بعض قضايا الإقتصاد السياسي لمشروع الجزيرة
الحلقة الأولى
مشاكل ملكية وإستخدام الأراضي الزراعية في السودان
مشروع الجزيرة نموذجاً
صديق عبد الهادي
"لم تحمل الدولة المهدية فيما بين 1885-1898 فكرة ومسالة حداثة الدولة، وتدفع بها في نفس المسارات التي كانت عليها تحت ظل الحكم التركي – المصري، إلا أن ما تقدم به الإمام المهدي من رؤيةٍ وإجتهادٍ حول ملكية الأرض، يرقى إلى ان يكون، ومما لا شك فيه، ركناً أساساً في أي إصلاحٍ زراعي بالفهم المعاصر!."
مقدمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة/
تُعتبر ملكية الأرض واحدةً من أهم القضايا التي تواجه الوطن، وذلك لما لها من إرتباطٍ وثيق بحياة الناس، وبإستقرارهم إقتصاديأ وإجتماعياً وسياسياً، بل وبمسألة وجودهم في المكان الأول. إننا نتناول، في هذا الباب من الكتاب، قضية الأرض في عموم السودان، ولكن بتركيزٍ خاص على قضية الأرض في مشروع الجزيرة، وذلك لما لها من تاريخ معروف وواضح، هذا من جانب، وأما من الجانب الآخر فلأن مشروع الجزيرة يمثل، وبكل المقاييس، ركناً اساساً للقطاع الحديث الذي إنبنى عليه الإقتصاد السوداني المعاصر، وليصبح معتمداً عليه بعد ذلك، في وجوده وفي مسيرته. والأهم أن في مسيرة المشروع وتطوره كان أن لعبت القوانين المنظمة له، ومنذ إنشائه، دوراً كبيراً في ترسيخ تلك المسيرة وفي دفع ذلك التطور.
إن تلك القوانين، وفي المحصلة النهائية، هي ليست سوى خلاصة وتعبير عن صراعٍ، لم يتوقف طيلة تاريخ المشروع، حول الأرض وملكيتها وإنتاجها. هو صراعٌ حتمت وجوده علاقاتٌ معقدة ومتشابكة. علاقاتٌ، حاولتْ وتحاول تلك القوانبن تفسيرها والتعبير عنها، وذلك ليس في بعدها الحقوقي فحسب وانما في بعدها الإقتصادي والإجتماعي بل والسياسي في الحصائل النهائية للتحليل.
خلفية مهمة،
موضوعة أو ظاهرة الإستيلاء على الأرض/
The Land Grabbing Phenomenon
ونحن نتناول قضايا الأرض في السودان، وبتركيزٍ خاص على الأرض في مشروع الجزيرة، هناك حقيقة تاريخية أصبحت تتكشف أمام العالم وبشكل أكثر وضوحٍ، وفي كل يوم، حيث نجد أنه ليس هناك من بدٍ غير وضعها والإشارة اليها. إن تلك الحقيقة المقصودة هي بروز الظاهرة العالمية التي أضحت تُعرفُ بظاهرة "الإستيلاء على الأرض" (The Land Grabbing). وهي ظاهرةٌ لم تعد محل إهتمام الإقتصاديين لوحدهم، وانما إسترعتْ كذلك إنتباه قادة الرأي العام في العالم والمدافعين عن حقوق الإنسان، وبشكلٍ خاص أولئك المدافعين عن حقوق المواطنين الأصليين في إمتلاك أرضهم.
يتجلى ذلك الإهتمام بدءاً من تعريف مصطلح الظاهرة، مروراً بتشكلاتها وكنه محتواها، وإنتهاءاً بالوقوف على ما يترتب من ممارستها وإندياحها من نتائج على المستوى الإقتصادي والإجتماعي والسياسي وحتى الثقافي والبيئي على مستوى العالم، وخاصةً في البلدان المتخلفة والنامية، التي أصبحت هدفاً أساساً للقوى العالمية التي تبحث وبشكل محموم لأجل الحصول على الأرض. وذلك بغرض الإستثمار الزراعي بشقيه، توفير الغذاء اولاً والتوفر على الطاقة الحيوية ثانياً. وفي هذا الصدد كانت دول أفريقيا وامريكا الجنوبية هي محط النظر، وذلك لحقيقة توفر الأرض فيها. وهي الأرض المقصودة بالبحث لاجل الإستثمار.
إنه، وفيما بين العام 1995 و1996 كان ان تمت مسوحات يالاقمار الصناعية حول العالم لمعرفة الإمكانات المتوفرة فيه فيما يخص الزراعة، فجاءت نتائج المسوحات بــــ"أن 80% من إحتياطي العالم من الأراضي الزراعية الخصبة والبكر توجد في أفريقيا وأمريكا الجنوبية. وبناءاً على تلك المسوحات جاءت التقديرات بأن مساحة الأراضي الزراعية في افريفيا تساوي 807 مليون هكتاراً، (أي 1,977 مليون فدان تقريباً) وأن ما مستغل منها هو 197 مليون هكتاراً (أي 483 مليون فدان تقريباً)".( )
وبعملية حسابية بسيطة، فإن ما هو مستغل يساوي أقل من 25% من الارض الزراعية في افريقيا!.
