انهيار وطن (١) 

 


 

 

قراءة للراهن السودان من قبل الأساتذة عاصم البلال الطيب، المحامي نبيل بانقا، والكاتب خالد عبد الله وآخرين


إفادات خبراء من أبناء الوطن:

إن فكرة هذا المقال نشأت بعد حديث متبادل بين أخوين في الله، صديقيّ دراسة، لم يلتقيا منذ أكثر من ثلاثة عقود. جاءت الفكرة بينهما تلقائيا، كما أتت وتبلورت كل التفاعلات التي نشأت بينهما في سياق الصحافة، الأدب، والاهتمامات المشركة الكثيرة. تساءلا في ذاك الحديث الصباحي عن مآلات الراهن في بلادهما المكلومة، وعن جراحات الماضي التي بصمت بحدتها وشقاوتها على وجه إنسان النيلين. تألما حقيقة، وندبا حظهما العاثر، لمَاذا يا رب السودان؟ لماذا الحروب والقتل والسلب والتشريد؟ فجاءت فكرة مشتركة بينهما تقتضي كتابة سلسلة مقالات مشتركة يستطيعا من خلالها هضم هذه المرارات التي تتأتى إليهما في كل لمحة ونفس، وأن يقرآ، سويا حالة البلد وما آل إليه في الفترة الأخيرة. فقد يتفقا في فكرة ويختلفا في أخرى وهذه سنة الحياة فلو لا اختلاف الآراء لبارت السلع.

بعد حديثهما الثنائي قاما بمراسلة بعض الأصدقاء من ذوي الكفاءة والخبرة في المجال السياسي: الأستاذ المحامي نبيل بانقا، الأستاذ الكاتب والصحفي خالد عبد الله أبو أحمد، الدكتور فيصل عبد الرحمن، الأستاذ هشام عبد الملك الجعلي وآخرون. استنفراهما جميعًا أن يكتبوا ما يدور بداوخلهم وكيف يحللون الوضع الحالي بالبلد. لذلك فسوف يأتي هذا المقال – على غير العادة – بإفادات جلّ هؤلاء الخبراء الذين ذكروا أعلاه وسوف ينبريا لمتابعة السلسلة في الأعداد القادمة لصحيفة المدائن بوست، أخبار اليوم، وصحف إلكترونية وإسفيرية أخرى مع من تبقى من إفادات لأولئك الإخوة.


بعد الغياب ... لقاء في وحي الكلمة:

غياب طال السنين الطوال وشاءت الأقدار أن ينتهي، ليبدأ مجددًا بلقيا حميمة صادقة ونبيلة بصحن مجموعة أبناء مدرسة المؤتمر الثانوية. ومن هؤلاء رجال عاهدوا الله في حب الوطن كما في الآية الكريمة: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). أحبّوا وطنهم السودان بنكران ذات بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، فمنهم المحامي والطبيب والمهندس والبروفسير والموظف والضابط العسكري، ونجد بينهم كل أطياف المهن الجليلة الوازنة. إنها صداقة عميقة بيننا، محبة وافرة وأمل مشترك في أن يشفى الوطن من جراحه وآلامه التي طالت وتفاقمت ولا تفتأ أن تزداد يومًا تلو الآخر. نعم، جمعتنا نحن، لا سيما بعد النأي في أرض الله الواسعة، حب الكلمة، واحترام الأقلام والعمل الصحفي المضني. نتفق، نفترق، نقترب، نتحاور، نتشاور في العديد من الأمور. همنا أن يخرج الوطن الحبيب إلى برّ الأمان، وأن يلقى أبناؤه الحياة الكريمة التي حلموا بها وصارعوا من أجلها، خرجوا في المواكب العارمة، أسسوا عملًا مستداماً لمليونيات لم يشهدها العالم البتّة بهذا التردد وبهذه الوتيرة. إنّها يا سادتي بكل صدق حصة أو محاضرة للعالم في ماهية الكفاح والوطن والذود من أجل لقمة الحرية. يلقنون الأمم فيها، نعم، يتعلم من هم خارج السودان من أبنائه وبناته الكنداكات، من ثائر لا يملك إلا نفسه حينما يقف أمامه المدجججون بالأسلحة والعتاد، لا يخاف الموت ولا يهاب المذلة، كل هذه التضحيات في سبيل رفعة وطن أرضعهم نيله خيرا، وأسبغهم فضلا.


