بطل التنظيم

 


 

 


abdallashiglini@hotmail.com



تقول أغنيتهم :
منذ  فارقني الرفاق،
فارقوا أرض النفاق ،
يمموا صوب المعالي ،
يمموا أرض اللحاق .
(1)
يقولون إن للصمت أحيانا ضجيجٌ يطحن العظام ، لكن سيأتي يومٌ للحجر الأصم أن يصرخ .عَذبة تلك النمارق المبثوثة ، تستدر العواطف ، ولكن رغم ذلك فإنها قد اغتسلت بالدم !. تكتُب قصة الذين اشتركوا في تنفيذ مخطط الشراكة الجهنمية ، العابرة للقارات ، وقد اختارت الوطن أرضاً للغزوة  التي أرادوها أن تعود بالخلافة  من جديد ، تلوي عُنق التاريخ ، وتغسل العصر من نِعم الحضارة وتهيل عليها التُراب . لا ترتوي من بحور الدم الذي تتجرع إلا لتزداد عطشاً.
هكذا يقول النشيد الذي صنعته آلة إعلام التنظيم الموجّه ، الذي تخصص أصحابه في صناعة الأبطال من أوراق الحياة قبل أن تعصف بهم الرياح . يتسابقون في توثيق المواقف وتجميعها، وانتقاء بعضها ، وإجراء التعديلات الفنية التي لا يلاحظها العامة من الناس ،توطئة لإخراج أفلام عن أبطال التنظيم عندما تأتيهم مباغتة ساعة الرحيل . مادة خام يتم إجراء الصناعة الدقيقة على برقُعها ليصبح كل موتاهم شهداء ، وغِمار الناس يمكن أن تَصنع منهم آلة الإعلام الموجّه أبطالاً ليسوا في حاضرهم فحسب ، بل ويستبطنون لهم البطولات من إرث طفولتهم ،كأن الملائكة شقّت صدورهم واستبدلت قلوبهم ونفوسهم ونقّتها من أخطاء البشر و مجاهل عقولهم الباطنة ، ليصبحوا أنبياءً مقدسين لزماننا !. كانت هنالك دار للإعلام ( الجهادي ) في شارع البلدية وسط الخرطوم ، بها أرتال من المختصين الذين يعملون في صناعة أفلام الأبطال ، تطابقت مسيرتهم مع ملامح البطولة أو لم تتطابق .
(2)
غريب أن يكون من بينهم من له تلك الجسارة والإقدام مثل بطل التنظيم! . اختلفت أنت مع سيرته أم اتفقت ، فهو شخصية لا تشبه رفاقه. بقدر ما يؤمن بقضية أياً كانت ،فإنه يختط لنفسه طريقاً ، كأنه يسير معصوب العينين . يذهب الطريق إلى أقصاه ، يتخيّر الوعر من الدروب، يكافح بلا مرونة ، ولديه القرار الحاسم هو الأفضل ،حتى لو توشح بخضاب الدم . كم قصص سرت بين الناس عن حضوره تنفيذ أحكام الشنق أو الإعدامات بالرصاص والدفن على عجل ، بل تقول القصص أنه كان المؤثر في القرارات بالحسم .و على نقيض تلك السيرة يقول البعض إنه  يأخذ من دنياه أقل الموجود ،صحابي المسلك ، يصوم ما تيسر من بعد الفروض ويقرأ من الذكر الحكيم ما تيسر أيضاً، لكن.. هل اشتمّ ريح السيرة النبوية الشريفة أو تقفى أثرها الذي سطره الذكر الحكيم في أبلغ صورة  {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107 ؟!.تلك الإشارة القرآنية للنفحات المحمدية التي  ذبحها التنظيم عندما احتفل بمغانمه عند الوثوب إلى قمة السلطة ،واستباحة الكثير من المحارم ،فليس من السهل محو  الجرائم من الذاكرة .
(3)
بين يديه  دائماً سطوة مفتوحة على كل الخيارات ، فالتنظيم قد صنع من الأرض التي غزاها فيئاً ، وتركة مبذولة لأبنائه وبناته. العزل والسجن والتعذيب للآخرين ،قضايا لن تسقط بالتقادم . رغم ذلك كان هو يضنّ على نفسه وأسرته ، وتلك سيرة لا تشبه سير عامة الذين يتّبعون التنظيم ، فلم نعرف مما رشح من بواطنهم مكاناً لعواطف نبيلة تجاه الآخرين أو أن نقاء الزهاد قد أمطرت سماؤه عليهم لسقي صحاريهم الجرداء. لذا اقتضت  التعبئة التنظيمية أن يتحول النقاء الفطري  لدى البعض إلى غنيمة مرنة تتخير المنظمة صاحبها وضعف يسهُل تحويره لصناعة أبطال التنظيم ، وكِباش فداء لقضية الردة إلى الخلف التي يرغب التنظيم أن يغنم من الترويج لها .
(4)
