بصورة إلي الشعب السوداني

 


 

 

 

    تمارس الأمم والشعوب المتقدمة والراقية عمليات نقد ذاتي عقلاني بلا حدود حين تشعر بدخولها في أزمات،بقصد ايجاد الحلول التي تخرجها سريعا وبسلام من أزمتها.

ولا تسمي ذلك "جلدا للذات" أو"تخذيلا" أو"تطاولا علي الرموز"، بل تعطي ذلك الفعل،أسمه الصحيح والدقيق،وهو:النقد والنقد الذاتي.وهو فعل سياسي يدل علي النضج والعقلانية والوعى الكامل. ولكن الإنسان السوداني- وبالذات النخب، للمفارقة، لديهم حساسية الأطفال المدللين تجاه أيّ نقد مهما كانت نوايا صاحبه. ومع غياب النقد ظللنا كقوى معرضة نكرر أخطاءنا بلا توقف، ونجرب المجرب، ومن جرب المجرب حلت عليه الندامة.

هذا الشعب العظيم لم يعد في مقدوره، بعد هذا الصبر الطويل ،  أن يتحمل كل هذا القدر من العبث، والاستخفاف، وعدم الجدية من القوى المعارضة. ألا يكفيه ما يتعرض له طوال أكثر من ربع قرن من إذلال وقهر وتجويع وتشريد من نظام المشروع الحضاري الإسلاموي؟ ألا يكفيه ما ينشر عن الفساد والإفساد والإنحلال ثم تأتي عليه بيانات هزلية وهزيلة تبثها عليه قوى المعارضة تبرئة للذمة؟ ففي نفس الوقت الذي تمتلأ فيه شوارع بيروت وبغداد بالمظاهرات الهادرة ضد الفساد والاستبداد، تقصف الشعب السوداني، قياداته الحزبية ومجتمعه المدني وشخصياته الوطنية المناضلة بالبيانات التي ما قتلت ذبابة.

طلت علينا هذا الاسبوع في وسائل الإعلام – بعد صمت طويل: " مذكرة هامة من القوى السياسية المعارضة" تبدأ بالقول: " نحن الموقعين أدناه من تحالفات وتنظيمات وشخصيات سودانية وناشطين ومواطنين نؤكِّد أنه حان الأوان أن نتحد لإسقاط نظام المؤتمر الوطني الدكتاتوري الشمولي المتطرف" تصور هذا الاكتشاف العظيم: أنه حان الأوان أن نتحد لإسقاط نظام المؤتمر الوطني وتعتبر كل ال26 عاما سنوات سماح والآن فقط علينا أن نتحد لاسقاط النظام، حسنا: كيف؟  يتصدر المذكرة شعار : فلنتحد لتحويل صرف المجهود الحربي إلى تنمية متكاملة . وهذا أول دليل علي عدم الخيال والابتكار، فالشعاراقتباس من مقابلة السفير البريطاني مع صحيفة (المجهر السياسي) الاسبوع الماضي انتقد فيه الصرف الحربي.  ونقرأ:" في هذا الظرف الحرج الذي يتلاشى فيه الوطن نتنادى جميعاً بصوتٍ واحد لمواجهة هذا الصلف من أجل الحفاظ على وحدة بلادنا وتنوعه ومستقبل أجيالنا، ولا خيار لنا سوى الانتفاضة والثورة بتنسيق جهود طلابنا وكل فئات مجتمعنا وتنظيماتنا داخلياً وخارجياً ومنظمات المجتمع المدني والحركات المسلحة.والوسيلة للانتفاضة والثورة حسب المذكرة ، فالدعوة موجَّهة لعدد من التنظيمات والمنظمات " وكل فئات الشعب السوداني نساءً ورجالاً وشيباً وشباباً للتوقيع على هذه المذكرة؛ ونشرها محلياً وإقليمياً ودولياً تأكيداً على تضامننا ووقوفنا الموحد من أجل مستقبل بلادنا والمحافظة على مستقبله القريب والبعيد". وهذه ابتكار جديد قديم لاشعال الانتفاضات عن طريق التوقيعات.وقد وصل عدد الموقعين إلي 243بصورة إلى:الأمين العام للأمم المتحدة، أعضاء مجلس الأمن الدَّوْلِي،الاتحاد الأوروبي،الاتحاد الأفريقي، مجلس السلم والأمن الأفريقي،دول الإيقاد،جامعة الدول العربية،دول الترويكا (أمريكا، بريطانيا، النرويج)،وأستراليا، فرنسا، كندا، ألمانيا.ولا أدري ما هو دور هذه الجهات في اندلاع انتفاضة شعبية سودانية،خاصة وقد نسى الموقعون تضمين صورة  من المذكرة للشعب السوداني ،توضح عمليا كيف يتحد وينتفض؟

