ان جمالك يؤذينا … بقلم: د. احمد خير/ واشنطن
الخرطوم ، إسم فيه سحر وعطر وخدر ينساب بين مشاعر من يهمس به . من أين جاء ولماذا كل هذا العبق ودلالات الجمال ! أمن لقاء النيلين ، أمن الخضرة المروية ، أم من أهلها المتدثرين بشمسها التاركة أثرها على الوجوه من سمرة وزرقة وبين بين ؟! هذا الجمال والسحر البائن للعيان لابد وان يكون من ورائه أسرار تحتاج إلى من يعمل على سبر أغواره ليخرج لنا بتفسيرات عجزنا من ان نتوصل إليها . أنا لا أتغزل فى العاصمة السودانية ، وكل مارميت إليه هو أن أجد المفتاح السحرى لهذه المدينة الواقعة فى حضن النيلين الأزرق والأبيض . المتوشحة بلون الطمى فى موسم الأمطار وبلون السماء زرقة فى فصل الشتاء ! من أين الولوج إلى سرها وكنهها وكيف ؟!
الخرطوم ، بجمالها هذا الآخاذ لها نرجسية فاقت معها أقرانها من المدن ! فهى توحى لك بأنها طوع بنانك ملبية كل ماتشير به ، ولكن عندما تغضب، تريك الجانب الآخر الذى يجعلك تفر منها خيفة ! لماذا ؟! وماهو السر فى الترحاب المنقطع النظير وفى الجفاء الذى يترك العديد من علامات الإستفهام ؟!
يقول البعض أن سرها يكمن فى مدى صبرها على مايفعله المقيمين فيها ! فالخرطوم مدينة عرفت السياسة وتقلباتها منذ نعومة أظافرها ، وبالتالى فهى قد تشربت من كل لون جرعة ! نعم هى تحزن لحزن سكانها ولكن ماباليد حيلة فهى لاتملك المصباح السحرى وليس لها القدرة لتقول كن فيكون !فإذا كان الناس على دين ملوكهم ، فالخرطوم على دين حكامها ! منهم من رفع علم الإستقلال فكانت عندها بشوشة مرحبة بأهلها وكل قادم إليها. كانت تضم الجميع بحنو بائن جعل الجميل يتمايل طربا ، ثم جاء العسكر فهجرتها الأطيار المغردة وحلت على أشجارها الغربان ، ثم إستقبلت أكتوبر الأخضر بثوب أخضر جعلها تقوم من ثباتها مع نغمات أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باق . وإنطلقت الزغاريد فى كل منزل ومنحى . وكانت " خرطوم بالليل كويس " وباتت الخرطوم تسهر حتى فجر يوم جديد تضم العشاق وكل ناثر للحب وحامل فرشاة يجمل بها أطرافها وأركانها . ثم جاءها حكم من جبهة هيئات ماراعت فيها سكونها وهيبتها فباتت عجلة السياسة تعمل بسرعة أفقدت المدينة سكونها ووقارها ، ثم جاء حكم سمى بالقومى أظهر من الخلافات مانتج عنه تردى كل شئ مما سهل على العسكر من القفز مديرين دفة السفينة إلى إتجاه آخر مما أغضب المدينة وحطم قلبها ، ثم إنقلاب عسكرى آخر خرجت فيه الرايات الحمر معلنة بتوجه مغاير أخاف الجماهير وهز أركان المدينة ! وإذا تساءلنا عن كنه تلك الرايات وهل كانت فى الحقيقة تعبر عن أمانى الجماهير لما توصلنا إلى تفسير سوى أن رغبة البعض فى التعبير عن كسر حاجز الصمت الذى فرضه النظام الحاكم وسرعة التغيير الذى كانت ترغبه الجماهير أدى بالبعض إلى ذلك المنزلق الذى لم يجد ترحيبا من الخرطوم بالرغم من صمتها وبركان الغضب الذى كان يأتلج صدرها بفعل سفاح ساقه القدر إلى سدة الحكم ! إلى أن عبرت الخرطوم مرة أخرى عن غضبها فثارت وقلبت