نشرت صحيفة الطريق الإلكترونية السودانية الخبر التالي: قال وزير الدولة بوزارة الخارجية، عبيد الله محمد عبيد الله، إن “منظمات المجتمع المدني السودانية غير الحكومية تتسبب في تأذِّي السودان خارجياً بما تقدمه من معلومات تغذي بها المحافل الدولية والمنظمات العالمية”. وذكر الوزير في حديثه أمام البرلمان السوداني، يوم الاثنين، أن “منظمات المجتمع المدني تتجاوز دور الحكومة والدولة”، وقال إن “منظمات المجتمع المدني أصبحت لاعباً أساسياً في المحافل الدولية”. وفي مواصلة للخبر تضيف الصحيفة: في الأثناء، اتهم البرلمان، منظمات مجتمع مدني سودانية غير حكومية – لم يسمها – بأنها “مسيسة ومدفوعة من قبل مجموعات ضغط دولية ومنظمات في جنيف ونيويورك لإلحاق أضرار بالسودان”، ووجه بالتصدي لما أسماه بـ”الحملات المعادية” بانشاء فضائية ناطقة باللغات الأجنبية لتوصيل رسالة السودان للخارج. وتقدم عبيد الله بمقترح للبرلمان السوداني بإنشاء جسم لصناعة السياسة الخارجية للسودان يضم رئاسة الجمهورية، الجيش، وجهاز الأمن. وقال ان صناعة السياسة الخارجية ليست حكراً على وزارته. انتهى. الطريق الإلكترونية الاثنين 2 فبراير 2014. مضحك هو حديث هذا الوزير، ولكن، ربما هو أقل اضحاكاً من حديث الجهة الوزارية التي صرحت بأن الفئران أتت على جسر المنشية شرق الخرطوم، فجعلت عابريه على شفا جُرفٍ هارٍ، ربما كان سينهار بهم وبنا يوماً ما، لولا لطف الله بعباده! مضحك هذا الحديث ليس لأن فيه تعليقاً ساخراً وذكياً، وليس لأن السيد الوزير يجيد السرد و"التنكيت"، وليس لأنه ترنَّم بما يطلبه مستمعوه ممن يطربون لمثل هذا الحديث، بل لأنه خالف المتوقع من القول، وتجاوز التصور العقلاني المفترض في أي موظف في وزارة خارجية أينما كانت! فالعاقل من الناس يفترض في الموظف بالسلك الدبلوماسي أن يكون أكثر دراية من غيره، ممن لا يعرفون عمل المنظمات ودورها أو من لا يفرقون بين الحكومة والدولة! هذا خلاف أن السيد الوزير يدفع بالمقترحات لإنشاء جسم لصناعة السياسة الخارجية، ليجلس هو ووزارته وموظفيها في مقاعد المتفرجين، فيقوم جسم مكون من رئاسة الجمهورية والجيش وجهاز الأمن، بصناعة السياسة الخارجية، ويصرف هو مرتبه وامتيازاته ويقوم بأسفاره، على أن يواصل الدفع بالمقترحات من حين إلى آخر للبرلمان، والأكثر اضحاكاً بل ادهاشاً، أن هذا الوزير خريج علوم سياسية وقد تلقَّى تعليماً عالياً في العلاقات الدولية في بريطانيا ليعود اليوم بمقترحات ورؤى تطعن في العلاقات دوليها ومحليها! وللمساهمة في تعريف السيد الوزير بالمرجعية(TOR) التي قامت على أساسها منظمات المجتمع المدني غير الحكومية(NGOs)، فإننا نؤكد إنها مؤسسات نشأت وتكونت ونشطت مبتدأً، بحيث لا تخضع لسلطة الحكومة، وهي بالتالي تختلف عن المنظمات الحكومية(GNGOs) والتي تنشئها الحكومات، لتدافع عن سياساتها، وتعبِّر عن المشاريع التي ترعاها وتريدها الحكومة، وهنا يجدر بنا أن نزيد شعر القصيدة بيتاً بالقول؛ إن الخلط والخطأ الشنيع الذي اقترفه السيد عبيد الله بين مفهوم الحكومة ومفهوم الدولة، نابع من أزمة في التأهيل والمعرفة العامة، ناهيك عن المعرفة الخاصة التي كان يجب أن يحوزها كدبلوماسي وواجهة للبلاد، ورغم أننا كنا نريد أن نقدم حسن النية في إردافه للحكومة بالدولة في عبارته تلك، ونريد أن