برنامج الوزير المغضوب عليه.. فرصة للدعوة (للأحسن)

 


 

 


سأقول رأياً ربما يراه بعض أصدقائي غريباً، ولكنه يعبِّر حقيقة عن ما يعتمل في رأسي، وقد قادني إلى ذلك ما رأيته من تعليقات سلبية على البرنامج التلفزيوني الذي بثته قناة النيل الأزرق بتقديم من  مقدم برامج شاب اسمه خالد الوزير خلال الأسبوع الماضي، وللحقيقة أنا لم أشاهد الحلقة كاملة، ولذلك إنبنى تعليقي على ما شاهدته في المقطع المتداول على الفيسبوك.
إن الأحداث التي تناولها البرنامج مشكلة حقيقية وتحتاج لمعالجة ولكن شكل المعالجة قد يختلف من شخص لآخر؛ فأنا أتفق أن التعميم الذي غلب على البرنامج مُخل، ولكن ظاهرة استغلال بعض عاملات المنازل للأسر والمزايدة والسرقات وحتى الاغتصابات والهروب واقعة ولا تخطئها عين.
وعلى الرغم من رأيي الذي ورد بعاليه إلا أنني أعتقد أن البرنامج به عيوب أساسية أو مسائل لم يلقَ عليها الضوء:
1-    القضية تخص فئة قليلة من الشعب السوداني، فكم أسرة تستخدم عاملات في المنزل وكم شخص لديه القدرات المالية ليدفع مبالغ طائلة لشخص آخر مقابل كي وغسل ملابسه وتنظيف منزله؟ من هذه النقطة أعتقد أن البرنامج روَّج لرفاهية مزيفة. فقد كان أجدى لو تحدث عن وجود عاملات منازل بأعداد كبيرة في الوقت الذي يشهد تدهوراً مريعاً في الاقتصاد وفي بلد يتكدس مواطنوه في معسكرات النازحين! ولكن هيهات أن يحدث هذا في الوقت الذي يواجه فيها الإعلام تربصاً غير مسبوق. ما الداعي إذاً لإثارة هذه القضية بهذا الشكل؟!   
2-    البرنامج تحدث عن المشكلة وكأنها آتية من عاملات المنازل. في رأيي المشكلة الأكبر آتية من المجتمع نفسه-الفئة القليلة المشار إليها بأعلى- وهاكم أمثلة: هذا المجتمع ينمِّي لدى العاملات مناهج تنافس غير شريف، فنجد مثلاً الجارة تستدرج عاملة لدى جارتها وتعدها بزيادة الأجر ما يجعل مفهوم وحش السوق المفتوح يسيطر على الجميع بحيث يأكل القوي الضعيف، وهنا تشعر العاملة بالجشع والطمع ضمن المجتمع الذي تعمل فيه، وبالتالي ينعكس هذا على سلوكها وأسلوبها وفهمها للحياة، مع الوضع في الاعتبار أن هذه العاملة تكون في سن صغيرة جداً بحيث يسهل تطويعها وتلقِّيها وهضمها للقيم على تباينها. بالإضافة لذلك فإن الأسر لا تضع اعتباراً للمراجعة الطبية للعاملة ولا تأخذ أي احتياطات تتعلق بالسلوك العام لها وتتعامل معها كمخزن لتخزين الأطفال أو كهدية من السماء لتتحمل مسؤولية المنزل بكامله.
3-    موضوع صغر السن هذا لا يناقش إلا في إطار الخبرة والتجربة ويتأسس عليه قيمة الأجر والمميزات التي تتاح لهذه العاملة ودرجة الوساطة بين السمسار والأسرة المستخدمة؛ أما قانونية استخدام الأطفال وعلاقة هذا السمسار بهؤلاء الأطفال، والجانب الأخلاقي في التفاوض مع سماسرة من هذا النوع وفي هذا الإطار، فهي مما لا يتوقع نقاشه لا بين الأسر ولا المثقفين أو وسائل الإعلام!
4-    عجبت لدولة لا تريد أن تتحمل الأوزار عن منهجها الذي أدى لكل ما يحدث في هذا النطاق خصوصاً الجانب القانوني والحقوقي والصحي، وأعجب منها حين تتحدث عن محاربة الإتجار بالبشر ولا تتعامل بجدية مع السماسرة الذين يؤجرون بيوتاً كاملة لأغراض البيع والشراء والإيجار لعاملات المنازل؟! وعجبت لشعب يشجب انتشار المخدرات، ويحدِّث عن " الأخلاق" ولا يعير انتباهاً لمعسكرات الرق المنتشرة داخل الأحياء!!
إن الموضوع في رأيي ليس اعتذار القناة أو مقدم البرنامج عن تصرفات وأقوال اعتبرها البعض عنصرية وتمييز سلبي! الموضوع في رأيي متعلق بدور المثقفين والناشطين السياسيين والاجتماعيين وعلى مواقع التواصل الاجتماعي في تطوير الفهم حول مثل هذه القضايا في مستواها العملي.
 سؤال برئ: هل الشجب والتعليق العابر يكفي للمساهمة في طرح حلول لمثل هذه الظواهر بشقيها؟!
لا أعتقد أن هذا وحده يحل مثل هذه القضايا، ولكنه يمكن أن يعتبر ضربة فأس في غابة مليئة بالنباتات المؤذية، على أن تتبعها ضربات من فؤوس أخرى وفي مواضع أخرى..
إن الجانب الآخر للقضية مرتبط بالمفاهيم نفسها ودرجة استيعابنا لها، فهل نحن بريئون من أي عنصرية؟ وهل ما نردده من أقوال وما نقوم به من أفعال هو خالص لوجه الإنسانية واحترام الآخر؟