 فقدت قوى المعارضة الرؤية الاستراتيجية الصحيحة وبالتالي القدرة علي المبادرة واكتفت بمثل هذه المذكرات العابثة والهزيلة، والمؤتمرات التداولية الاستعراضية. إذ لابد لأي استراتيجية من أولويات ومن رسالة أو خطاب واضح ومحدد: هل أولوية المعارضة السودانية هي الانتفاضة أم الحوار؟ قد يقول(الصادق المهدى) ننتظر أجل مجلس السلم والأمن الافريقي90 يوما وبعدها نحرك الريموت كنترول لنزول الشعب للشارع منتفضا.وفي سؤال ل(ياسر عرمان):هل انتم مع الحوار ، ام اسقاط النظام ، لان موقف المعارضة غير واضح ، كما لا يوجد أي توجه نحو الانتفاضة ، وفي ذات الوقت ترفضون الحوار ؟ يجيب:" خطنا الرئيسي هو اسقاط النظام بالانتفاضة السلمية في المدن والانتفاضة المسلحة في الريف ، واذا ما تكاثرت الضغوط على النظام وقبل بحل سلمي شامل فلا مانع ، وان لم يقبل سنواصل الانتفاضة السلمية والمسلحة حتى النهاية ، ولا يوجد تناقض في الحالتين ، فمتى وجدنا السلام الشامل المفضي للتغيير قبلناه ، واذا واصل النظام تعنته سنواصل عملنا من اجل اسقاطه (مقابلة أجراها مصطفي سري في 8 يوليو2015).

ومن المنطقي أن تسير الاستعدادات للانتفاضة الشعبية مع مفاوضات الحوار. ولكن نضال الخارج هو الذي يتغلب في النهاية، فقد جاء في الخبار مؤخرا:" وعن اللقاء الذي جمعهم بمجلس السلم والامن الافريقي قبل ايام في اديس ابابا قال عرمان :لقاء الاتحاد الافريقي ببعض قوى نداء السودان حدث فريد وتاريخي وهو الاول في تاريخ مجلس السلم والامن الافريقي الذي كان في العادة يستمع للحكومات لا للشعوب مجلس السلم الافريقي خرج من السياق المعهود واعطى اعتراف بالمعارضة السودانية وعلى المعارضة ان تاخذ هذا الوضع بجدية وتوحد صفوفها لاسيما قوى نداء السودان ".