وضَّحتْ المسوحات كذلك أن افريقيا هي القارة الأوفر حظاً في العالم فيما يخص التمتع بالأرض، إذا كان من ناحية خصوبتها، او من ناحية مساحاتها، وحيث لا تدانيها قارة أخرى. وقد وردت إشارة في غاية الأهمية وهي، أن هناك سبعة دول تمتلك، او يوجد فيها تقريباً، نصف الاراضي الزراعية المتوفرة في العالم. وتلك الدول هي "أنجولا، جمهورية الكنغو الديمقراطية، السودان، الأرجنتين، بوليفيا وكولمبيا"( ). فما يهمنا هنا وفي هذا المقتطف هو أن السودان، وبموقعه بين هذه الدول، يكون قد أصبح في عين العاصفة، أي محط الإنقضاض أو الإستيلاء على الأرض!.
إن الإختلاف حول تسمية ومصطلح الظاهرة نفسها بين الجهات والأطراف المهتمة بها، يفصح عن حقيقة الموقف من "محتواها" ومن "نتائجها" كممارسة، وكنشاط. إن ظاهرة "الإستيلاء على الأرض" تمثل، ومما لا شك فيه، شكلاً جديداً من أشكال الإستعمار والإستغلال فيما بعد "الإستعمار الحديث"، إذا جاز القول. شكلٌ يبدو أكثر "نعومةً" في مظهره بالمقارنة مع الأشكال التي تبدو فظةً، أي تلك التي مارستها بالتحدبد الشركات العابرة للقارات وللأمم، والمؤسسات المتعددة الجنسيات، التي صعد نجمها فيما بعد أفول الإستعمار التقليدي وبزوغ حركة التحرر الوطني في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية!.
إن القوى التي تقف من خلف إنتشار ظاهرة "الإستيلاء على الأرض"، سواءٌ في البلدان المتقدمة أو المتخلفة، تشمل فيما تشمل قوى نوعية وأطراف متعددة من حكوماتٍ مختلفة، خاصة الديكتاتورية منها وبشكل خاص في بلدان أفريقيا، وكذلك تشمل هيئات إستثمارٍ وبيوتاتٍ ماليةٍ عالمية ومحافظ إستثمارٍ سياديةٍWealth Funds (SWFs) Sovereign ذات ثراء طائل من بلدانٍ كالصين ودول الخليج العربي، والولايات المتحدة الأمريكية.
جاء في تقرير اليونكتاد (UNCTAD) لعام 2018 ان حجم الإستثمارات الخارجية المباشرة Foreign Direct Investment (FDI) يقدر بـ 1,43 تريليون دولار، حيث كان نصيب كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية 42 مليار و151 مليار دولار، على التوالي.
إنه، ومن أشهر محافظ الإستثمار السيادية على المستوى الإقليمي هي هيئة الإستثمار القطرية Qatar Investment Authority (QIA) التي تدخل في شراكات ضخمة في مجال "الإستيلاء على الأرض" في كل من جنوب شرق آسيا وأفريقيا. وإلى جانب هذه المحافظ توجد مؤسسات إستثمارية أخرى تمتلكها الدول وتعرف بـ State-Owned Enterprises (SOEs) وتلك مثل شركة "زاد" القابضة القطرية، التي يشير بعض الباحثين إلى وجودها المكثف في مجال الإستثمار في السودان. معلومٌ، أن جزء كبير من النشاط الإستثماري لهذه المؤسسات العالمية أصبح مرتبطاً بشكلٍ أساس بظاهرة "الإستيلاء على الأرض"!.
وفي تأكيدٍ للإنتشار الطاغي لهذه الظاهرة نشير إلى بعض الحقائق التي أوردها البنك الدولي، ومنها "ان هناك 464 مشروعاً لأجل الإستيلاء على الارض بدأ تنفيذها فيما بين 2008 و2009، وان 22 مليون هكتار قد تمّ الإستيلاء عليها فقط فيما بين عامي 2010 و2011، (وتلك مساحة تعادل 54 مليون فدان، اي مما يعادل 25 مرة بقدر مساحة مشروع الجزيرة تقريباً!). إن اهم سبب من وراء التكالب على الارض هو محاولة المستثمرين والسماسرة العالميين تأمين الغذاء اللازم للأقطار ذات الكثافة السكانية العالية، والتي تُوَاجَهُ بمواسم زراعية متذبذبة وغير مستقرة (مثل الصين، الهند وكوريا الجنوبية)، وكذلك من الأسباب الرئيسية أيضاً الحالة التنافسية المحمومة لأجل إنتاج الطاقة الحيوية. فهذا التكالب والاستيلاء المسعور على الأرض، وفيما ينوب أفريقيا، قد تمّ بشكل واضح في سبعة دول منها، حيث ان سعر الهكتار الواحد كان بأقل من دولار. (أي أن الفدان باقل من نصف دولار)." ( )
siddiq01@gmail.com