين نظموا الشعر الواقعي اشتراكيا او طبقيا لم يعر احد منهم اهتماما الي حقائق الشعر السوداني وتشمل هذه ما يلي:
ان الشعر السوداني لديه تقاليد عتيقة وعميقة: ةالفلكوريات من اناشد وأشعار واغاني والحان وشعر عربي مدجن وروابط ثقافية عميقة بالشرق العربي وبلدان الاسلام وكل هذا شكل تقاليد الشعر السوداني
قبل شيبون وتاج السر الحسن وجيلي عبد الرحمن كان الشعر السزداني المعاصر يتميز بتنوع المرامي والاساليب وقد أظهرت بعض الاعمال الشعرية درجة قصوى من التجريب وهنالك ايضا من أصر من بين الشعراء السودانيين على الاشكال والصيغ الشعرية المتوارثة فانتجوا شعرا تلميحيا وكان لديه معرفة مكتسبة واسعة اكتسبت من الاطلاع واخيرا لم يدرك هؤلاء الشعراء(البرولياريين او حناجر الجماهير او ملح الارض) ضعف الادب الواقعي اشتراكيا والذي تتمثل في فرض انماط سياسية علي الشعر. ويتطلب التغلب علي هذا الضعف في الادب الواقعي هذه المرة ليس كفاحيا بل جماليا في الدرجة الاولي تجربة عبد الرحيم ابوذكري ومن ماثله من شعراء سودانيين تاليين ويتعثر عليّ الحكم الناتج الشعري المغاير لأنني فارقت روسيا في نهاية الستينات وهاجرت من السودان في منتصف السبعينات وبالتالي لم اتمكن من متابعة انتاج الشعراء السودانيين فيما بعد.
حينما وفدنا الى الاتحاد السوفييتي دارسين عام 1966 كان حال الابداع الواقعي اشتراكيا قد تبدل بعض الشئ، كان هنالك التبرم بالتجربة السوفييتية ونقدها من مثقفين ومبدعين أمثال
Henry roth Daniel Fuchs
Louis Aragon
أضحى هنالك الادراك الواسع بحقيقة انه يوجد مبدعون اخرون ليس لديهم ميول ايديولوجية مماثلة وقد تناول ابداعهم حياة وواقع البسطاء والكادحين.
كان هنالك ايضا الادراك بان هنالك قطاعات اجتماعية واسعة تعايش الفقر وتعاني الى حدود قصوى من الاملاق واستعصى على كتاب كان لديهم انتماء حزبي لينيني اضفاء طابع بروليتاري على هذه القطاعات مثال البروليتاريا الحقيرة وفقراء المدن..
ارتخاء القبضة الستالينية المعتمدة على القمع والبطش والمراقبة( الرقابة من قبل أجهزة حربية وامنية وكيانات ثقافية)
ومما دل على انفلات امر الرقابة والهيمنة الايديولوجية استعصاء اصدار حكم من قبل المؤسسة السوفييتية علة قصيدة الشاعر الليتواني
Miezedaitis
المسماة الانسان والتي لم يكن محتواها الايديولوجي مقبولا من وجهة نظر القصيدة الادبية الرسمية كان محتوى القصيدة معبر عما اراد الشاعر انه يفصح به وبعد معرك حامية انسحب الرقيب ومنح الشاعر الليتواني جائزة لينين في عام 1962 ومنذ ذلك العهد ارتخت الرقابة على الشعر في الاعوام التي تلت كانت هنالك الكثير من الاشعار والمؤلفات الادبية والتي كانت تضمر العداء للنظام السوفييتي غير انها عمرت باشارات وعبارات علقت برداء الواقعية الاشتاركية كان هنالك الابداع الشعري والروائي لبوريس باسترناك والضجة التي اثيرت حول نيله لجائزة نوبل للاداب وفي انحاء متفرقة من الاتحجاد السوفييتي كان هنالك شعراء مثل
Henrikas Nagys
وخلال عامي 1971= 1972 ظهرت دواوين شعرية تحدت الواقعية الاشتراكية ومن بين هذه ديوان اناشيد الخريف والصيف للشاعر Geda
واشارت الحديث للشاعرة Venclova
ومن الارض الصامتة الشاعرBloze