عاصم البلال الطيب – إفادة من قلب الحدث:

وإفادتي أنا شخصيًا، عاصم البلال الطيب، مدير تحرير صحيفة أخبار اليوم اليوميّة، اسمحوا لي أن أسردها عليكم كما يلي:

رسالة العالم التحذيريّة:

لم يتبق غير مقالة واحدة واخيرة يكتبها جموع ابناء السودان المتفقين عليه وطناً ومأوى وسكنا، رسالة للعالم ليست استغاثية إنما تحذيرية من لهيب لو اندلع لحرق غابات الإنسانية، مقالة عنونتها الرئيسة:


انتباه بعد طعن العميد:

والمعنى العميد شرطة بريمة المغدور في مواكب الخميس ١٣ يناير 2022م قرب معمل السير استاك التاريخي بالخرطوم، السودانيون مغرمون بالأسماء القديمة، غرام يتطلب دراسة نفسية، قليل من يوصف لك جهتك لو جاورته بالمعمل المركزي المسمى الوطني لهذا الصرح المؤشر لنهضة سودانية لم تكتمل، سقط العميد قرب معمل السير استاك بطعنات مركزات تبدو مع سبق إصرار وترصد وتمهلٍ كافٍ لوضع حجر أساس اللهيب الأعظم والحريق الأفظع! نُقلة نوعية خطيرة في صراع الشوارع لتغدو حربا جيوشها شتى وضحاياها لا حول ولا قوة لهم بعدتهم وقلة حيلتهم.

اتفاقية سلام جوبا، تداعياتها تثبت أن استمرار الحرب كان ارحم من سلام ارعن، بها وبتداعياتها يتعقد المشهد ويتأزم وتصريحات بعض قادتها غير مسؤولة ولحرب الشوارع والمدن مروجة تهديدا او تحذيرا صدقاً وكذباً سيان، فهي سوق نخاسة ونجاسة للتكسب والتنضع في وطن لم يعد للقماري ويعج بالناس الحيارى مما يدور من حولهم ويتناهى إليهم شؤماً وقبحاً  ولؤما على مدار الثانية من اخبار مضروبة ومحبوكة وأخرى بخبث وعناية محيوكة، يسقط قتيل في سوح المواكب مجهول الهوية أو بحجم عميد، فالاتهامات المعلبة والمشتتة جاهزة لخدمة الجاني للمتضاحك هناك بعيدا الناجي!

مظاهر تترى ناقلة سوداننا بقوة دفع هائلة لمرحلة اللادولة ولا عودة، من يتصورون قربا  لسيناريو النعيم يستجيرون بالأيلولة لتجاريب الموت والهلاك والدمار في ليبيا واليمن وسوريا، أما من يوقنون من وشووك سيناريو الجحيم، يوعدون الدنيا والعالمين بانتظار السيناريو الآخر الذى لا عين رأت ولا أذن سمعت، السيناريو السودانى مضربا لآخر الامثال للاقتتال والاستطحان بلا هوادة و طائل و عجن عاجن، نظرة خاطفة من حولك تهليك القنابل غير الموقوتة لانفجار مضمون في كل زمان ومكان، استقطابات عرقية وتشاحنات عنصرية وتجاذبات فكرية وفروقات مجتمعية وسحنات متباينة تنبئ الزائر هذه ليست أمة واحدة بل شعوب وملل ونحل ببعضها متربصة، أحزاب وجماعات سياسية فاشلة منذ التأسيس والنشأة الأولى، تسببت في هزم الديمقراطيات ومكنت للشموليات ورهلّت النظاميات وتعمل على تفريق السودان أيدى سبأ،

 تخلق المكونات الانتقالية جميعها بضعفها وهوانها وضعا بائساً أسيفاً وتضع البلد على شفير هاوية حرب لاخروج منها ولا رماد لنيرانها جراء الصراع العبثي الممجوج الحالي في زمن يفقد فيه ما يسمى بالمجتمع الدولي والأممي السطوة والبريق والرشد، ومملوء بالأنانية وعاج بالسماسرة والرشاوى، فما تدخلت بعثة منه في بلد بدعوى حل ازمة إلا وكان أصيلاً فيها وموقدا نيرانها ومحيلا أهلها لوقودها، ومبادرة الأمم المتحدة عبر بعثتها الفنية المتكاملة لدعم الفترة الإنتقالية، لا تجد قبولا جامعا ولم تهدئ من أنفاس الثائرة من رفضتها جملة وتفصيلا بحسبانها قبلة حياة للمكون العسكري وقيادته غير المقبولة لدى المحتجين والرفض سيفضى ببعثة فولكر للجوء للخطط البديلة وكلها مصيبة ازاء هذا الانقسام وعدم الثقة وقد بلغ اتهام المكون العسكري في حادثة مقتل العميد من قبل المعارضين المحتجين والاتهام ذاته يلوح به من الطرف الآخر بوجود قتلة بين صفوف المتظاهرين، وسائل التواصل والدردشة الاجتماعية تتحول لأكبر حاضنة للتعبير عن كراهية مستشرية بين السودانيين والحرب الأهلية أولها كلام، واقع مزر ومخيف وما من كتلة قوية الآن للسيطرة على الأوضاع المأزومة المفتوحة فتائلها والمخبوءة ألغامها للانفجارات المجلجلة في وجوه الكل وتمتد حرائقها حتى حائط المبكي وتهز جدر أعتى البورصات العالمية وتشيع الأجواء المثالية للهجرات العشوائية والأنشطة الإرهابية فتنداح في كل الدنيا وتغير قسريا أوجه الحياة وتفقد البلاد هوياتها واحدة تلو الاخرى، فوالله ليس عبثا الجارى في بلاد العم سودان يا شعوب العالم يا ابناء حام وسام فانتبهوا لخطر ماحق يبدل دفة حيواتكم.


خالد عبد الله أبو أحمد – إفادة من البحرين:

ومن البحرين جاءنا خبر يقين، يكتب فيه الأخ الفاضل خالد عبد الله أبو أحمد عن تجربته المريرة عن حال السودان. وهذا الرجل كاتب وله مؤلفات في الشأن لا يشق لها غبار، لا سيما، كتابه الذي سيصدر قريبًا بإذن الله تحت عنوان "عباقرة الكذب" وفيه يشرح الأستاذ خالد تاريخ الثلاثة عقود الماضية التي حرمت السودان من المشاركة الفعالة في المنظومة العالمية وفيها انطوى وتقوقع على نفسه كالحلزون، أو كما في حيوات السلحفاء في نومها الشتوي، لكن نوم بلاد النيل والمليون ميل مربع المبتورة، طال سنين عددا.



الشعب السوداني بين التفاؤل والإحباط:

القرار الذي اتخذه المجلس المركزي القيادي لقوى الحرية والتغيير يوم السبت بالتعاطي الإيجابي مع مبادرة بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لمساعدة الانتقال في السودان (يونيتامس) لحل الأزمة في البلاد، جعل الكثير منا يتفاءل بحل للازمة السودانية التي امتدت قرابة العام وتفاقمت أكثر بعد القرارات الانقلابية التي صدرت عن الفريق عبد الفتاح البرهان في ٢٥ أكتوبر الماضي.

