بعد معارك السودان: هل من معطيات جديدة لأزمة سد النهضة؟

 


 

 

تشكل المعارك الدائرة في السودان تحدي جديد تواجهه كل من مصر والسودان بشأن مصالحهما الاستراتيجية سواء المشتركة أو المنفردة فيما يتعلق بسد النهضة وطبيعة الأداء الإثيوبي المرتقب على الصعيد الإقليمي والذي قد يؤثر على مصر في ملف سد النهضة فقط، بينما يؤثر على السودان في ملف إضافي وهو ملف الحدود مع إثيوبيا.

وقد يكون من المهم والمفيد طرح هذا التحدي في محاولة قراءة تداعياته من ناحية واكتشاف فرص التعامل معه في ضوء مصالح الشعبين المصري والسوداني والمخاطر المحدقة بالأمن المائي للدولتين.

وفي هذا السياق فإن مشهد الاشتباكات السودانية الحاضر عشية المليء الرابع لبحيرة السد له تداعيات متعددة المستويات، وذلك بعد انهيار فرصة كانت لائحة في الأفق بعقد جولة مفاوضات بين الدول الثلاث طبقًا لتسريبات من عاصمة دولة الإمارات التي كانت راعية لمفاوضات غير معلنة على مدي شهرين توجت بانسحاب مصري بعد فترة ليست بالقصيرة من هذه المفاوضات.

وربما يكون من المهم أولًا رصد المؤشرات الراهنة فيما يتعلق بتفاعلات الصراع على الأرض من زاويتن. الأولى، المدى الزمني المتوقع لاستمرار هذا الصراع. أما الزاوية الثانية، فهو تداعياته على الوضع الإقليمي السوداني وذلك في محاولة لاكتشاف مناهج العمل المصري اللازمة مع مسألة سد النهضة في المرحلة المقبلة.

في هذا السياق لدينا عدد من المؤشرات السلبية، منها أن حالة الاشتباكات المسلحة بين طرفي المكون العسكري السوداني مرشحة للاستمرار لفترة ليست قليلة نتيجة واقع توازن الضعف العسكري بين الطرفين، وهي الناتجة عن طبيعة كل مكون علي حدة، فبينما القوات المسلحة السودانية هي جيش نظامي خبرته القتالية هي في الحروب المفتوحة، فإن قوات الدعم السريع هي تكوين عسكري ميليشاوي يعتمد علي تكتيك إضرب وإهرب وهو ربما ما يفسر لنا ربما حالة تبادل السيطرة العسكرية بين الطرفين في الأسبوع الأول من المواجهات على مواقع مثل مطار مروي أو سلاح المهندسين وغيرهما.

المؤشر الثاني، أن الإرادة السياسية لكل من البرهان وحميدتي غائبة فيما يخص التهدئة أو بلورة موقف تفاوضي في مشهد يسع الرجلين معًا، ذلك أن كلا الطرفين لديه تقدير موقف أنه قادر علي حسم الموقف عسكريًا لصالحه، كما أن كلا الطرفين لديه خطاب سياسي معلن لتبرير هذه الاشتباكات، فبينما يصف البرهان، حميدتي أنه ساع للسلطة ومتمرد، يصف حميدتي، الأخير بالخيانة لحلم الشعب السوداني بالتحول نحو الديمقراطية ويقول أن هذه المعارك التي تزهق فيها الأرواح رخيصة هي من أجل الدولة المدنية !! وكلا الخطابين من الرجلين هما للأسف تحت مظلة مشاعر تبدو ثأرية يكيل كل طرف منهما للآخر سيل من الاتهامات.

المؤشر الثالث، البعثات الدبلوماسية تغادر حاليًا الخرطوم، وذلك طبقًا لتقديرات غربية من الأجهزة الاستخبارية أن العمليات العسكرية سوف تمتد وهي مهددة لسلامة أعضاء البعثات الدبلوماسية الأجنبية بعد مقتل أكثر من شخص منتسب إلى منظمات دولية، من هنا أعلنت السفارة الأمريكية بالفعل تعليق أعمالها وهو ما يعني أن آليات التواصل الدبلوماسية سوف تعاني من تحديات أكبر في محاولة الوصول إلى تهدئة فما بالك بجهود وقف إطلاق نار ممتد أو دعوة للتفاوض.