نتصور أن هذه العبارة نابعة من معرفة مسبقة، إلا أن السياق الذي وردت فيه والمقترحات التي تلتها، تنفي شبهة حسن النية، بل تتأكد بها شبهة الجهل، فقد اقترح سيادته أن تتشارك رئاسة الجمهورية مع "الجيش" و"الأمن" في صناعة السياسة الخارجية للسودان، فما الذي يدخل " الجيش والأمن" في السياسة الخارجية؟! إن ما صرَّح به سيادته من أن المنظمات تتجاوز دور الحكومة والدولة، بخلاف أنه يعبِّر عن قصر فهم لدور المنظمات الحكومية، فهو كذلك يعبر عن قصر فهم للفرق بين الحكومة والدولة، فالحكومة في العرف السياسي العام، هي الجماعة التي تحوز على السلطة وتحاول أن تنفذ سياسات تعتقد في صحتها لصالح المواطن والدولة، أي الجهة أو السلطة القائمة على أمر التنفيذ، أما الدولة، فهي الحدود الجغرافية والتراب والمواطنين ومجموع المؤسسات والهيئات الراسخة والتي لا تتأثر بتغُّير الحكومات والأفراد فيها، بل تكون موجودة حتى في حالات عجز السلطة التنفيذية، أي الحكومة، عن القيام بدورها، والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تحديداً، وباعتبارها إحدى مكونات الدولة، وباعتبارها جهات مستقلة لا تخضع للحكومة، فإنها تشغل الفراغ والعجز الذي يواجه الحكومات، إن كان هذا العجز على مستوى تقديم الخدمات الاجتماعية للمواطنين، أو توفير الغذاء والخدمات الاقتصادية للمحتاجين، أو حتى العجز السياسي من شاكلة الانتهاك للحقوق وانعدام الممارسة الراشدة للحكم أو الحياد عن الالتزامات الدولية. هذه ألف.. باء.. تاء علوم سياسية يا سيادة الوزير! بهذا الفهم، يصبح عمل منظمات المجتمع المدني محكوم بمدى استقلاليتها وأخلاقياتها وقدراتها، في تحسين أداء الحكومات من خلال التقارير والمعلومات التي تُحضَّر من خلال أنشطة مختلفة، تشمل رصد الأخطاء وسد الفجوات في الأداء الحكومي، وتوثيق العجز وتقييمه، وتقديم التوصيات اللازمة لتفادي هذا العجز أو مكافحة آثاره. وكخلاصة لهذا الجهد، وفي موازاة لما تقدمه الحكومات من تقارير في المحافل الدولية، تسعى من خلالها بالضرورة لتحسين صورتها للعالم، تقدم المنظمات غير الحكومية، تقاريراً في نفس المحافل الدولية والمحلية على حد السواء، لذلك تُسمى هذه التقارير ب(الموازية، أو البديلة)، وهي مطلوبة ليس من أجل إيذاء الحكومة! بل من أجل مساعدة الدولة المعنية على تجاوز أزماتها، ومن أجل مساعدة الحكومة على ضبط أدائها، لذلك فعبارة (المنظمات تتجاوز الحكومة) والتي وردت عاليه، هي عبارة غير دقيقة وغير مضبوطة، ولا تتسق مع الفهم المتوقع لحامل درجة علمية في العلاقات الدولية! وبنفس هذا المنهج يأتي ردنا للبرلمان ولبعض عضويته التي "اتهمت" المنظمات غير الحكومية، بأنها " مسيسة"، حيث نقول إن "التسيس" لا يعيب جهة إلا إذا كان ما تقوم به من عمل هو ضد المبادئ والقيم، أو، إن كان عملها هذا لا يعود بفائدة للمواطن وللبلد! فالتسيس الذي يعني العمل من أجل احقاق حق أو إزهاق باطل، عمل مشروع ومعترف به وليس عليه غبار، أما التسيس الذي عليه الغبار والأتربة والملوثات، فهو قبول أحدهم لموقع يعرف عدم أهليته له، أو السكوت على الفساد ورعايته، أو هو إشاحة الوجوه عن التدهور الاقتصادي والاجتماعي للمواطن وتذكيته، أو الإيماء بالرؤوس لتمرير الباطل دون وجل من أن تنكسر وتُدقُ هذه الروؤس تحت مطحنة الضمير! baragnz@gmail.com