وزاد من التفاؤل أكثر الرؤية التي قدمها المجلس القيادي لقوى الحرية والتغيير للبعثة الأممية والتي تضمنت مقترحات لتطوير المبادرة الاممية اعتقد انها غاية في الأهمية قد تغير الأمور في السودان وخاصة فيما يتعلق بإنشاء آلية بإشراف أممي على أن تضم دول الإقليم والمجتمع الدولي، ودول الترويكا والاتحاد الأوروبي، بهدف تطوير المبادرة الأممية ووجود ضامنين دوليين.

لجان المقاومة ترفض

مع تفاؤل السودانيين بموقف الحرية والتغيير القبول بالحوار والتعاطي الإيجابي مع مبادرة الأمم المتحدة فإن لجان المقاومة التي تحرك التظاهرات في الشارع السوداني  عبر المتحدثين الرسميين باسمها رفضت  الدخول في أي شراكة جديدة مع قوى الحرية والتغيير.، وهو ما يشير إلى ان هذا الرفض سيجعل الوضع كما هو عليه باستمرار الخلافات وتدهور الاوضاع في البلاد، وبالتالي أن العسكريين سيجدوا الفرصة والمبررات الكافية للتمسك بالسلطة وبالتالي عدم الاستمرار في المشاورات الجارية التي يقودها ممثل الأمم المتحدة السيد فولكر بيرتس.

أمل في حل الأزمة

اعتقد أن الرؤية التي قدمتها قوى الحرية والتغيير للمندوب الأممي تعطي أمل في حل الأزمة خاصة في المقترحات التي المتمثلة في إنشاء آلية بإشراف أممي على أن تضم دول الإقليم والمجتمع الدولي، ودول الترويكا والاتحاد الأوروبي، اعتقد في هذه النقطة ربما يرفض العسكريين هذا المقترح، لان دول الترويكا والاتحاد الاوربي والكثير من دول المجتمع الدولي تتفق مع ضرورة أن يكون في السودان حُكم مدني، وهو ما يسعى العسكريين لعرقلته، فإن وجود ضامنين دوليين يغلق الباب على العسكريين ويلزمهم بالمخرجات التي يتفق عليها الجميع.

إن مقترحات قوى الحرية والتغيير قوية جدا وستجعل العسكريين يقفون ألف مرة مع أنفسهم لأن المقترح ينادي بضرورة تحديد سقف زمني للعملية السياسية، وفقاً لإجراءات واضحة وانهاء حالة الطوارئ في البلاد، وقد أصبح الآن العسكريين محاصرين خاصة إذا تم قبول مقترحات الحرية والتغيير التي سيساندها دول الترويكا والاتحاد الاوربي والكثير من دول المجتمع الدولي والهيئة الحكومية للتنمية بشرق إفريقيا (إيغاد).

 بين التفاؤل والاحباط

اعتقد أن العسكريين في السلطة سيحاولون مضيعة الوقت والتأخير في العمل مع المندوب الأممي، وسيحاولون خلق اجسام سياسية هشة مطلبية تخلق نوعا من الارباك في المشهد السوداني، خاصة المرحلة المقبلة ستشهد قراءة كل المقترحات من كافة الجهات التي التقاها ممثل الأمم المتحدة السيد فولكر بيرتس، ودراستها ويبقى في النهاية انتظار وجهة نظر العسكريين في السلطة باعتبارهم العضو الأهم في المعادلة السودانية الذي يعرقل كل مراحل الانتقال السلمي للسلطة.

ويبقى الشعب السوداني بين التفاؤل والاحباط وانتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة.


إفادة الأستاذ المحامي نبيل بانقا:

تحدثنا نطلب منه رؤيته للوضع الراهن في البلد، حيث إنّه يسكن في صحن الشأن القضائي والحراك الجماهيري، تارة كمحامي وتارة أخرى كفاعل اجتماعي، يساعد ويساهم بكل ما أوتي من خبرة، حنكة وكرم، تضميد جراح الآخرين، من نسوة سُلبت أملاكهنّ، وأطيفال ضاعوا في براثن الهلاك، وصبايا حُرمن من شرفهنّ لأسباب لا يتسع المجال لذكرها في هذا السياق، لكنّنا كلنا نعلم بما حدث، ويحدث وسيحدث، وإياكم تلك القولة الشهيرة (وحدث ما حدث). فهذه الجملة تعطي إشارات بيّنة وواضحة للكثير من التجاوزات العسكرية داخل المنظومة نفسها وخارجها تجاه الشعب والوطن.

فإليكم ما أدلى به الأستاذ المحامي والقانوني نبيل بانقا، حيث يتعرض لبعض المحاور العامة فيما يتعلق بالوضع الآني في السودان، قائلا "ربنا يستر حال البلد"، يقول "في هذه اللحظة، نحن نعيش حالة حرب حقيقية بكل المقاييس، حرب قوامها العسكر والمدنية، حرب شعواء حقيقية بكل ما تحمل الكلمة من معنى."

ويسترسل قائلا:

يدخل السودان الآن معطفا خطيرًا جدًّا في تاريخه، ألا وهو انسداد الأفق، السياسي والأمني على حد سواء. وحتى الاقتصادي، وبالتالي انهيار الدولة بشكل كامل: أي أنّ السودان الآن ليست به مؤسسات دولة، وليست به حكومة، وينعدم فيه العمل الوزاري، أقصد لا يوجد وزارت فاعلة تتصدى لشؤون الدولة وتقوم على أمور مواطنيها. ومن جهة أخرى لا يوجد عمل بشكل طبيعي يومي، وإن تساءلنا ما هي مقومات أي دولة، فبطبيعة الحال هو العمل الجاد في مؤسساتها المتباينة وفي بطون مصالحها البنيوية. وهذا إن عكس فإنما يعكس أن الأمّة في حال عصيان مدني ضمني أي غير معلن. إذ يحفُّ هذا العصيان المدني عقبات كثيرة منها انسداد للأفق وانسداد للطرق ولكل مناحي الحياة العامة والشريفة. فصار البلد منسدًا على نفسه، كحال جثّة هامدة أو لنقل، كحال مريض الكورنا في غرفة الإنعاش المكثف، والاختلاف بينهما يتموقع في أن المريض يجد العناية، بينما الشعب متروك للهلاك فليس لأمراضه المعضلة شافٍ غير الله وأيادي القدر.

والشيء الذي يحزنني أن الناس ترفع شعارات واهنة – دون مضمون – قد تضر أغلب الظنّ بمصلحة البلد. فهذه الشعارات الواهية تنطوي على أذرع عدّة: لا شرعية، لا تفاوض ولا حتى مشاركة فعّالة أو نقد بنّاء للسير بالبلد إلى مخرج آمن. فهذا ما يقلقني ويحز في نفسي. والجدير بالذكر أن هذه الشعارات تُرفع من قبل بعض الأحزاب بيد أنّها في الفترة الحالية وفي آننا هذا بدأت تتراجع بسبب بعض الضغوطات الدولية المتتالية، والمبادرة الأمميّة في التخلي عن بعضها، وهي في الحقيقة محاولة إيجاد حلول وفرص حقيقة لإيجاد برامج فعّالة مستدامة بمثابة حد أدنى لكي تتفق عليها كل الأطراف التي تشارك في الفترة الانتقالية (مشاركة فعّالة أو ورقيّة) حتى تسير الدولة إلى طريق التقدم، والسلام والعدالة التي ينشدها الكل في هذا البلد المعطاء. ومن ضمن هذه الأطروحات نجد إلغاء الوثيقة الدستورية الحالية والمعيبة والتي كانت بالأساس السبب الذي أوصل البلد إلى هذه الأزمة التي تكاد تكون الأولى من حجمها ونوعها في تاريخ السودان المديد، وأن تستبدل بوثيقة دستورية مؤقتة أخرى تحل محلها أو دستور لحين اكتمال الفترة الانتقالية بالتمام والكمال.