بقدر ما تحتقن النفوس البشرية بالشرور ، تُبرق من البعيد إضاءات الخير ، لأن الخير في الإنسانية أعمق من الشرور ولو أظلمت بالحياة أو أطفأت شموسها . الذين يصنعون دراما الحياة ، والذين يكتبون الروايات المغموسة في لهب الواقع ، كانوا يدركون أن النفس البشرية مشتبكة بكافة المشاعر المتناقضة ،  تجد القاتل في لحظات  أخرى هو الرحيم على الطفولة أو هو الرؤوف على البعض .وأن العقول الباطنة مكنوزة بمعاني الحياة وأزهارها  الفواحة بالعطر وأيضاً مكنوزة بالأشواك السامة ، فالخيرالممدود ولو قلّ ، فهو يئن من أوجاع الذين تأصلت فيهم القسوة تجاه الآخرين . والشرور التي تأتي في انعطافات الواقع ، تتضخم ، ولكنها زبد جُفاء سيرحل آخر المطاف.إن السماء تضيء بنبض الإنسانية ، ولو حمل البشر في أنفسهم كل الكراهية الممكنة،فإن بذور الخير أبقى وأنفع ، و صنيع البشر في حيواتهم ، يخضع لمبضع النظر اللاحق لتاريخهم الوجودي، والتقييم النقدي في المستقبل  أكثر عدالة من تقييم أصحاب الهوى والغرض .
(5)
كان سيناريو القصّ ثلاثي الأبعاد ، صوت وصورة متحركة  وموسيقى تصويرية مؤثرة ، سبقت كلها ميعاد رحيله . كل الصور المتحركة و وأصابع السبابة الممدودة وأصوات التهليل والتكبير ، محسوبة الخُطى . وهي سيرة يتم تنفيذهاعن الذين يصنع الإعلام منهم أبطالاً في مقبل أيامهم. أفلام تسجيلية تقوم باستجرار العواطف كأن الحقيقة قد تبدت ناصعة ، فتخالها أنتَ كذلك ، في حين أنها غيمةٌ كذوب لا تُمطر خيراً أبداً، فواقع الحال هو المقياس الحقيقي لهزيمة مخططات التنظيم. تعودت اللغة أن تصف الموتى بالشهداء ،لتلبسهم أثواب القداسة . تهليلٌ وتكبيرٌ تدوي به الحناجر واهتزازاتها القادمة من أعماق آبار الصدور، ففاجعة الرحيل وفجاءته ،لن تمحى ما قد سبق من تصفية جرائم متراكمة .هبت العواصف المُزلزلة بالنبأ ، ثقيلةٌ على الأسماع ، هزَّ أركان النظام ، أن واحداً من صُناعته الكذوبة الممهورة بالذبائح  البشرية عند كل انعطاف طريق ،هو عينه الذي يتقفى سيرة  الصحابة ويجمع في نفسه كل النقائض ويرحل . يتوسم التنظيم أن طريق هُداه قد بانت ملامحه ، وأن النُصرة وإن تأخرت ، فستكون حسبما يرى ، ولكن مصير ( الجماعة ) أن تستطعم الثمر المُرّ آخر المطاف .
(6)
نحن في حاجة لقراءة صبورة ودقيقة لشخصية لعبت دوراً رئيساً في قصة الخروج عن قوانين الحياة وفطرتها ، بالقسوة ومهر الدم  المبذول والتشفي .إن البطل كان يسابق العمل ليل نهار لنجاح التنظيم وأمنه مهما تكلف.قصة مصرعه أيضا واحدة من القصص الغامضة المبهمة ،كقصة رحيل العقيد (بيــويـو كـوان دينق) أو رحيل ( اللواء الزبير)، فقد جاءت الأنباء يوم الخميـس 5 أبريل 2001 وأفادت، إن  أربعة عشر ضابطاً سودانياً وجندياً واحداً، وبينهم عدد من القيادات البارزة في الجيش السوداني، وأحد أبطال التنظيم ،قد قتلوا يوم الأربعاء٤أبريل٢٠٠١بسبب انحراف الطائرة التي كانت تقلهم عن المدرج لدى هبوطها في مطار(عدارييل ).
(7)
قال رئيسه المباشر يتحدث عن سيرته من بعد زمان :
{حقيقة لما استشهد(بطل التنظيم )، أنا قلت للناس أن استشهاده تأخر كثيراً جداً .كانت ثقتنا كبيرة ، وترتيباتنا  الدنيوية كانت مكتملة . حدثت  المحاولة المايوية  بعد تحديد التاريخ ،واضطررنا للتأجيل، واخترنا موعداً جديداً ، لكن كنا مواجهين بأن يكون التحرك سريعاً وتوجد عدد من التنظيمات التي كنا نخترقها و نسبقها في التنظيم والتخطيط.(بطل التنظيم )حين التوقيت ،كان سوف يُنْقَل خارج الخرطوم وهو شخصية مفتاحية في المدرعات . وفي اجتماع تنسيقي ، كان الموقف صعباً للغاية  ، كل الوحدات قال المسئولون عنها (نحنَ ما جاهزين )، عدا( بطل التنظيم ) في المدرعات ورفيقه الآخر في وادي سيدنا.وكان علينا أن نستدعي من مصر عضوي مجلس الثورة . موقف ( بطل التنظيم ) وترتيباته وتحضيراته ، وأعماله في رفع معنويات القوات المسلحة، بظهوره في مسارح العمليات كان لها عظيم الأثر ،وهو حقيقة رجلٌ زاهد ، كان قد رفض السكن في حي المطار وسكن قريته...}.
....

عبد الله الشقليني
7/11/2013

 

آراء