انفصال جنوب السودان: حديث الوثائق

 


 

 


هذا جهد رجل بحجم عمل مؤسسة. ذلك هو الأنطباع الأولي الذي شعرت به وأنا أتجول عبر صفحات كتاب"انفصال جنوب السودان: دور ومسؤولية القوى السياسية الشمالية" التي تجاوزت التسعمائة صفحة خصص جانبا منها لسبع وعشرين وثيقة منها ما هو معروف ومنشور مثل بروتوكول ماشاكوس، ومنها ما أنطمر بمرور الوقت في الأضابير مثل رسالة حزب سانو الى الحكومة التي تقترح عقد مؤتمر للمائدة المستديرة، ومنها مالم ينشر قط مثل أعلان فرانكفورت، الذي فتح الباب أمام التأييد الرسمي لخيار حق تقرير المصير، وهو ما وصفه المؤلف دكتور سلمان محمد أحمد سلمان ب"خروج مارد تقرير المصير من القمقم".

أمضى سلمان عدة سنوات وهو يجمع مادة الكتاب خاصة في جانبها الوثائقي مستغلا صلاته بمراكز الأبحاث في مختلف أنحاء العالم وعلاقاته بمختلف القوى والشخصيات السياسية مما مكنه من الحصول على صور من النسخ الأصلية لكل هذه الوثائق التي جعلها مبذولة لكل من ساوره الشك ان جهة ما لم توقع على حق تقرير المصير، ولو انه لأسباب تقنية لم ينشر أصول هذه الوثائق وانما ترجمات أمينة لها ومعها أسماء الشخصيات التي وقعت. ومن هنا تنبع القيمة الأساسية لهذا الكتاب لأنه يوفر مرجعا واحدا يمكن لكل من يريد اللجوء اليه، ثم واصل جهده ليقوم بنشر الكتاب عبر مركز أبحاث السودان الذي أسسه في واشنطون مع عقيلته الراحلة فوزية عمر عبدالغني التي توفيت والكتاب دخل في مراحل الأنتاج النهائية، الأمر الذي دفع الى تأجيل النشر بضعة أشهر. كما جاءت التصميم وطباعة الكتاب اضافة جميلة وتعبيرا أنيقا عن المحتوى القيم الذي تضمنه.

يعتبر الكتاب عبر فصوله الستة عشر تطويرا وتحريرا لتسع مقالات نشرها سلمان في العام 2012 حول الموضوع متناولا موقف مختلف القوى من شخصيات وقوى سياسية ,اقليمية ودولية، والى جانب هذه الملاحق تناول الخلفية الجغرافية والتاريخ السياسي لجنوب السودان فأندلاع الحرب الأهلية وتوسعها وجهود حلها والتدخل الدولي ثم بتفصيل كبير المحاولات التي قامت بها الحركة الشعبية للحصول على حق تقرير المصير والزام كل القوى السياسية الشمالية به منفردة ومجتمعة، حكومة ومعارضة مما سهل لها الحصول على مباركة القارة الأفريقية التي كانت تعتبر الحدود الموروثة من الفترة الأستعمارية بقرة مقدسة.
نجاح الحركة الشعبية في اللعب على تناقضات الساسة الشماليين تبدو وكأنها تسديد حساب وبضربة واحدة لما مارسه هؤلاء الساسة على رصفاءهم الجنوبيين ونكوصهم عن الوعد أثر الوعد منذ الأخلال الأول بتضمين أعلان الآستقلال مادة تنص على الحكم الفيدرالي لجنوب السودان في اطار السودان الموحد.  

يعتبر الكتاب تسجيلا أمينا لما عبر عنه عنوانه وبصورة حرفية: أي بالتركيز على دور ومسؤولية القوى السياسية الشمالية، لكن اذا نظر المرء الى قضية أنفصال جنوب السودان بصورة أشمل فالملاحظ ان الكتاب أما أغفل أو تناول بشئ من التبسيط عاملين مهمين: وهما دور بعض القيادات الجنوبية التي دفعت بسلوكها الى تشجيع قادة الشماليين والأستمرار في الأستهانة بالوعود المبذولة للجنوبيين. وهناك أيضا العامل الخارجي الدافع للأنفصال.

ففيما يتعلق بالنقطة الأولى أشار الكتاب وفي صفحة 115 الى أستقالة لويجي أدوك العضو الجنوبي في مجلس السيادة اثر تعديل الدستور لأسناد رئاسة المجلس بصورة دائمة الى أسماعيل الأزهري وحرمان الأخرين بمن فيهم لويجي من الرئاسة الدورية، لكن لويجي هذا هو الذي كان الصوت المرجح لأجراء الأنتخابات البرلمانية في 1965 مستثنية الجنوب بسبب الأوضاع الأمنية وذلك بعد تصويت أثنين من أعضاء مجلس السيادة لصالح أجراء الأنتخابات وأثنين الى جانب تأجيلها. وقام لويجي بحسم المسألة لصالح قيام الأنتخابات، وهي خطوة لا تستهدي بمصالح الجنوبيين اذ تحجب عنهم فرصة التمثيل في الهيئة التشريعية، كما انها جاءت معاكسة للموقف السياسي المعلن لحزبه الذي رشحه لهذا الموقع وهو جبهة الجنوب. وتكرر الموقف بصورة مقاربة عند أختيار ممثل الجنوب في مجلس رأس الدولة عقب أنتخابات 1986 عندما تم أبلاغ الدكتور باسفيكو لوليك بأختياره لشغل المنصب شريطة توقيعه لخطاب أستقالة يودع لدى رئيس الوزراء لأستعماله عند الحاجة، وهو ما وافق عليه الرجل. ثم هناك موقف جوزيف لاجو المؤيد لتقسيم الجنوب ان لم يكن المحرض عليه. وكل هذا يعكس واقع صراع وشقاق في الجنوب عبر عن نفسه حتى قبل أنفجار الصراع الدموي في دولة جنوب السودان الوليدة  في 2013 وذلك أبان الحرب التي أشتعلت بين فصيلي الحركة الشعبية أثر الأنقسام الشهير الذي قاده رياك مشار ولام أكول في مطلع تسعينات القرن الماضي ومات فيه من أبناء الجنوب على أيدي أخوتهم من أبناء الجنوب أكثر ممن قتلوا بواسطة الجيش السوداني وذلك وفق افادة في بحث قام به جوك مادوت جوك وشارون هتشسون ونشر في دورية الدراسات الأفريقية في سبتمبر من العام 1999. وهذه وقائع دفعت بعض القيادات الجنوبية الى مواقف أهتبلها الساسة الشماليون وبنوا عليها لحساباتهم الخاصة وتحتاج الى وضعها في الأعتبار.

أما بالنسبة للدور الخارجي فأن أول من تم الأتصال به ليكون مبعوثا للسلام في السودان على أيام جورج بوش الأبن كان مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية على أيام ريغان شستر كروكر. وافق الرجل لكن أشترط أن يلتزم بوش بحمايته من جماعات الضغط ليؤدي عمله بحيادية ومهنية، وهو الطلب الذي لم يقبل به بوش. فخلال أسابيع قليلة من دخول بوش البيت الأبيض أستقبل كارل روف مستشاره ومهندس نجاحاته الأنتخابية وفدا من المسيحيين بقيادة شارلس كولسون الذي أمضى في السجن سبعة أشهر لدوره في فضيحة ووترجيت وخرج منها مسيحيا جديدا. طلب الوفد من روف أن تضع الأدارة معاناة المسيحيين في جنوب السودان في صدارة أهتماماتها، وهو ما حدث طوال سنوات بوش الثمانية في البيت الأبيض رغم أن السودان لا يمثل أهمية سياسية أو أقتصادية أو أمنية لواشنطون، لكن أرضاء القاعدة المسيحية كان أحد أركان أستراتيجية روف لضمان أنتخاباب بوش والأستفادة من خطأ بوش الأب الذي تجاهل هذه القاعدة الأنتخابية ولم يتمكن من تجديد أنتخابه لدورة رئاسية ثانية.

على ان أهم دور في العامل الخارجي ما قامت و لاتزال المجموعة التي تضم روجر ونتر وجون برندرقاست وتيد داقني وأريك ريفز وسوزان رايس. ولوكالة رويتر الأخبارية تقرير واف عن هذا الدور نشرته في 12 يوليو 2012 تحت عنوان:
Special Report: The Wonks Who Sold Washington on South Sudan

ومن الأشياء الملفتة في هذا التقرير ان هذه المجموعة قررت ومنذ منتصف الثمانينات العمل على فصل الجنوب وذلك في الوقت الذي كان فيه جون قرنق يرفع راية السودان الجديد والوحدة، كما ان تيد داقني أستفاد من موقعه باحثا في الكونجرس ليصوغ مشروع قرار غير ملزم بأعطاء جنوب السودان حق تقرير المصير ويدفع به الى هاري جونستون الذي كان رئيسا للجنة الفرعية الخاصة بأفريقيا وعمل على أجازة هذا القرار بالأجماع في 1993. ويذكر ان جونستون أختاره الرئيس بيل كلينتون مبعوثا له الى السودان في أواخر فترته في البيت الأبيض لكنه لم يلتقه و لامرة واحدة حتى نهاية رئاسته.  

يبقى القول ان هذا الكتاب بمادته، التي أضافت اليها طريقه طباعته وأخراجه، يمثل مصدرا لا غنى لأي باحث عنه، وهو ما يفرض واجبا وتحديا أمام نشره داخل السودان وبمستوى مقارب على الأقل لأن القراء السودانيين هم الجمهور المستهدف أساسا من هذا العمل.

asidahmed@hotmail.com

 

آراء