كل الموازين ولكن شاء لها أن يتولى الأمر فيها أناس عملوا على تهدئة ثورتها ورويدا رويدا إستسلمت لحكم قومى آخر وكانها لم تتعلم من ماض قريب لتتكرر المأساة وبنفس الوجوه ، إلى أن جاء يوم كالح لم تشهد له مثيل من قبل ، يوم إجتمع فيه العسكر مع الأبالسة ، خرجا بمسرحية لم يسبقهما عليها أحد ! تشاركا الحكم . ومنذ ذلك التاريخ والخرطوم غاضبة تلعن اليوم الذى جعلها تعيش لتشهد مسرح اللامعقول . فإجتماع السجن مع القصر فى سابقة لم يشهدها تاريخ المدينة أو أية مدينة فى العالم جعلها تهز رأسها عجبا . ومن كثرة ماتوالت عليها العجائب لم تتمكن من العودة إلى هدوئها كما سابق عهدها وبدأ اليأس يأخذ منها مأخذا ، فيوم يأتيها شيخهم الذى علمهم السحر وفى يوم آخر يهل الآخر ببذته العسكرية يرقص طربا على أشلاء من ذهبوا وكيتن فى الباقين ! والمدينة فاغرة فاها غير محدثة بما يعتمل فى صدرها !
انها تشهد إعادة لتراجيديا مدينة إسبرطة التى تحولت بين عشية وضحاها إلى مدينة عسكرية لاشئ فيها إلا العسكر أو مايخدم العسكر من معسكرات وتجييش ! ولما لا وكل منفلت أصبح يخرج على المدينة مستعرضا مايملكه من مليشيات مسلحة يقول صراحة أنها كونت من أجل كبت غضب الجماهير وللحفاظ على النظام المتهالك الذى لايجد سندا لدى الجماهير فبات يبحث عن سند آخر يحميه من الجماهير ! والمدينة غاضبة وصابرة تلعن ليلها وصباحها ! عابثة بعد أن فارقتها الإتبسامة منذ مايربو عن العقدين !
هل ستظل مدينة الخرطوم صابرة مستكينة ؟! وإلى متى ؟! ينظر البعض إلى أشجار اللبخ المتناثرة على ضفاف النيل ولكن لايعلمون أن عروقها قد ضاقت بها الأرض وباتت تئن وهى تفتت ماردم عليها من أسمنت وخرسانات فى محاولة لدفن أسرارها وخنقها لتموت فى سكون وبلا ضوضاء ! ولكن هل منكم من رأى غضبة الطبيعة ! نعم عندما تهن الأنفس ويصبح الإنسان خانعا متقبلا للأمر الواقع تلعب الطبيعة دورها فينقلب كل شئ مع ثورة الأرض والمياه والأشجار ! تسونامى لم تشهده الخرطوم من قبل ولكن تحسه أشجار اللبخ ! فالمتمعن فى عروق تلك الأشجار سيلاحظ فورة الغضب ! لقد قالت الخرطوم لساستها القدامى هنيئا لكم بما كسبتم وبما أوصلتم إليه البلاد ، هنيئا لكم فاليوم تتفاوضون وغدا تتراضون وتلعبون وتمرحون غير مبالين بغضب المدينة . ولكن ليتكم تعلمون أن الخرطوم ليست كما المدن الأخرى ! انها تصبر على الضيم ولكن عندما تكشر عن أنيابها فالويل لكم جميعا من غضبة المدينة .
لقد تغنت الفنانة ماجده الرومى بأمجاد بيروت : يابيروت ... ياست الدنيا يابيروت ... ان جملك يؤذينا. وهى تصف أن من عظم جمال المدينة صار البعض يتأذى من ذلك الجمال فتكونت المليشيات وأصبحت الجماهير شيعا وأحزابا ومعها بدأ التخريب والدمار ، ولعلنا نحن السودانيون قد تأذينا بجمال خرطومنا فصرنا نتحين الفرص لنعمل على محو ذلك الجمال ، وربما يرضينا أن نقول فى النهاية أننا قد خربناها بأيدينا ! نعم ياخرطوم ان جمالك يؤذينا !
Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]