بانوراما كأس العالم من منظور هولندي
كمال الدين بلال
19 July, 2010
19 July, 2010
حظيت المباراة النهائية لكأس العالم بين أسبانيا وهولندا باهتمام إعلامي غير مسبوق، وقد أعطى وصول فريقين أوروبيين للنهائي رونقاً خاصاً للمنافسة على المستوى الأوروبي، وذلك لمعرفة الفريقين الجيدة لبعضهما البعض حيث إن أسطورة الكرة الهولندية «يوهان كرويف» هو من أدخل أسلوب لعب الكرة الشاملة والباصات القصيرة المحكمة في فريق برشلونة الذي يعتبر عماد المنتخب الإسباني الحالي. سنحاول أن نستعرض في هذه السانحة بعض الأحداث والمفارقات الطريفة التي رافقت العرس الكروي العالمي عامة والمباراة النهائية على وجه الخصوص التي كانت عبارة عن لوحة تجمع ما بين الملهاة والمأساة من منظور هولندي.
ثيران أسبانيا ورعاة البقر الهولنديين:
كان بعض الهولنديين يظنون أن فريقهم قادر على قهر الفريق الأسباني لعدة أسباب أولها: إن الأسبان يشتهرون بصراع الثيران بينما يتميز الهولنديون بترويضها وتربيتها فهم رعاة مهرة وذلك في إشارة لفصيلة أبقار (الفريزيان) الهولندية الضخمة التي غزوا بها الأسواق العالمية، هذا إضافة لكون الشعار الوطني للمنتخب الهولندي الأسد والأسود تعشق التهام لحوم الثيران. ولكن يبدو أنه كان أفضل للهولنديين ارتداء زيهم البديل ذي اللون الأبيض بدلا عن البرتقالي المايل للحمرة الذي جعل الثيران الأسبانية تهتاج مما استحال معه للرعاة السيطرة عليها وترويضها.
تساقط الأرقام القياسية:
سجل اسم «ويسلي» أعلى نسبة وسط المواليد الذكور في هولندا وذلك تيمناً بالاسم الأول للاعب الوسط الهولندي «ويسلي اسنايدر» صاحب الهدفين الساحرين في مرمى المنتخب البرازيلي. من ناحية أخرى تحرك الاقتصاد الهولندي الراكد ووصلت القوة الشرائية للمواطنين إبان كأس العالم لأعلى مستوياتها، حيث حققت المتاجر الهولندية أرباحا قياسية لبيعها منتجات مرتبطة بكأس العالم كالأعلام والزينات البرتقالية اللون وزي المنتخب الهولندي، وتحمس كثير من الشباب بعد المباراة النهائية لشراء ملابس وأحذية رياضية من صنع شركة «اديداس» على حساب منتجات «نايكي» وذلك لكون الفريق الأسباني أدى جميع مبارياته وهو يرتدي الأولى بينما كان المنتخب الهولندي يرتدي الثانية. في يوم المباراة النهائية أحتشد حوالي «200» ألف شاب وشابة (يرتدون ما قل ودل) في ساحة المتحف القومي بأمستردام لمتابعة أحداث المباراة من خلال شاشة تلفزيونية عملاقة تبلغ مساحتها حوالي «100» متر مربع، ووصل عدد المشروبات الروحية التي تم استهلاكها على مستوى البلاد في ذلك اليوم أكثر من «10» ملايين زجاجة بيرة مما نتج عنه بعض حالات التسمم الكحولي. ووصل عدد من شاهد المباراة من المنازل والمطاعم والحانات قرابة الـ «13» مليون شخص من أجمالي عدد سكان هولندا البالغ «17» مليون نسمة، وقد يسأل سائل عن كيفية تحديد عدد من شاهد المباراة على وجه الدقة، ولهؤلاء أقول إن للسلطات الهولندية أجهزة متطورة تستطيع أن تحدد بالضبط عدد التلفزيونات التي تعمل على البث الأرضي في اللحظة المعينة، كما تستطيع تحديد عدد مشاهدي كل قناة على حدا، وهذا المعيار يلعب دوراً حاسماً في تحديد القنوات التي يتم سحبها سنويا من البث الأرضي وفقاً لشعبية كل قناة.