هناك أصوات داخل المعارضة الرئيسية، بدأت في نقد هذه الارتباك والتشويش، ففي لقاء مع (أحمد حسين آدم) مع الصحفي (عمار عوض) ردا عن سؤال حول نفس الاجتماع، يقول: "استاذ عمار، نعم تابعت ردود الأفعال المتباينة، خاصة من أطراف الأزمة السودانية حول بيان الاجتماع رقم ٥٣٩ لمجلس السلم و الامن التابع للاتحاد الافريقي في أديس أبابا (..)، بدا لي ان هنالك فرحة غامرة في أوساط المعارضة السودانية ، عبرت عنها بيانات و تصريحات قيادات قوي المعارضة الرئيسة، خاصة الجبهة الثورية و بعض قوي نداء السودان. الذين اعتبروا القرار انتصارا للشعب السوداني. ربما اجد تبريرا لفرحتهم، حيث وضح ان هنالك بوادر مواجهة بين النظام و الاتحاد الافريقي، لكنها ليست عميقة او استراتيجية، لذلك كنت أودّ ان يكون تعبيرهم عن الفرحة مقرون بخط رجعة و حذّر شديد. ذلك لان بيان مجلس السلم و الامن الافريقي لم يصدر نتيجة تغيير جذري في سياسة او مواقف الاتحاد الافريقي تجاه السودان، او امر ينذر بإعلان إجراءات و تدابير صارمة ضد نظام البشير لخرقه الممنهج لقانون حقوق الإنسان الدولي و القانون الانساني، او لمماطلاته و إجهاضه للجهود الإقليمية و الدولية لإيقاف الإبادات الجماعية و إيجاد مخرج استراتيجي سلمي للازمة الوطنية السودانية.

كلمة مانعة جامعة، بيان مجلس الامن و السلم آلافريقي لا يحمل جديدا البته... فهو بيان ذو أفق ضيق و محدود، ربما تكون غايته القصوي هي استيعاب المعارضين في النظام، بإجراء بعض التغييرات التجميلية هنا و هناك، لكن القرار لا يحمل إشارات لتغيير بنيوي او تفكيك للنظام كما ترغب المعارضة الفاعلة. فكما قلت سابقا، البشير عضو في هذا النادي الافريقي الذي سيراعي مصالحه لتقديرات كثيرة، حتي إشعار اخر." ( مقابلة أجراها عمار عوض يوم14/9/2015).

لا أشكك في وطنية المبادرين والموقعين علي تلك المذكرة، فأغلبهم زملاء وأصدقاء احترمهم وأحبهم، ولكنني أحب الحقيقة أكثر. فأنا أشك في حسن وصحة تقديرهم للظروف والوسائل الناجعة لمواجهة مثل هذا النظام الفاجر. فقد نجح النظام في احتكار الساحة الداخلية وفي نفس اقتنعت المعارضة بالعمل الخارجي والتعويل علي المجتمع الدولي والاقليمي، واتخذت من المذكرات ولقاءات المسؤولين الغربيين وزيارة البرلمانات الاوربية والامريكية، بديلا عن إعادة تنظيم النقابات والاتحادات وتأسيس اللجان الشعبية في الداخل. ولذلك يزايد النظام علي المعارضة " رافضا الحوار في الخارج" وكأنه الأكثر وطنية ناسيا أن كل اتفاقياته تمت في نيفاشا وأبوجا والدوحة. وهو يستغل تعويل المعارضة علي الخارج، والمسألة ليست جغرافية ولكنها سياسية بمعنى وجود الضمانات وتهيئة شروط وظروف الحوار.

  فات علي الموقعين أن الشرط الأولي للانتفاضة أو الحوار يبدأ بتغيير موازين القوى السياسية الداخلية وأن يشعر النظام أنه في خطر ومهدد أو علي الأقل يشعر بوجود أزمة تفرض عليه التراجع، وهذا ليس هو الحال.فالبشير مازال يتحدى العالم كله لأن شوارع عاصمته هادئة وخالية من المظاهرات والاعتصامات. وخلال لقاء مع الجالية السودانية ببكين اطلق تصريحات  استبق فيها إحالة القرارات الأفريقية بشأن الحوار الوطني لمجلس الأمن الدولي. وقال إنه سيمزق أي قرار من المجلس بهذا الشأن، مؤكداً عدم سماحه بنقل الحوار خارج السودان، ورفض التنازل عن رئاسة لجنة الحوار الوطني.(6سبتمبر2015).ومن ناحية أخرى، اعتبر مساعد الرئيس إبراهيم محمود، حديث  الصادق المهدي حول تقديم الحزب الحاكم لثلاثة عروض له على فترات مختلفة للمناصفة في السلطة، بأنه حديث لا معنى له أصلاً، قائلاً: «هناك فرق كبير جدًا بين مفاوضات وحوار وطني». مبيناً في تصريحات أمس، أن الحوار هو بين أهل السودان للاتفاق حول المصالح الإستراتيجية وليس للاتفاق حول اقتسام السلطة أو على مواقع مع الحكومة.(صحيفة اليوم التالي14/9/2015).

هذا هو موقف النظام من الحوار واضح لا لبس فيه، لأن ميزان القوى في صالحه ولا يشعر أنه بواجه أزمة كما" ندعى" نحن المعارضين،وليس هناك ما يخيفه ويجبره علي التراجع. فهل يخشى بيانات الفجر الجديد التي تراجع عنها الكثيرون قبل وصول مطار الخرطوم؟ أم يخشى نداءات في البرية:نداء السودان،نداء باريس، نداء برلين، نداء أديس وفي انتظار نداء ريو؟ فالمعارضة تصدر النداء التالي دون أن تخبرنا ماذا تم وأنجز من النداء السابق! المعارضة المدنية ليست لديها منبر موحد ، فقوى الاجماع لديها فقط ناطق رسمي أو لسان بلا جسم. والحركات المسلحة تسمي كفاحها المسلح " العدائيات" وتعلن خارطة طريقة لوقف العدائيات كتعبير عن حسن نية في " قرار مجلس2046 وقرار مجلس الأمن والسلم الإفريقي536". نحن مع السلام ولكن التوقيت سئ لأن النظام يحتاج لمزيد من الضغوط التي تجبره علي التراجع. حقيقة الأمر أن حركات دارفور في حالة ضعف وتراجع مدانيا.وهذا أمر متوقع، لأنها استمرت تحمل أسماء عبدالواحد ومناوى وجبريل وليس دارفور.لشد ما اتنمي أن يشرح لي أحد من هذه الفصائل ماهي نقاط الاختلاف الجوهرية وليست الشخصية التي تبرر فيام تنظيمه؟ أما المجتمع المدني فله كونفدرالية تذكرني بدور الملكة اليزابيث الثانية في بريطانيا. وبقية النظمات تعمل بالانتساب من خارج الوطن. كذلك ليست لدينا مرجعية دينية مثل السستاني أو حسين نصر الله تقوم بتعبئة الجماهير وتحريكها، فمرجعيتنا لها مشغوليات أخرى. فكيف تتكون قوى الانتفاضة الشعبية؟

استبشرت خيرا حين قرأت في البيان الختامي لمؤتمر لندن التداولي، ما يلي:  

"إدراكا منا بضرورة تعزيز العمل المعارض الذي يبدأ بنقد تجربة المعارضة بمختلف تكويناتها السياسية والعسكرية تفاديا لسلبيات أداءهاوبغرض تقويمها والمساهمة الفاعلة في تجويد أداءها حتى نعجل بإسقاط النظام واستعادة الديمقراطية وبناء دولة السلام والمواطنة والتقدم الاجتماعي".(إعلان لندن 30/ أغسطس/ 2015).ولكن لم يتقدموا خطوات عملية، فلتكن مناسبة هذه المذكرة فرصة لجهد مشترك. وهنا اتمنى من ال243 شخصية الموقعة أن ترسل صورة للشعب السوداني تدعو فيها لمؤتمر يضمهم جميعا وآخرين يناقش محورين:

1- لماذا فشلت كل محاولات المعارضة السابقة للوحدة واسقاط النظام؟

2-  اقتراح الوسائل والآليات للعمل المقاوم وتقسيم العمل والمهام علي السودانيين في الداخل والخارج لتحريك الشارع وتغيير ميزان القوى السياسي.

هذا هو البديل الفعّال للجدل حول الحوار ولتصحيح مسار العمل المعارض والابتعاد عن معارضة البيانات والادانات أو معارضة التسلية وتزجية اوقات الفراغ في مواقع التواصل الاجتماعي.

hayder.ibrahim.ali@gmail.com //////////

 

آراء