وبموجب هذه التطورات عوضا أن يستمر الشعر في ان يكون كلمات ترص في اوزان عرفية أصبح الشعر يصاغ بناء على قاعدة أشد أحكاما وتبلرا الا وهي المجاز والاستعارة يضاف اليهما شكل القصيدة وكان هذا هو طابع العصر الذي بدأنا فيه مع أبي ذكرى دراسة الادب الروسي وكذلك كان لهذه التحولات في الساحة الادبية والثقافية االسوفيتية اثرها على عبد الرحيم ابو ذكرى وهو الشاعر الشاب اذ مكنته أن يحاول وضع لبنة مغايرة للشعر السوداني الحديث بعيدا عن منحى تقديس النماذج السياسية والاجتماعية وتحبيذ الايديولوجيات وهنالك من الخواص ما أعان لابي ذكرى تحرر فكره وتقدميته كشاعر كان خلاقا ومتمكنا من الصيغ والاشكال الشعرية لقد حاول عبد الرحيم ابو ذكري القيام بمهمة تحديث القصيدة السودانية (الشعر العربي في السودان) على نحو لا يحتوي علي التحدي او على إحداث ارتباكات فكرية وعوضا عن إلقاء قفاز التحدي سلك عبد الرحيم أبو ذكرى طريقا ايجابيا الا وهو ايجاد اساليب جيديدة للتعبير الشعري وكان أبو ذكري عارفا بأشكال التعبير الشعري المألوفة والتي كان يستخدمها في مطلع تجربته الشعرية ومن ما شجعه على البحث عن صيغ جديدة للتعبير الشعري هو شعوره بأهمية الرقي بالمعاني الشعرية اذا ما اريد للشعر ان يعبر حقا عن المشاعر الانسانية وفي محاولة التجديد هذه التزم أبو ذكرى ببساطة وانتظام الصيغ الشعرية وأدرك ضرورة زيادة وعيه كشاعر وضرورة التعبير عن خواطره ومشاعره بكل صدق . ولقد قرض أبوذكرى الشعر ودرس الفكر الانساني والاداب العالمية وكل هذا جعل أشعاره مدينة لشعراء عالميين كثيرين مثل بوشكين، ميخائيل ليرمينتوف، مايكوفسكي، ميخائيل يفيشنكو، بوريس باسترناك وهم الذين عرف شعرهم عن قرب كذلك عرف ابوذكرى بودلير غير ان شعره لا يمكن ان يعد خليطا من المؤثرات العالمية والذكريات ولا تعني الاشارة الي تأثير هؤلاء الشعراء العالميين ان شعره كان شعرا مشتقا بل ان معرفة اعمال هؤلاء الشعراء هي دلالة عن عمق ثقافته ورقي وتعقيد شخصيته لقد حاول أبو ذكرى التوفيق بين شاعريته (السودانية والعربية المنشأ) والشعرية الانسانية المعاصرة وكذلك أصر على نهج سبل الرقي في أجواء قاتمة وعامرة بعوامل التردي، قهر المجتمعات والثقافة في وطنه السودان فبعيدا عن السياسة فإن حصيلة قدوم عسكر وايديولوجي الجبهة الاسلامية القومية (1989) قد أدى الي قمع الثقافة والمجتمع وتدنت أوجه روحية وثقافية وعلمية نتيجة الطغيان السياسي والهوس الديني. كذلك خلال عام 1990 بدأت في الافق معالم انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي والتي كانت في مضمونها النهائي محاولة لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي في اوربا الشرقية لعل هذه الظروف هي من ضمن اسباب اخرى أدت الى طغيان النغمة المأساوية التي عمرت بها اشعار ابي ذكرى المتاخرة وكذلك تفسر جنوح الشاعر الى العزلة والى تمجيدها.
وقبل انتحاره لم يجد الشاعر سبيلا الي التواصل مع مثقفين معاصرين او مع مجتمعات صاعدة او تيارات ادبية متقدمة وكان من الممكن ان يحد مثل هذا التواصل و أن يخفف من محنته الفكرية وقبيل الرحيل كانت الشاعر قد إنتابته حساسية مفرطة تجاه العيش والعالم بأسره وتولد لديه حس عارم الا وهو الرغبة في نبذ الحياة بمجملها ومن هنا تلحق النفس الشاعرة الأذى بذاتها.