انتهاء سياسات التطهير والتمكين (2من2)

 


 

 



تعرضنا في الحلقة السابقة لسياسة التطهير التي انتهجتها الانقاذ في الخدمة المدنية وكيف استغلها منسوبو الجبهة القومية  لتمرير الفساد والاحقاد وجنوا بذلك على انفسهم كما على النظام الذي سمح لهم التحدث باسمه ولايعني ذلك براءة النظام من الاثام التي تم ارتكابها  فقد كان النظام نفسه شريكا وفاعلا اصيلا في كل ما تم والدليل الساطع هو ما آلوا اليه هم وذويهم من الثراء العريض واكتناز الذهب والفضة والتمرغ في وحل الملذات وما اغدقوا على اولئك النفر من اموال الوطن وخيراته.فعلى زماننا في الخدمة الدبلوماسية كان الدبلوماسي من مختلف الرتب(بما في ذلك رتبة السفير) في عداد موظفي الدولة الكادحين.وكان مرتب السفير بالخارج يتراوح ما بين اربعة الى خمسة الف دولار في الشهر يبتلعها ارتفاع مستويات المعيشة في البلد المضيف ثم يبتلع ما بقي منها غلاء الخرطوم الطاحن متى انتهت خدمتهم بالخارج وعادوا الى  ديوان الوزارة.ولكن زمن الانقاذ زاد مرتبات الدبلوماسيين من كل الرتب وفتح لهم بابا من ابواب الفساد هو ما يسمى ببدل السكن وهذه عدة الوف من الدورات يستلمها الموظف باعتبارها الايجار المعقول لشخص يمثل بلاده في منطقة محترمة ولكن  الموظف المعني كثير ما يقوم باكتراء أرخص السكن في أحقر المناطق ليضع الفرق في جيبه الخاص.وهي هدية "مؤسسية" قدمتها الانقاذ بعد ان اطمأنت ان الغالبية الكبرى من الدبلوماسيين من اتباعها وأنصارها فاستحقوا كرمها واغداقها.
هذا وقد سعدت ايما سعادة بمقالة البروفسوراحمد ابوشوك في هذا المنبر والتي تكرم مشكورا بالاشارة في صدرها الى ذلك المقال وقام باكمال بنيته بالمقترحات التفصيلية التي اوردها مستقاة من التجربة الماليزية فهكذا يكون الحوار المتمدن بين الكاتبين. وقد ازدانت المداخلتان بفيض عقله الراجح وادبه الوفير بما اغناني عن الاطالة في هذا الامر والانصراف الى التوأم الاخر في هذا العنوان وهو التمكين الاقتصادي لمنسوبي الجبهة الاسلامية.وفي الايام الاولى للانقاذ كانت تلك السياسة مرسومة ومعتمدة من قيادات الانقاذ وحجتها الكبرى مستقاة من فكر الدكتور الترابي الذي طالما نعى على الماركسيين عدم اعتنائهم بالتمكن الاقتصادي قأصبح بذلك ماركسيا اكثر من الماركسيين واكثر منهم ايمانا بدور القوة الاقتصادية في العمل السياسي.وتطابقت فكرة التمكين مع البدعة الاقتصادية التي دعا اليها الوزير حمدي في اول ايام الانقاذ وهي بدعة "التمويل بالعجز" .فالمعروف في كل العالم ان علاج التضخم هو السياسات الانكماشية ولكن وزير الانقاذ الهمام عكس تلك المقولة وقال  ان السياسات التوسعية هي العلاج الناجع للتضخم.ومن ثم دارت المطابع ببلايين الجنيهات السودانية عديمة الرصيد وجرى توزيعها على منسوبي الحزب صاحب الانقلاب على هيئة مرابحات وقروض ميسرة.وايامها كان امرا عاديا ان تجد اطفالا يحملون في ايديهم الملايين ولا يعرفون ماذا يفعلون بها.
هنالك تطوعت بعض العقول الجبهجية بفكرة اخلاء السوق من رجاله القدماء ليحل محلهم اولئك المحظوظون الجدد.وكانت مصلحة الضرائب المنفذ الاكبر لتلك السياسة إذ توجهت لرجال السوق القدماء بتقديرات ضريبية مثيرة للدهشة وتفوق كل التصورات ومنها التاجر المرحوم الذي طولب بضريبة تفوق كل ما احرز من رأسمال فشهق شهقة الموت ولفظ نفسه الاخير.والى جانب الضرائب كان الامن يقوم بدوره المرسوم في التضييق على تجار السوق الاصلاء.ولم يعدم المتمكنون الجدد الحيلة في تشكيل امنهم الخاص وفتح بيوت اشباحهم كما صار معروفا في تلك القضية الشهيرة حيث قام مراهقون باحتجاز تاجر معروف في سكن في الخرطوم متظاهرين بانهم من رجال الامن وقاموا بتعذيبه وفي نهاية الامر طلبوا منه اصدار بعض الشيكات لشخص كان شريكا له في العمل.وعندها انكشف المستور هرب التاجر من معتقله الوهمي الى منزل قريب له يشغل رتبة عميد في الجيش.
كل هذه الاشياء محفورة في ذاكرة الشعب السوداني وسيأتي يوم تخرج فيه كلها الى العلن ويحاسب كل من ساهم في ترتيبها وارتكابها. ومهما يكن فان سياسة التمكين الاقتصادي سياسة فاشلة من وجهة النظر الاقتصادية إذ لايمكنك تنمية البلاد او زيادة ترواتها باعطاء اموال البلد لاطفال اغرار فقط لان اعمامهم وخيلانهم ينتمون الى حزبك الحاكم كما انه لافائدة من توزيع الاموال على عاطلين واصحاب مهن صغيرة ومؤذنو مساجد لا يعرفون شيئا عن اوليات التنمية والاقتصاد.وفي حالات عديدة اخذ اولئك الاماثل اموال المرابحات وقاموا بختان اولادهم او إكمال نصف دينهم بزوجة او اثنتين او اكثر.  وبذلك ضاعت على الدولة اموال كثيرة واهم من ذلك انتشرت في طول البلاد وعرضها بذرة الفساد الحقيقية وهي فكرة عدم المحاسبة القانونية للمعتدين على المال العام. ففي تلك الحال يتقدم كل من شاء ليسرق من مال الشعب متذرعا بأن الاخرين قد سبقوه الى ذلك ولم يتخذ ضدهم أي اجراء فلماذا انا؟ .واذا تجرأوا على محاسبتي فسوف اذكر ما فعل فلان وفلان من الكبار والمقربين دون ان يتعرضوا للمحاسبة.وبذلك "المنطق" الفاسد استباح منسوبو الحزب المال العام وودائع الجمهور في البنوك وكان هنالك دائما من يساعد على الغطغطة وافلات المجرمين من العقاب.
حقا ان المال السائب يعلم السرقة ولكن في حالتنا الاقتصادية الراهنة لم يعد هنالك مال سائب فوراء كل مليم مسروق هنالك مريض يعاني او تلميذ لايجد افطارا او حرة تأكل بثدييها وهنالك شعب استيقظ من غفوته  وكسر جدار الخوف وشمر عن ساعديه لمنازلة المفسدين والحرامية .


Ibrahim ELMEKKI [ibrahimelmekki@hotmail.com]

 

آراء