بأى ذنب قتل ؟!

 


 

د. أحمد خير
6 December, 2009

 

فى دروب الحياة نلتقى بنفر تسحرنا مواقفهم ، يخلفون فى النفس بصمة نتوقف عندها حتى ان ظلوا هم فى سيرهم لايتوقفون ! بصمة نحملها معنا بدون أن نتمعن فيها ! وفجأة يصلنا خبر مفاده أن صاحب البصمة قد حمل بصمته ومضى ! عندها نصاب بالدوار ، ينعقد اللسان ونكاد نفقد العقل  فيختل التوازن ! هذا ما حدث عند سماعى لنبأ مقتل  وزير التعليم العالى فى الصومال الدكتور / إبراهيم عدو .

قال سيدنا محمد " صلى الله عليه وسلم " والذى نفسى بيده ليأتين على الناس زمان لايدرى القاتل فى أى شئ قتل ولايدرى المقتول فى أى شئ قتل (رواه مسلم)

ماذا أكتب عن الراحل الدكتور / إبراهيم عدو؟! هل أنعى الإنسان فيه ؟! أم أنعيه للإنسانية ؟! أيا كان  ، فهو الإنسان الكامل الذى عرفته عن قرب ، ولسنوات طوال . هو صاحب الحلم الكبير الذى ظل يردده على مسامعى ومسامع العديد من الأصدقاء " أن الوطن يحتاج إلى كل لحظة وإلى كل جهد وإلى كل حبة عرق ، فما بالنا نحجم عن مد يدنا إلى الأوطان ؟!" وكان صديقنا المشترك من إريتريا  الدكتور / محمد محمود يرد عليه قائلا" لقد ظللنا نكافح من أجل الوطن لمايزيد عن الثلاثة عقود  ، وبعد الإستقلال آن لنا أن نستريح " كان ذلك فى منتصف التسعينات من القرن الماضى ولم يمضى على إستقلال إريتريا أكثر من عامين " فيرد عدو قائلا: ما أحلى أن  تشهد فجر الإستقلال فى ربوع الوطن بين الأهل والأصدقاء ! ويضيف مع تنهيدة يحاول ان يخرج معها حنين أعوام قضاها فى الغربة يبحث فيها عن علم ينتفع به وينفع به الآخرين قائلا: أتمنى أن أعود إلى الصومال فى أقرب وقت ممكن ، أمنيتى أن أقوم بتأسيس مدرسة أولية فى الصومال ، يلتحق بها كل طفل حرمته الظروف من التعليم .

كان عندما يشاهد بعض الأصدقاء فى خلاف يقول: الأصدقاء لايختلفون .. وبدلا عن مضيعة الوقت فى خلافات ، عليهم أن يفكروا فى كيفية بناء الأمة !

لقد عملنا معا بالقسم الثقافى فى سفارة الإمارات العربية المتحدة بواشنطن . وفى عام 1996  تقدم بإستقالته وغادرنا جريا وراء تحقيق حلم عمره . وإفترقنا . أكبرت فيه تصميمه وعودته ليكون بين أبناء وطنه ليشارك فى عمليات البناء . ولكن ، لمعرفتى الوثيقة به لم استغرب ماقام به . هذا بالرغم من ماسببه فراقه من آلام ! ليس لبعدنا عن بعضنا البعض فحسب ، بل لأنه إختار الوطن على البقاء فى دنيا الإغتراب ، لأنه ترك شرخا فى نفسى شعرت معه بأنانية أبعدتنى عن القيام بنفس الفعل !

عاد د . إبراهيم عدو إلى الصومال وعمل مع العاملين لوضع لبنة مؤسسات تعليمية بغية  الخروج بالصومال إلى بر الأمان ، الذى لن يتحقق "فى نظره" إلا بالتعليم . وبالطبع هو محق فى رؤاه حيث أن أمة تفتقد إلى مؤسسات تعليمية سليمة ومعافية ، هى أمة بلامستقبل مهما حاولت من تحسين صورتها بمحاسن تجميلية أخرى تجتمع على ماديات بلا أسس ، الشئ الذى يجعلها عرضة للإنهيار مع رياح تغيير تأتيها من هنا أو هناك !

لم يبدأ د . عدو من عل ، أى انه لم يبدأ بتشييد جامعة أو معهد عال . بدأ من حيث يجب أن يبدأ العقلاء . بمدرسة أولية وضع لها أسس سليمة تقوم عليها ، مع إشراف مباشر يمكن من ضمان ناتج فعلى ، يتمثل فى تلميذ صومالى يعى إستخدام كل ماوهبه الله إياه من ملكات يتمكن معها من تسخيرها للقادم من الأيام ، ليبدأ  بعدها المرحلة المتوسطة التى يتفتق فيها الذهن ليعى متطلبات المرحلة  . ثم  المرحلة الثانوية التى يكون فيها الطالب مشاركا وليس متلقيا فحسب . بعدها كان يخطط  الدكتور / عدو لمرحلة جامعية يتلقى فيها الطالب من علوم هى من صميم حاجة المجتمع الصومالى  . هكذا بلا زيادة أو نقصان ! لقد كان على علم بأن نقل مجالات العلوم إلى بيئة غير مؤهلة لإستيعابها ثم إستخدام نتائجها ماهو إلا نسج خيال مثقفاتية ممن يحسنون الجلوس فى المقاهى يتسامرون بإنجازات مابرحت مكانها وهم يعلمون قبل غيرهم ان مايدعون إليه ليس إلا " صوان عرس " بكل بهارجه وأشكاله وألوانه ، علما بأن حقيقة العرس لاتظهر إلا على وجه العروسين فى اليوم التالى من الزواج !

بدأ  د. عدو بمدرسة أولية ثم متوسطة ثم ثانوية ثم أسس لجامعة ، بدءً بكلية للطب . ثم تولى حقيبة التعليم العالى فى الحكومة الصومالية الحالية .  ويالسخرية القدر ، فى حفل تخريج دفعة من الخريجىن ، جاء من فجر نفسه آخذا معه مستقبل أمة متمثلا فى شخص "عدو " وآخرين أخلصوا لوطنهم وآلوا على أنفسهم أن يخرجوا بالصومال من ركام الحروب إلى بر الأمان !

نعم قتل الدكتور/ إبراهيم عدو ، الرجل الذى عاد إلى وطنه وكله ثقة فى أن الفرد فى إمكانه أن يحدث التغيير ، ولكن أن يشهد التغيير ويجنى ثماره ، فهذا مايتركه الإنسان للقدر ، لمدبر الكون ومفصل الآيات ، انه عليم قدير.

لقد رحل عدو عن دنيانا ، سافر سفرا طويلا ، حاملا معه آمال صومال الغد . فهل الجيل الذى أسس له عدو سيشب على النهج الذى رسمه له ؟! نأمل ذلك !

وهكذا الحياة ، تجمع وتفرق ولايبقى فيها إلا الكلم الطيب . ليت كل من له القدرة على تقديم شئ للوطن أن يعجل به ، فسيف الزمان قاطع ، وقليل العطاء نافع ، فقط ليخلص الإنسان النوايا ويعمل من أجل مستقبل الأمة . وحقا دروس الحياة لاتأتى على طبق من فضة أو ذهب . ألا رحم الله فقيد العلم الدكتور / إبراهيم عدو وتقبله قبولا حسنا ، انه نعم المولى ونعم النصير.                    

Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]

 

آراء