لا اعتقد أن شخصاً على دراية كافية بتعقيدات العالم، يمكن أن يجيب ب(نعم) لما أوردته من أسئلة، ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أنهم عبروا نحو الحداثة وتمكنوا من المفاهيم الحقوقية ونالوا درجة عالية في الحساسية واحترام التنوع، يراهم بعض آخر- البعض الذين في العبارة الأولى- مستعليين، أجلاف، استعراضيين، حثالة برجوازية، مستغربين- أي متأثرين بالغرب- وربما كفرة فجرة يهرفون بما لا يعرفون.
ولنأخذ لذلك مثالاً ناصعاً وهو الموقف من اعدام مغتصبي الأطفال؛ يرى بعض الحقوقيين أن مغتصب الطفل/الطفلة هو شخص قاتل وسارق طفولة ويجب اعدامه- وفي ميدان عام كمان- حتى يكون عبرة لغيره! في حين يراه آخرون مريض يجب معالجته. أما بعض الآخر فيرون إن الأجدى تفادي الأسباب التي تجعل مثل هذه الحوادث ظواهراً متكررة وربما طرحوا فكرة إعادة فتح بيوت لعاملات الجنس وهو أمر مختلف عليه. وقد ذكرت المثال السابق لأنني أعلم أن بعض الناشطين الحقوقيين لديهم موقف واضح من مغتصبي الأطفال ويرددون دون وجل عبارات المطالبة بالاعدام، والذي يعتبر حسب المفاهيم الحقوقية نفسها انتهاك لحقوق الإنسان، كما أعرف ناشطين ينادون بفتح مثل هذه البيوت لتفادي الكبت والجرائم الجنسية.
وبالرجوع لسيرة مقدم البرامج التلفزيوني، فقد تابعت عن كثب تعليقات كثيرة لأصدقاء يعتبرون في ضفة " الاستنارة" والحقوق، ولكن بمتابعتي اللصيقة لتعليقاتهم وتعليقاتهن، وجدت في بعض الأحيان هنَّات وكبوات في تعبير البعض عن الغضب، بحيث يدخلون في زمرة المنتهكين- بحسب القوانين الدولية- دون دراية، ولن أورد أي مثال في هذه الحالة وليراجع- من أراد- تعليقاته في هذه القضية.
لست ألفة على المنابر أو الاعلام الاجتماعي، ولكني وبحكم تريثي - ربما- في التعليق، وجدت إن أفضل ما يمكن أن أساهم به في هذه القضية هو رصد تنوع التعليقات واختلافاتها، وقد وجدتها مادة دسمة لفتح نقاش حول ماهية الحقوق التي يدعون لها ومدى الواجبات التي يلتزمون بها، ولا أعفي نفسي بالطبع من أي سؤال قدمته هنا.
إن كل شخص أدرك جزءاً أو شيئاً من المعرفة في مفاهيم احترام الآخر والتنوع، والمساواة والعدالة والحقوق، وآمن بأنها طريقة سليمة للتفكير، سوف يحاول أن يكون حسناً في نظر نفسه أولاً وفي نظر الناس من حوله ثانياً، ولكن في بعض الأحيان تغلب شهوات النفس والتربية والسلوك والرغبات، فيعجز ذلك الشخص عن أن يكون حسناً بالكامل، ولذلك تأتي أمور مثل أن/ تكون لدى الشخص أماكن مظلمة في حياته ولا يريد لأحد أن يطَّلع عليها، أو أن يقوم هذا الشخص بفعل ما، ويبرر لنفسه أن ما قام به صحيحاً تحديداً في هذا الوقت والمكان والظروف والمقام ولا مناص بالتالي من عدم القيام به.
وبالرجوع للسؤال: هل الحقوق هي الموجودة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين وما تلى ذلك من معاهدات واتفاقيات دولية متعلقة بحقوق الأقليات ومنع العنصرية وحقوق المرأة والطفل والمعاقين..ألخ؟ إذا كانت الإجابة نعم، هل تفسيراتنا لها واحدة، وترجمتنا لعباراتها داخل عقولنا موحدة؟
ما هو واضح أنه بخلاف اختلاف درجة المعرفة بهذه المواثيق والمعاهدات، إلا أن تفسيراتنا لما نعرفه عنها ليست واحدة وليست متسقة، على الرغم من اتفاق عدد كبير من الناس- الناشطين الاجتماعيين تحديداً- على الإيمان بعمومياتها، وهو ما يجعل مفهوم (الحسن) ليس كافياً للغوص في المواضيع والإفتاء فيها ومن ثم الاستدراك لإفاداتنا- في وقت آخر- بعد أن يكون آخرون أقل معرفة منا بهذه القضايا قد حملوها في أدمغتهم، فأصبحت منهجاً لهم في الحياة أو حين دخولهم في مناقشات حول هذه المواضيع.
خلاصة القول أن هناك مهمة مؤجلة لقيادات الرأي العام بمواقعهم وقنواتهم المختلفة، وهي الخاصة بإدارة حوارات حول قضايا الحقوق ومفاهيم العدل والحريات، حتى يمكن الوصول إلى تفسيرات متقاربة وتقاطعات مناسبة حول ما نقرأه ونتهجاه. ولا مانع في أن تكون الحملات للقضايا الواضحة- مثل قضية صفحة سودانيات ضد الحجاب- مستمرة، على أن يتبعها تطوير وتحسين للمفاهيم المحيطة بمثل هذه الحملات، بحيث نعبر من الحسن للأحسن.         
         
<baragnz@gmail.com>;

 

آراء