متاعب الشرطة الهولندية:
تم وضع الشرطة الهولندية على أهبة الاستعداد يوم المباراة النهائية كما تم الاستعانة بقوات الاحتياط للحفاظ على الأمن من المشجعين المشاغبين (الهولجنس) واللصوص، فالخارجون عن القانون يستغلون مثل هذا الظرف الذي حصل آخر مرة منذ حوالي «32» عاما لتنفيذ جرائمهم، فالشرطة الهولندية تعتمد في العادة في حفاظها على الأمن بنسبة كبيرة على الوازع الأمني للمواطنين الذين يقومون بدور المخبرين المتطوعين حيث يقومون بالتبليغ عن أي تحركات مريبة، وقطعا في مثل هذا اليوم يكون المواطنون منشغلين بمتابعة المباراة. الطريف أن بعض رجال الشرطة طالبوا بحافز مالي تعويضاً لهم عن عملهم في هذا التوقيت وحرمانهم من متابعة المباراة النهائية.
الواقعية الهولندية:
فاجأت الواقعية الهولندية المراقبين حيث لم تسجل المستشفيات أية حالة ذبحة صدرية نتيجة للهزيمة القاسية في المباراة النهائية ولم ينتحر أي مراهق حسرة على خسارة الكأس، كما لم يقم أي مشاغبين بعمليات عنف فوضوي تفريغاً لاحباطهم، بل تجاوز الهولنديون الخسارة بسرعة حيث لم يغب أي موظف أو عامل عن مكان عمله ثاني يوم للهزيمة بالرغم من كثرة عدد (البايتة معاهم) من أثر الكحول. وربما ترجع هذه الواقعية إلى تعودهم على الخسارة في النهائي، حيث سبق وهزمت هولندا في نهائي 1974 من قبل ألمانيا وفي نهائي 1978 من الأرجنتين، وللأسف (التالتة لم تكن نابتة) كما يقول مثلنا السوداني. وتمثلت قمة الواقعية في استقبال الأبطال الذي قوبلت به البعثة الهولندية بعد عودتها للبلاد حيث انطلقت الطائرات المقاتلة وهي ملونة باللون البرتقالي لمرافقة طائرة البعثة وهي تدخل الأجواء الهولندية كما احتشد أكثر من نصف مليون مواطن لاستقبالهم على رأسهم ملكة البلاد وذلك لحفزهم على عدم الحسرة على الماضي بل أن يشرئبوا نحو المستقبل.
الصدق والصراحة الهولندية الصادمة:
أجمع المحللون الرياضيون الهولنديون أن أسبانيا استحقت الكأس لكونها لعبت أفضل من هولندا، واعتبروا وصول منتخب هولندا للنهائي إنجازاً في حد ذاته، ووصل الأمر لدرجة انتقاد الأسطورة «يوهان كرويف» لأسلوب لعب منتخب بلاده الخشن في المباراة النهائية، وأكد أن المنتخب أضاع الكأس وسمعة الكرة الهولندية التي كانت تشتهر باللعب الشامل النظيف والروح الرياضية وذلك بحصوله على تسع بطاقات صفراء وواحدة حمراء في تلك المباراة، وانتقد أداء الحكم البريطاني، وأكد أنه لو كان مكانه لطرد ثلاثة لاعبين هولنديين على الأقل.
التطرف لا دين له:
أسهمت بطولة كأس العالم في رفع الروح الوطنية والانصهار القومي وتوحيد هولندا التي تعاني من انقسامات سياسية واجتماعية حادة في الآونة الأخيرة لدرجة هيمنة الفراغ الدستوري لأكثر من خمسة أشهر بعد سقوط الحكومة في فبراير الماضي، فقد سطع نجم الاندماج الإثرائي للأقليات في تركيبة المنتخب الذي ضم كل ألوان الطيف العرقي والديني، ورغماً عن ذلك أصدرت بعض الكنائس في بلديات متدينة تقع في جنوب هولندا قبل المباراة فتوى دينية تحرم متابعتها على التلفاز لكونها تلعب في يوم الأحد المقدس، وهو اليوم الذي يحرم فيه البيع والترفيه لكونهما يلهيان عن ذكر الله في يوم العبادة الأسبوعي، ووصل الأمر لدرجة قيام وزير محلي متدين بالتضرع لله علانية بأن تنهزم هولندا لموافقتها على أداء المباراة في يوم الأحد. الجدير بالذكر أن الوزير لم يعزل من منصبه بتهمة الخيانة العظمى، كما لم تطالب تلك البلديات بحق تقرير المصير لمخالفة بقية البلاد لها ومتابعتها للمباراة.
kamal Bilal [kamal.bilal@hotmail.com]