بعد التقرير الأممي .. هل ينجح السودانيون في تحقيق حلم الدولة المدنية..؟!

 


 

 

هذه الأيام يزدحم المشهد السوداني السياسي بتطورات كثيرة وفي غاية الأهمية ومنها ما يمكن أن يؤرخ به، ومنها ما سيكون عِبرة للآتين من رحم الغيب، خاصة وأن تاريخنا السياسي زاخر بالأحداث الجسام التي ظلت عالقة في الأذهان وتظل إلى يوم الدين لأنها ارتبطت بعذاب وآلام وفقدان أنفس عزيزة، ما أنا بصدد اليوم هو التقرير الموجز الذي أصدرته بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (اليونيتامس) مساء الأحد الماضي (27 فبراير) حول مشاوراتها من أجل عملية سياسية للسودان، وتزامن ذلك مع الحدث التأريخي المهم وهو تدشين (تأسيس سلطة الشعب) والمليونية العظيمة التي أكدت مثل سابقاتها على تحقيق أهداف الثورة المباركة (حرية -سلام -عدالة).
بداية لا بد من التأمين على أن شعبنا العزيز شغوف غاية الشغف بامتلاك حريته وكرامته وحقه في التطور والتقدم مثله وباقي كل شعوب العالم الحر، ولذا لم يكن غريبا أن يتفاعل بكل احترام وتقدير مع مبادرة الأمم المتحدة لحرصه على استقرار وأمن البلاد، وأن تبلغ الحلم الذي ظل يراودنا منذ الاستقلال في أن يكون لنا دولة ذات سيادة توفر لشعبها كل أسباب الرفاهية والتقدم والازدهار في كافة مناحي الحياة وبلادنا لها من الامكانيات والموارد ما يجعلها في مقدمة بلاد العالم.
إن المهمة التي قامت بها البعثة الأممية في السودان على امتداد الخمس أسابيع الماضية استضافت أكثر من 110 اجتماعات ثنائية، بمشاركة أكثر من 800 شخص من جميع أنحاء السودان، ثلثهم من النساء، وعُقدت اجتماعات في دارفور وجنوب كردفان، وقامت بتحليل أكثر من 80 مبادرة مكتوبة، التقرير الأممي لم يدّعي أنّه حصد آراء جميع السودانيين، لكن من خلال ما ورد في موجزه عمل على ضمان إدراج مكوّنات المجتمع الرئيسية، علاوة على ذلك، لم تكن عملية التشاور منظمة كاستطلاع رأي ولم تنسب قيماً عددية إلى الآراء المعروضة، إذ أكد التقرير بأن الهدف الذي أنطلقت منه البعثة الأممية جمع أوسع نطاق من وجهات النظر لعكس التنوع الثري في الآراء المشاركة كجزء من عملية التشاور هذه.
يبدوا أن المجتمع السياسي السوداني الآن في حالة قراءة متأنية لتقرير بعثة الأمم المتحدة (اليونيتامس) وقد مضى على صدوره ثلاثة أيام وتم توزيعه ونشره على نطاق واسع، التقرير يؤكد بالفعل حجم الازمة الكبيرة التي يعيشها السودان، في كل مفاصلها، من خلال قراءتي السريعة لملخص التقرير أقول أن ما توصلت إليه البعثة الأممية في السودان يصب في صالح الحُكم المدني بالدرجة الأولى، ويُعزّز قناعات جميع أهل السودان الذين خرجوا في التظاهرات رافضين استمرار ديكتاتورية الحُكم العسكري، ذلك لأن (اليونيتامس) قد أكدت من خلال جهودها في الخمس اسابيع التي انصرمت أن الاجماع كان ساحقاً أيضاً على الضرورة الملحة لإنشاء المجلس التشريعي الانتقالي المؤلّف من مدنيين، مع نسبة 40 بالمئة على الأقل للنساء، ووقد خرج التقرير بما مفاده أن 110 اجتماع مع 88 شخص في من جميع أنحاء السودان نادوا بمراجعة التخصيص الحالي للمقاعد ليشمل القوى الثورية.
أعتقد هذه النقطة من أهم المرتكزات الأساسية في حل الأزمة السودانية، لكن المكون العسكري هو الوحيد الآن في الساحة الذي يرفض بشكل بات كل ما يؤدي إلى حل جذري للأزمة وذلك من خلال ممارسته اليومية للقتل والتنكيل وإراقة الدماء البريئة واشعال البلاد بالفوضى وجعل المؤسسة العسكرية تتحول من دورها الوطني إلى ألة للقتل والقمع وقتل أبناء الشعب بدم بارد، وهو ما يُفهم منه الرفض لكل ما من شأنه أن يؤدي للاستقرار في السودان والتقدم للأمام حتى تنتهي الفترة الانتقالية بسلام.
في ما يتعلق بضمّ الجماعات المسلحة غير الموقعة، حركة تحرير السودان-عبد الواحد النور، والحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال عبد العزيز الحلو، إلى اتفاق جوبا للسلام وبالمثل، على أنّ جميع القوات العسكرية وشبه العسكرية في السودان أن تتّحد ضمن جيش وطني واحد غير حزبي بقيادة واحدة وعقيدة واحدة، هي نفس النقاط التي يجمع عليها الشعب السوداني في كل مرة، لأنه ليس من المنطق أن يحدث استقرار في البلاد وهناك من هو خارج دائرة الفعل السياسي والعملي ومن حقه أن يشارك مثله ومثل الكيانات الأخرى سواء كانت حركات أو كيانات سياسية، فإن تقرير بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (اليونيتامس) أكد على اجماع الناس حولها، خاصة وأن التقرير حدّد مجالات التوافق والاختلاف بين مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة السودانيين الذين تشاورت اليونيتامس معهم سعياً إلى آراء حول الخيارات المتاحة للخروج من الأزمة السياسية.
أعتقد أن البعثة الأممية في السودان بقيادة السيد فولكر برتيس قامت بمجهود كبير وجبار يستحق التقدير، فإذا كنا قد فشلنا في إدارة حوار وطني واسع فيما بيننا ويخرج بنتائج يقبلها الجميع فإن هذا الجهد يجب أن يُقبل من الجميع، بحيث يُبنى عليه والاستفادة من مؤشراته المهمة التي وفرها، بطبيعة الحال إن المكون العسكري بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان وزعيم قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) بشكل أو آخر سيعبران عن رفضهما لتقرير بعثة الأمم المتحدة في السودان ذلك لأن التقرير نقل بكل وضوح رغبة الشعب السوداني في دولته المدنية وفي أن تكون جميع القوات العسكرية وشبه العسكرية ضمن جيش وطني واحد غير حزبي بقيادة واحدة وعقيدة واحدة، وهذا ما لا يريده نائب رئيس مجلس السيادة زعيم قوات الدعم السريع الذي بدأ في تشكيل جيش يفوق إمكانيات القوات المسلحة الوطنية وأن زياراته للخارج تؤكد أنه يسير في هذا الاتجاه.
إن الفترة التي يمر بها السودان لا بد أن تجعل القوى الثورية الوطنية المخلصة تسير بشكل متوازي مع متطلبات الفهم السياسي العام لإيجاد مخرج للأزمة، وفي ذات الوقت استمرار الشارع في ثورته المطالبة بالحُكم المدني، والرافض بقوة لكل اشكال الحُكم الديكتاتوري وذلك لقطع الطريق أمام المكون العسكري في أن يحقق مبتغاه، وذلك وفاءا لدماء الشهداء وانتصارا لأسرهم.

2 مارس 2022م




khssen@gmail.com

 

آراء