وأسمحوا لي أن أشير أن الأسوأ من كل ذلك أنّ الشقّ العسكري لا يفتأ يضيق على المواطن في كل سبل الحياة يومًا تلو الآخر. فنحن نشهد تضييق الحريات الفردية، ورجوع الفلول الغابرة إلى أماكنها، وحبس صوت الحرية في المنابر العامة والخاصة، فصار البلد كالسجن. لقد شهدنا في الأسابيع الماضية إغلاق مكاتب قناة الجزيرة، التي كانت تبث الأحداث أولًا بأول، تفضح وتنقد وتستضيف الأصوات المتباينة في برامجها وحلقاتها العديدة. ضف على ذلك تردد الاعتقال التي تستمر بشكل لم يشهد له البلد مثيل وكأنّه أمر طبيعي. وهنا منح العسكر كل السلطات للقوات النظامية وغيرها في الاعتقال، التفتيش، والتعذيب دون أدنى أوامر من أيّة جهة عدلية، استنادًا لقانون الطوارئ، بما في ذلك القتل. فكل ذلك ما من شأنه إلا تأزيم المواقف أكثر فأكثر. وهناك خطوة اتخذتها القوات العسكرية أنّها كونت المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأدخلت قوات الدعم السريع في هذه المنظومة، وإلى الآن لا أحد يعرف نتيجة هذه الخطوة: هل هذه الخطوة هي بداية لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية (الجيش)؟ أم أنها لعبة جريئة لتوريط قوات الدعم السريع في أي خطوة يتخذها الجيش في المرحلة الحاسمة والقادمة. وكل هذه الأطروحات سوف تكشفها الأيام القليلة القادمة. فهناك علامات تشير من هنا وهناك، وتوحي بأن الجيش مستعد لإنهاء هذه الأزمة بالتنازل عن العضوية في مجلس السيادة. وهذا القرار أو الخطوة عندما تقرأ على حدة يمكن أن نستنج منها أن الجيش سوف يترك المجلس السيادي للمدنيين، ذلك بما أنّه كون مجلسه الخاص الذي يمتلك نواصي الأمور وزمام الحل والربط بالحكومة بقوته الضاربة وبيد من حديد. ذلك يقتضي أيضًا إنشاء حكومة كفاءات برئيس وزراء الخ، وفي نفس الوقت يكون المجلس العسكري الجديد المكون مسؤول عن فترة ما بعد الانتقال، فذلك يمنحه الشرعية في التحكم بخيوط اللعبة في أي حين وربما تأمين البلاد، وحسبي أن تكون هذه الخطوة أي تكوين مجلس للقوات المسلحة، هي ربما الأفضل لفرض سيادة الدولة وتأمين الوطن من البلاء. حقيقة إنّ بلدنا السودان يتواجد الآن في مهب الريح والأيام القادمة حبلى بأحداث كثيرة وفيرة، ونتمنى أن الناس تجتهد في هذه الفترة المقبلة للوصول إلى مفاهيم وبرامج كحدّ أدنى، لتخرج من قاع النفق الذي دخلت فيه. وقد ذكر رئيس الوزراء المستقيل أن هناك ضوء في آخر النفق، بيد أن ذاك الضوء، للأسف، قد اختفى وتلاشى، فصرنا نبحث عنه في كل بقعة. والآن كما أسلفت نجد أنفسنا في قاع ذاك النفق المظلم ونسعى جاهدين لوجود سبل الخروج من هذا القاع القاتم الحالك.

اللهم أحفظ البلاد والعباد ويوفق الأمّة إلى ما فيه خيرها.

على صعيد آخر سيصل إلى البلاد وفد أمريكي، في خلال يومين، وهنالك أيضًا وفود أخرى من الاتحاد الأفريقي ستصل أيضًا للمشاركة في قضية الحوار الوطني الوازن بحيث أن الناس ليس لديها أي خيار غير أن تتشاور وأن تتفق على حل المشاكل والمعضلات. وإلا فسوف تضيع البلد إلى ما لا نهاية.

(يتبع)



bakriabubakr@cox.net

 

آراء