انقلاب الفريق عبود في 17 نوفمبر 1958: ودخل السياسة الما بتداوى (2-2)

 


 

 

مرت بيوم 17 نوفمبر الماضي الذكرى الرابعة والستين لانقلاب الفريق إبراهيم عبود في 1958 بعد عامين من استقلال السودان في 1956. وبدأت بذلك عهود النظم العسكرية كان هو فيها الأول من ثلاثة حكمت لثلاثة وخمسين عاماً من سنوات استقلال السودان الست وستين. وتخللتها ثورات للديمقراطية أطاحت بها واحداً بعد الآخر. ولم تدم النظم الديمقراطية العاقبة لسوى ثلاثة عشر عاماً في الحكم.

ويريد هذا المقال تفكيك نظرية عبيطة نظرت إلى "التسليم والتسلم" (أي تسليم عبد الله خليل المدني رئيس الوزراء الحكم للفريق عبود الجياشي في نوفمبر 1958) المزعوم لتروج بأن الانقلاب هو من بنات أفكار الساسة الغلبتهم السياسة فاستدعوا الجيش ليعينهم في محنتهم. ولا يطرف لأهل النظرية ذهن وكثيرهم يشيد بحكم الجيش وعزائم رجاله في حين يسفلون بالجيش هكذا حتى صار عندهم "اضينية" المدنيين يجرجرونه للحكم جرجرة.

وفي بقية المقال نحاجج أن من وراء الانقلاب سياسات عسكرية بحتة نعرض للتي كانت من وراء الفريق عبود.

خلافاً لما يقال عن نظافة يد الجيش عن السياسة نجد بعض الضباط في انقلاب 17 نوفمبر أنفسهم تصالحوا مع فكرة أن السياسة قد دخلت الجيش في ذلك الوقت. وقال بذلك العقيد حسين علي كرار، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة وسكرتيره، للجنة التحقيق مع مدبري انقلاب 1958. كان الانقلاب في الجو كما يقولون ودار الخلاف حوله فيمن سيقوم به منهم: هل تقوم به المؤسسة بضباطها العظام أم صغار الضباط؟ وجاء في تقرير التحقيق في الانقلاب قول أحدهم إنه إن لم يقم الكبار بالانقلاب فسيقوم به الصغار. بل كشفت القيادة انقلاباً لصغار الضباط بقيادة يعقوب كبيده في 1957 وأحالت ضباطه للاستيداع وفيهم الرائد جعفر محمد نميري الذي قام بانقلاب مايو 1969 وصار رئيساً على البلاد حتى أزاحته ثورة أكتوبر 1964. وكذلك الرائد محمود حسيب الذي نفته الحكومة بعد ذلك من الخرطوم إلى بلدة لقاوه ليعود مع انقلاب مايو للميدان السياسي. وكانت الشبهة أن مصر من كانت وراء تحركات صغار الضباط.

وكانت للجيش سياسته المهنية المحلية بجانب عيونه المخطوفة ببريق انقلابات العالم كما تقدم. فكان خالط الضباط شك في قدرة المدنيين على ضبط الأمن والنظام بعد حوادث أول مارس 1954 التي صادم فيها شعب الأنصار وحزب الأمة الشرطة ووقعت ضحايا من الطرفين يوم افتتاح البرلمان. وكان حاضراً الافتتاح الرئيس اللواء محمد نجيب الذي يتهم الأنصار وحزبهم مصر بالوقوف من وراء خصمهم الحزب الوطني الاتحادي، الداعي لوحدة السودان ومصر، سياسياً ومالياً حتى فاز عليهم. وكان أكبر مطعن في السياسيين في الحكم بالطبع اضطرابات جنوب السودان في أغسطس 1955، المعروفة ب"التمرد" التي خرجت فيها الفرقة الجنوبية للجيش مع السياسيين القوميين ضد حكومة الخرطوم. ونجح الجيش في إخماد التمرد بعشرات الضحايا خاصة بين المدنيين من شمالي السودان.

