"فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (*) *أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"
ما أدق هذه الآية في توصيف حالنا في السودان اليوم.
اصبحت أغلب مؤسسات الدولة عندنا ، إن لم تك جميعها ، خاوية على عروشها ، ولأسباب عدة ، سوف لن "اركب موجة" الكيبورد التي ترمي بكل شيء على الحكومة "فقط" فأرمي جهة معينة عن جهة ، على الرغم من أن مصطلح إنقاذ نفسه يقتضي ان يكون انقاذا في كل وقت وعلى كل حال وان المنقذين يجب ان تكون عندهم الرؤية والتكتيت لإدارة بلاد مأزومة منذ ان أنشأها الله مثل السودان ، إنما أشرك نفسي في ذلك الخواء وأشرك المعارضة والتي اكتفت بتكتيف اليد ، وموالات النقد والتشويه والترويج لشنء الحكومة ، وكأن الوطن لا يهمها ، وأشرك كل الشعب والذي اكتفى من الأمر بالسلامة ، ولا يهمني كثيرا أن يصمني أحد النقاد من تلك الفراشات التي تخطر في سماوات الكيبوردات ، كل ما تحدث احد خارج "صندوق الموجة" ، ابتلاه احدهم بالترهيب الفكري والتخويف ، حتى يصمت او يحييد.
جلست مع كثير من مدراء مؤسساتنا بمختلف انواعها ، فكان مر شكواهم ، أن مؤسستاهم مفرغة تماما من "مقدراتها" ، قدرتها المالية، وقدرتها الإدارية ، والإرادية ، والأدائية والإنتاجية ، وانما هم مدراء يمارسون وظائف سكرتاريا فقط.
وجلست مع كثير من موظفيها العامين ، فكانت مر شكاواهم ان النافذين في تلك المؤسسات، قد حولوا بعضها الى حواكير خاصة ، يديرونها لمصالحهم الخاصة ومصالح بعض أعوانهم.
اغلب المؤسسات عندنا مختطفة وتمثل مؤسسة خاصة ، يقوم النافذون المتمصلحون فيها برسم مشاريع على هواهم بشرط ان يكون المشروع كسحابة هارون الرشيد " امطري حيث شئت فسيأتني خراجك.
افراغ المؤسسات من هيبتها ومقدراتها ، هو فشل اداري ، يقع على عاتق الحكومة ، وهو فشل اخلاقي ايضا يقع على عاتق من يديره من اتباع الحكومة ممن يدير تلك المؤسسات ، سواء عذر نفسه بأنه موظف حكومي ينفذ أوامر كما يدعون ويعتذرون ، أو انه ينفذ اطماع نفسه واهواءها فسادا وخيانة ممن "يضعون تلك المؤسسات في جيبوهم" ، بعد وجدها بلا رقيب او عتيد.
ولأن القانون مفرغ ايضا من حكمته وسطوته ومسلوب الأرادة ، فإن السلب من الارادة قد إنسحب على كل المؤسسات بما فيها الحزب الحاكم ، فأصبح معقلا للتكتلات ولجنة انتخابات خاصة ، ولأن كل القرار يؤول الآن الى مثلث هرم سياسي ، فإن الرؤية تضيق والبوصلة والحكمة في إدارة البلد ينعدمان ايضا وتتعطل البئر.
ربما تعذر الحكومة نفسها على انها تفعل ذلك لأجل ان الآخر، اذا تمكن من تلك المؤسسات ومن كراسي الحكم فإنه يفعل نفس الشيء ، أو يستأصل شأفتها وشأفة الوطن ، كما يحدث في كل تغيير عندنا، لكن الحكومة التي تفرغ مؤسساتها من ارادتها ، فهي مثل الدجاجة التي تأكل بيضها ، واذا افرغت المؤسسات من اردتها ودورها ، انما تفرغ هي نفسها من ارادتها وإدارتها للوطن ، حتى يفرغ الوطن كله كما يحدث الآن ، ويتوقف قطاره وتتوقف مسيرته في محطة التيه والتعطيل.
وما اشبه هذه الايام بأيام نوح عليه السلام ، قبيل الطوفان ، وهو يفعل ما بوسعه لصناعة سفينة الإنقاذ لإتقاء ذلك الطوفان العظيم ، كلما دعى داع احدا ليلا ونهارا ، كما دعى نوح قومه لتطهير النفس والاخلاق والرجوع لله ، جعل الناس اصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا إستكبارا .
وعلى الرغم من أن نوح أغرى قومه بالإستغفار فقط ، تلك المهمة السهلة ، الممتنعة، والتي تمثل منتهى التطهر
، وأن ذلك التطهر انما يفك شفرة الوباء والغلاء والضيق والضنك والضنى ، الماثل امامنا الى الرغد ، الإ انهم أصروا واستكبروا استكبارا ، وامثال ابناء نوح الذين اختاروا ان يأووا الى جبل يعصمهم من الماء ، وقد استنكروا لنداء الله، امثالهم كثر بيننا ، كلما يقول لنا قائل اننا يجب ان نحمد الله ، وان الذي نمارسه من خور في الأخلاق وإسراف ، وجحود بنعم الله ، انما يساعد في ايرادنا الهلكة المهلكة التي نحن فيها ، انبرى الينا امثال إبن نوح على انهم سيأوون الى جبال تعصمهم من الماء.
*وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (*) *وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ *فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ*
ونحن نخبيء قميص الوطن الدامي بيننا كمقيص يوسف، فإن الأمر ايها الناس ، ليس امر فساد حكومة او معارضة فحسب ، انما هو فساد اخلاقي جمعي ايضا ، اسبابه اخفاقات في التربية ، والأخلاق والمثل ، وبعد وإبعاد عن الله وتطفيف في الكيل والميزان واسراف في المعصية واغداق في الربا ، وزيادة في الجدل وإمعانا في الشقاق واستجابة لسراب السياسة ، على ان الحل سياسي فقط ، وتصميما على فرض الحريات الخارجة عن تهذيب الله ، واخفاقا في القيم ، واتباعا للهوى عن الهدى وللغي عن الوعي ، حتى اذا دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، أيضا؟
حكومات اي شعب لا تأتي من السماء ، إنما تأتي دائما من صلب الشعوب ومن DNA دماءهم واخلاقهم وطباعهم ، ووعيهم او عدمه في إدارة الوطن ، فكيف ما تكونوا يول عليكم.
هذا لا يعذر الحكومة في اخفاقاتها ولا يعذر المعارضة في شططها وشقاقها ولا يسعف الشعب في إسفافه في تعطيل آبارنا مع سموق قصورنا.
الرفيع بشير الشفيع
rafeibashir@gmail.com
///////////////