وفي سياق موازي، يعد انسحاب قوات الدعم السريع من الشريط الحدودي في منطقة الفشقة إلى العاصمة السودانية لدعم حميدتي في العاصمة خَصمًا من القدرات العسكرية السودانية على الحدود الإثيوبية. وهو الأمر الذي يعني في التحليل الأخير وربما على مدى زمني متوسط إمكانية تغول قومية الأمهرا تجاه السودان وهي التي لديها مزاعم فيما تعتبره حقوقًا تاريخية لها على الأراضي السودانية، كما أن لها وجود اقتصادي فعلي في مجال الاستزراع في مناطق الفشقة التي استعاد جزء كبير منها الجيش السوداني قبل عامين تقريبًا.

وطبقا لهذه المؤشرات، فإنه لا يمكن التعويل على موقف سوداني متماسك في ملف سد النهضة وربما يكون أيضًا غائبًا بالكامل في حالة استمرار الصراع وهو ما يعني حضورًا إثيوبيًا إقليميًا ودوليًا على حساب السودان وأوزان إضافية لإثيوبيا على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ويمكن القول أن الارتباك السياسي السوداني ستكون نتائجه المباشرة أولًا هي إضعاف أي تحفظات على الملء الرابع المنتظر الذي يبدأ صيف هذا العام، الأمر الذي يلقي بمزيد من الأعباء على الجانب المصري، وتحركاته الدولية والأممية في هذا الملف، كما أن الأوضاع الداخلية السودانية حاليًا سوف تستحوذ على أولويات الاتحاد الإفريقي إزاء قضايا الأزمات في القارة الإفريقية، ولن يكون هناك اهتمام بأزمة سد النهضة وذلك مع تأزم الوضع في السودان وتكلفته الإنسانية العالية، وسوف يكون ذلك بدفع مباشر من دولة إثيوبيا دولة المقر للاتحاد الإفريقي والتي علينا أن نلاحظ أنها قد قامت ببلورة مبادرة إفريقية موازية للمبادرة المصرية بشأن التهدئة في السودان فور إعلان القاهرة ذلك.

هذا المشهد ربما يحتم على مصر في هذا التوقيت حشد القدرات المصرية الذاتية للدفاع عن موقفها في سد النهضة مستصحبة معها المصالح السودانية باعتبارها مصالح ممتدة للشعب السوداني وأجياله الجديدة خصوصًا مع السلوك الأحادي الإثيوبي الذي يقلص فرص التنسيق في التشغيل بين السدود في الدول الثلاث.

وكذلك وجود خبرة الانعكاسات السلبية للملء الأول والثاني على السدود السودانية ومحطات الشرب، والتي أحرجت حكومة حمدوك المدنية، وربما في هذا المجال يمكن الاستفادة من الخبرات المملوكة لبعثة الري المصري الموجودة في السودان.
أما في السياق السياسي، فإنه على القاهرة أن تقدم مبادرات لمجلس السلم والأمن الإفريقي، وتمارس ضغوطًا عليه وذلك بالتنسيق مع أي سياق إفريقي متاح راهنًا، وذلك حتى يقوم بدوره في موضوع الاستقرار السوداني ودعم جهود التهدئة ووقف إطلاق النار وغيره دون إغفال لملف سد النهضة كملف منفصل.

وإذا كانت التفاعلات المصرية في بعض دول شرق إفريقيا قد واجهت تحديات في فترة سابقة فإن استئناف ومواصلة الجهود في هذا القطاع الجغرافي والحيوي لمصر قد أصبحت فرض عين لخلق مساحات مساعدة تدعم المصالح المصرية وذلك مع حالة الارتباك السوداني وإمكانية تدهور الموقف الأمني والإنساني في هذا البلد الشقيق.

وفي الأخير، فإن مواصلة الجهود المنفردة للجامعة العربية وأمينها العام الوزير أحمد أبو الغيط دون كلل أو ملل تبدو مطلوبة والحاجة إليها ملحة وذلك بهدف ترتيب البيت العربي بما يتيح التنسيق بين المصالح العربية المتناقضة في السودان والتي كانت أحد معطيات الاشتباكات الراهنة بين طرفي المكون العسكري، ذلك أن انزلاق السودان لحرب أهلية ممتدة لن تكون مهددًا إستراتيجيًا ليس لمصر فقط ولكن لجملة من المصالح العربية، وإذا كان انهيار السودان هو خسارة أساسية لمصر فإن علي بعض الأدوار العربية ضرورة الاستبصار وحساب المآلات المدمرة التي يقود إليها هذا الصراع السوداني وتأثيره في النطاقين العربي والإفريقي خصوصًا فيما يتعلق بأمن البحر الأحمر الذي يملك أهمية إستراتيجية لدول الخليج علي الصعيدين الأمني والاقتصادي.

 

آراء