ولم تخل سياسات الجيش من ململة من شروط خدمتهم في زمن تحولت القيادة عليهم من الإنجليز إلى "ملكية" سودانيين. فكتب الصحافي جعفر حامد البشير عن كيف كان أحد معارفه القديمين وهو اللواء أحمد عبد الوهاب، الرجل الثاني في انقلاب عبودـ، يبثه الشكوى عن انصراف الحكومة الوطنية عن العناية بالجيش. فقال له إنهم حين يقارنون منازلهم ومخصصاتهم مع الضباط في العالم العربي يجدون أنفسهم في الكفة الخاسرة. وحث اللواء عبد الوهاب صديقه الصحفي ليكتب عن تلك الأوضاع قبل أن يعرضها القائد العام للحكومة عن طريق وزير الدفاع. وسعد عبد الوهاب بعد اطلاعه على ما كتبه صديقه الصحفي في جريدة "صوت السودان".

أما تذمر الجيش الأكبر فكان حول استحقاق أن يكون على رأسه فريق لا مجرد لواء. فقد رفضت الحكومة الوطنية في 1956 ترقية اللواء أحمد محمد باشا، أسوة بالقائد الإنجليزي للجيش السوداني الذي حل محله بعد الاستقلال، لرتبة الفريق بحجة أن عددية الجيش لا تؤهله لقيادة في مستوى الفريق حسب العرف العالمي. فاستقال اللواء أحمد وصارت مسألته على الشيوع في الصحف. ولا بد أن مظلمته قد كدرت العسكريين وهم يرون الملكية وقد سقطت ثمار الاستقلال والحكم كلها في عبهم.

هذا التشخيص للسياسة في الجيش قبل انقلابه الأول في 1958 مما قد يعيننا في فهم تحول غامض في الانقلاب إلى يومنا. فكان فهم ضباط الانقلاب حتى نهار 18 نوفمبر أنهم إنما ينفذون إجراءات الطوارئ التي أمر بها عبد الله خليل رئيس الوزراء ووزير الدفاع. وأنهم بصدد صياغة ترتيب سياسي مدني عسكري كان قد كلمهم عنه. ولكن ما اجتمع القادة في نهار 18 نوفمبر حتى فاجأهم عبود بأنهم في حالة انقلاب لا طوارئ. وتلا عليهم قائمة بأسماء أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الانقلابي وقائمة بأسماء مجلس الوزراء طعم العسكريين فيها بمدنيين. وما يزال غامضاً انقلاب السحر على الساحر ذاك. وقد تُلقي سياسات الجيش التي أتينا عليها بعض الضوء على ذلك التحول المريب. فلربما أسعد الجيش، وهو مثقل بمظالم في الخدمة في شرط الاستقلال، أن جاءه الانقلاب يسعى إليه لا يكلفه مشقة السعي له. فانتهز السانحة غير هياب ولا حذر.

تواضع فكرنا السياسي على أن الجيش ينقلب على النظم الديمقراطية لتدارك الأمة من طيش السياسيين لا أصالة بما تمليه عليه سياساته المؤسسية والمهنية. وجعلت هذه العقيدة منه وصياً على الحكم. وهذه الوصاية على الحكم هي مادة خطب الفريق البرهان وذريعة انقلابه في 25 أكتوبر 2021. ويحتشد حولها جمع كبير من المدنيين كل لغرضه وفي توقيته. والخاسر الأكبر من هذه العقيدة وتجييشها هي قضية الديمقراطية التي لا مهرب منها إن أردنا وطناً يستثمرها لعافيته السياسة والاجتماعية.

ولا أعرف من نعى الديمقراطية السودانية في أول مصارعها كمثل النيويورك تايمز غداة انقلاب عبود في 1958. قالت إن عبود تدرع مسؤولية جسيمة. لقد أطاح بنظام ديمقراطي لتحل محله ديكتاتورية عسكرية. وليس هذا مما تنشرح له النفوس.

ولم تنشرح نفوس السودانيين لعقود تحت النظم العسكرية. ولم يسقموا من تغييرها.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء