بحيرة المناصير .. غرائب وطرائف حول متغيرات البيئة وحياة السكان

 


 

 

masidahmed123@hotmail.com

 بحيرة المناصير التى تكونت خلف سد مروى غدت واحدة من مظاهر الطبيعة الفاتنة والساحرة ، وآية فى الروعة والجمال . وهذا السحر والجمال وحده كان كافيا لإقناع المناصير بأن يزدادوا تمسكا بالبقاء بأراضيهم حول البحيرة ، وأن يجدوا العذر والمبرر لوحدة تنفيذ السدود التى طمعت فى الإستيلاء على أراضيهم هذه ، وما انفكت تحاول بكل الوسائل والحيل أن تجلوهم عنها ولم تيأس بعد .  ولكن الوصول الى هذه البحيرة عن طريق البر سواء كان  ذلك عن طريق مدينة مروى أو كريمة أو عطبرة أو الشريك أو أبوحمد ليس بالأمر السهل لوعورة جميع الطرق  وعدم وضوح معالمها بما يجعل المسافر غير الخبير بمسالكها عرضة للضياع        هذا ، ويبلغ طول إمتداد البحيرة من جسم السد الى ذيلها ما يقرب من مائتى كيلومترا بينما يتفاوت إتساع عرضها قرب جسم السد وعند ذيلها . فعرض البحيرة قرب جسم السد قد  يتجاوز فى بعض الأماكن أكثر من أربعة أميال حيث اندثرت معالم القرى والحياة قبل الإغراق تماما عن الوجود ولم يتبق منها أثر ، ولم يعد من المستطاع فى كثير من أجزاء البحيرة مشاهدة الشاطئ الآخر للبحيرة من الشاطئ المقابل له . ولكن عرض البحيرة هذا يبدأ فى الضمور كلما إبتعد المرء عن جسم السد  فى إتجاه ذيلها خاصة بعد منتصف طولها عند جزيرة شرى حيث تبدأ رؤوس أشجار النخيل الغرقى وغيرها من أشجار  فى الظهور فى منتصف البحيرة وهي لا تزال مخضرة  وتحمل ثمار الموسم القادم  ولكن المواطنين لا يعولون عليها لأنهم يؤكدون أنها لن تنجح وسوف تذبل وتتساقط بسبب الغرق .  وبالإتجاه صوب ذيل البحيرة يزداد ظهور معالم الحياة السابقة قبل الإغراق حيث يشاهد المرء العديد من غابات النخيل بارزة الجذوع داخل البحيرة كما يشاهد الكثير من بقايا المنازل والمنشئات التى تصدعت  وغرقت داخل البحيرة أو على أطرافها . ولكن أروع ما يشاهده المرء يتمثل فى  منظر المنازل التى بقيت سليمة من الغرق وهى على حافة مياه البحيرة بحيث صار من الممكن الوصول اليها أو الخروج منها إلا عن طريق المراكب . وما أكثر مثل هذه المنازل التى تلامس أبوابها شاطئ البحيرة  وما أروع منظرها وهى تشبه فى ذلك مدينة البندقية .  وتظهر من خلفها بقية المنازل التى لم تتأثر بالغرق لأنها مبنية على أرتفاعات مختلفة على سفوح الجبال .       هذا وقد ظهرت عديد من الجزر الجبلية  المعزولة  وبعضها فى شكل سلسلة من الجبال الممتدة وقد تكونت  الجزر الجبيلة نتيجة لإجاطة مياه البحيرة بهذه الجبال  من كل الجوانب فصارت جزرا فى غاية الروعة والجمال تصلح لمختلف الأغراض السياجية وغير السياحية  وكان من عجب أن نشاهد بعض الأشخاص بداخلها وعلى قممها . ولقد إمتلأت جميع الأودية والخيران بمياه البجيرة وامتدت الى مسافات بعيدة وكون بعضها جزرا وبحيرات فرعية صارت جاذبة للحياة البرية  ولسكنى الإنسان .      ويتحدث المواطنون عن ظاهرة خروج العديد من العقارب والثعابين والحيوانات الخلوية كالثعالب والصبار والهوام من باطن الأرض مع بداية الإغراق والغمر حيث صعدت العقارب والثعابين الى أعلى جذوع النخل والى البر ولكنها لم تشكل أي تهديد أو خطورة للسكان  إذ سرعان ما كان فى إنتظار خروجها أسراب عديدة ومختلفة من الطيور التى لم يسبق للمواطنين مشاهدتها أو تواجدها بينهم من قبل وكأنها كانت على موعد مع خروج هذه الدواب السامة أو أن العناية الإلهية  قد بعثت بها اليهم خصيصا لإنقاذهم   حيث قامت هذه الطيور بإلتقاط وابتلاع جميع تلك العقارب والثعابين والهوام . وقد شاهدنا مؤخرا ونحن فى مركب داخل البحيرة واحدا من بقايا تلك الثعابين من نوع الكوبرا متوسط الحجم وهو يسبح وقد بلغ به الإعياء أشده حتى كاد أن يقفز لداخل مركبنا عندما اقتربنا منه لغرض التقاط  صور فيديو له .    ورغم بلوغ البحيرة لأعلى منسوب  لها وركود مياهها الذى يشكل بيئة صالحة لتوالد الباعوض الناقل للملاريا إلا أنه قد تلاحظ إنعدام الباعوض الناقل للملاريا فى تلك النمطقة وقلة الذباب كذلك . ويعزو دكتور أبو القاسم كروم  هذه الظاهرة  الى كثرة تواجد نوع من الأسماك الصغيرة  التى تتغذى على بيض ويرقات الباعوض الناقل للملاريا  ونصح المواطنين على تجنب اصطياد هذا النوع من السمك كما نصحهم على الحرص على تغطية فتحات مراحيضهم تحاشيا لتوالد الذباب كما إقترح إنشاء محطة أبحاث ومختبرات طبية بالمنطقة لتراقب وتكتشف أولا بأول ظهور أعراض أي أمراض جديدة يمكن أن تظهر بسبب هذه البيئة الجديدة للبحيرة.      هذا وقد انشغل المتأثرون فى الأشهر الأولى للغمر بأنقاذ أنفسهم وحيواناتهم وممتلكاتهم من الغرق فى حملات جماعية منظمة ثم انشغلوا من بعد ذلك  فى بناء مساكنهم المؤقتة على أطراف البحيرة وعاشوا فترة حرجة عاطلين بلا عمل يؤدونه ، انتظارا لبلوغ البحيرة لأعلى منسوب لها حتى يتمكنوا من بعد ذلك من بداية حياة جديدة من العدم بالشروع فى زراعة أراضى جديدة على أطراف أعلى منسوب تبلغه البحيرة . وقد عانوا ما عانوا فى هذه الفترة التى سبقت بلوغ البحيرة لأعلى منسوب لها خاصة فيما يتعلق بالحفاظ على ثروتهم الحيوانية  التى يعتمدون عليها فى معيشتهم وكمصدر نقدى هام بالنسبة لهم . وقد إضطرهم فقدان العلف لحيواناتهم  الى بيع أجزاء كبيرة منها وإرسال بعضها للبادية  والإحتفاظ بعدد قليل منها لغذاء الأطفال . ولكن رغم  تجاوز مرحلة انعدام العلق فقد حدث مؤخرا نفوق أعداد كبيرة من تلك الحيوانات دون أن يعرف المواطنون لهذا النفوق  سببا . وقد ظل هذا النفوق  مستمرا حتى اليوم مع  عدم توفر خدمات طبية أو إهتمام السلطات بهذا الأمر.   ولقد  تركت حياة عدم الإستقرار والسكنى المؤقتة فى الرواكيب والخيام والتعرض لتقلبات الجو من برد وحر وأهوية  تركت أثرها البالغ فى حياة الأطفال  حيث يحكى أن طفلا عمره أربعة سنوات ظل يسأل أمه على الدوام  : ( متى  يا أمى  ينحسر هذا الماء  .. كي نعود الى منزلنا ؟ ) فالطفل المسكين يعتقد أن منزلهم الذى غمر تحت الماء سيظل على حاله وأنه متى ما انحسر الماء سيجده سالما وينتقل اليه  وتنتهى معاناته هو وأهله !!      ولقد مضت الآن أكثر من ثمانية أشهر على إغراق منطقة المناصير ،  وقد تغيرت البيئة بسبب هذا الإغراق الى حد بعيد وأخذت شكلها النهائى الجديد . ونتج عن ذلك غمر الطريق الغربى الذى كان محازيا للنيل على طول القرى بمنطقة المناصير واختفى من الوجود تماما واعترضت الأودية والخيران العديدة المليئة بمياه البحيرة مسار أي طريق جديد موازى له بما شكل عقبة فى التواصل بين المواطنين عن طريق البر  ولكن شكرا للباشمهندس الحاح عطا المنان الذى تبرع فى فتح مسار جديد لهذا الطريق يجتاز جميع تلك الأودية والخيران ويربط منطقة المناصير غربا من أقصاها الى أقصاها وقد شرع بالفعل فى تنفيذ هذا الطريق كما يقوم بإنشاء محطة تنية للمياة إضافة الى ما سبق أن قدمه لمنطقة المناصير من عون وخدمات يصعب حصرها والمناصير ممتنون له ويثمنون تعاونه وتعاطفه معهم . وقد صارت القوارب التى تعمل بمكاينات البنزين هى وسيلة المواصلات الرئيسية للسكان ويوجد منها الألوف وهي تمخر مياه البحيرة وتجوب جميع أرجائها فى حركة لا تنقطع صباحا ومساء ويستخدمها حتى تلاميذ وطلاب المدارس من والى مدارسهم . ورغم خطورة الموج عليها فى حالة هبوب الرياج إلا أنها لم تسجل أي منها  لم تسجل حادثة  غرق .      ومن المتغيرات فى البيئة تغير المناخ حيث صار الصيف أكثر إعتدالا فى الحرارة لتشبع الهواء بالرطوبة الناتجة من تبخر مياه البحرية . كما صارت الجبال خلف البحيرة والوديان مخضرة ومكسوة بالزروع فى تروس متدرجة من قمم الجبال  حتى سفوحها وتشبه تماما  ما نشاهده فى الصور والأفلام عن الزراعة فى جبال اليمن وجبال اليونان وغيرهما من الدول ذات الطبيعة الجبلية المشابهة . وقد شاهدت المناصير يتسابقون فيما بينهم لحجز أراضى زراعية على كافة الأودية والجبال من حولهم حيث أكد الخبراء أن تربتها طينية خصبة وتصلح لجيع أنواع المحاصيل والفواكة ، وهذا خلاف المشاريع الزراعية الكبرى التى شرعت  حكومة ولا ية نهر النيل لتأهيلها لتلحق بالموسم الصيفى لهذا العام ومن بعده الشتوى القادم .  ويتحدث المواطنون وأعراب البادية وخبراء المياة  وغيرهم عن ظاهرة توفر المياة السطحية والجوفية بسبب البحيرة كما يتحدثون عن غنى صخورهم وجبالهم بمختلف أنواع المعادن النفيسة والتى تكاد تكون بادية للعيان .      وقد بات لافتا لنظر كل زائر للمنطقة توفر الثروة السكمية بالبحيرة  بصورة كبيرة فى البحيرة ، خاصة فى الوديان ومشاهدة البعض من هذه الأسماك يقفز فى الهواء . وإمتلأت البحيرة والوديان بشباك صيد الأسماك كما صار من المألوف مشاهدة الأطفال الصغار يسبحون ويلهون بمحاولة إصطيادهم للسمك بأيديهم المجردة . ولم تعد تخلو وجبة من وجبات طعام الأهالى من السمك على مختلف أحجامه وأنواعه وكيفية طهيه . ويتحدث البعض عن ظهور قلة من التماسيح بالبحيرة ويعتقدون أنها سوف تتكاثر بسبب توفر غذاءها من الأسماك وبسبب ظهور الجزر الجبلية التى توفر لها أفضل الأماكن للإختباء والتوالد .و أنها ستكون بدرورها مصدر ثروة بجانب الثروة السمكية .    ويتحدث المواطنون بفخر واعتزاز عن بلائهم الحسن  وقوة عزيمتهم  وصبرهم فى الصمود فى مواجهة الإغراق وآثاره  حتى تجاوزوا أخطر المراحل وبدأوا ينعمون شيئا فشيئا بخيرات البحيرة من زروع وأسماك شكلت مصدر دخل لعديد من الأسر. ويشيدون بصمود المرأة المنصورية وحماسها وصبرها على المعاناة . وقد سمت أم منصورية أول طلفة تولد لها بعد أحداث الغرق بإسم ( صمود ) وألف لها شعراء المناصير اللقصائد والأغانى . وقد اشتهرت فى أوساط المناصير  قصة ذلك الحمار الذى هاجر أصحابه الى مشروع الفدا الصحراوى شمال أبوحمد وهو أحد المشاريع التى أنشأتها  إدارة السد  لإعادة توطين المناصير  دون رغبتهم . ولكن ذلك الحمار لم يطق البقاء فى ذلك الموقع الخلوى النائى فعاد أدراجه سيرا على أقدامه لمسافة تربو على الستين ميلا حتى وصل الى قريته على شاطئ البحيرة التى هاجر منها أصحابه . وما أن علم أصحاب القرية وكافة المناصير بخبره حتى أصبح مادة  للإعجاب وللتندر فألفوا فى ذلك القصائد والأغانى  بإعتبار أنه كحمار برهن على أنه وفى لموطنه أكثر من أصحابه .  واحتفى البعض بعودته لموطنه بأن علقوا عليه  مختلف الأوسمة  وقدموا له جوائز عديدة من العلف  ، وأعلنوا منحه امتيازات استثنائية بأن يظل حرا طليقا يذهب الى حيث يشاء ويل ولا يستخدمه أحد لأى غرض  وأن يعاشر ما شاء له من إناث الحمير . والى غير من ذلك من إمتيازات . إذ لا شيئ يعدل الوطن .    

 

آراء