بعيداً عن “المتلازمة الصدامية”: العراق يجب أن يكون الحل لا المشكلة
د. عبد الوهاب الأفندي
26 February, 2013
26 February, 2013
في سبتمبر من عام 2003، أثار الباحث المصري وحيد عبدالمجيد جدلاً واسعاً حين نشر مقالة علق فيها على تشكيل المجلس الانتقالي في العراق، باعتباره وقتها الجسم السياسي الوحيد في العالم العربي الذي شهد تمثيلاً لليسار واليمين معاً. فقد حفل المجلس بتمثيل للإسلاميين من سنة وشيعة، خاصة فرع تنظيم الإخوان المسلمين في العراق، كما كان للحزب الشيوعي العراقي تمثيل بارز فيه. وعلق عبدالمجيد بأن مثل هذا التوافق بين كل أطراف الطيف السياسي هو ما يحلم به العرب في البلدان الأخرى ويطلبونه في خطابهم السياسي.
ولاحظ الكاتب أن هذا الأمر لم يحدث إلا تحت الاحتلال الأجنبي، مما خلق وضعاً ملتبساً، خاصة وأن التنظيمات السياسية من يسار ويمين كلها شجبت الاحتلال. وبينما صمت تنظيم الإخوان الأم عن مشاركة فرعه في العراق في سلطة تحت الاحتلال، أصدر فرع الإخوان في الأردن "فتوى" تتهم كل من شارك بالتواطؤ مع الاحتلال. أما الحزب الشيوعي فقد أصدر دراسة برر فيها مشاركته بأنها جزء من النضال لإنهاء الاحتلال ولبناء الدولة العراقية على أسس سليمة.
نستدعي هذه الملاحظات اليوم والعراق في الظاهر قد تخلص من الاحتلال، ولكن يبدو أن حاله تحت الاحتلال كان أفضل من بعض الأوجه، على الأقل من جهة التوافق بين مكونات المجتمع. وكان عبدالمجيد قد انتقد ضمناً ما وصفه بالفصل بين النضال من أجل الاستقلال والنضال من أجل الديمقراطية، حيث قال إن هذا النضال كان موحداً في فترة التشكل الوطني وأن تجزئته هي سبب نكبة العرب القائمة.
ما أغفلته ملاحظات عبدالمجيد هي أن التوافق العراقي كان ناقصاً حتى في تلك الفترة. فلأسباب تاريخية معروفة، تحمست الأحزاب الشيعية والكردية للتعاون مع الاحتلال، بينما وجد كثير من أهل السنة نفسهم على الهامش، وشارك قسم معتبر منهم في المقاومة. وفي المقابل، نشأت ميليشيات شيعية ارتكبت انتهاكات فظيعة في حق السنة، مقابل ميليشيات سنية ارتكبت بدورها كبائر في حق الشيعة. وكنتيجة لكل هذا قاطعت الغالبية السنية العملية السياسية، مما وضع الإسلاميين المعتدلين الذين شاركوا في عزلة.
تغير هذا الأمر نوعاً بعد الانتخابات الأخيرة عندما شاركت قوى سنية فيها، ودعمت القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي، مما جعلها تتفوق على كل القوائم الأخرى. ورغم أن قطاعات واسعة بين العرب السنة كانت ما تزال ترفض الانخراط في العملية السياسية، إلا أن تلك التطورات كانت إيجابية إلى حد كبير. فلأول مرة بدأ يتبلور تحالف شيعي-سني معتدل يمكن أن يصلح نواة لتعزيز التوافق الوطني العراقي، خاصة وأن هذا التحالف المعتدل على وفاق مع قوى وطنية أخرى في الوسط الشيعي والوسط الكردي كذلك.
ولكن تحالف المتشددين الشيعة الملتف حول رئيس الوزراء نوري المالكي والمدعوم من إيران رأى في هذا التطور خطراً محدقاً، لأنه يهدد بزعمه هيمنة الشيعة على العراق. وبدلاً من مد اليد للمعتدلين والتحاور معهم، اختار أي يضرب محور الاعتدال، بداية من عملية تلفيق التهم الفجة لنائب الرئيس طارق الهاشمي، والعمل على إخراجه وكثيرين غيره من الساحة والسياسية ومن البلاد. ثم أعقبت ذلك محاولة استهداف وزير المالية رافع العيساوي بنفس الطريقة في ديسمبر الماضي عبر اعتقال أفراد من طاقم حمايته كما وقع مع الهاشمي، فكانت هذه القشة التي قصمت ظهر بعير الصبر عند العرب السنة ففجرت الانتفاضة غير المسبوقة التي يشهدها العراق حالياً.
ومن الواضح أن المالكي وأنصاره يتبعون نهجاً يذكر بما فعله سيء الذكر سلوبودان ميلوسوفيتش رئيس جمهورية يوغسلافيا السابق الذي أراد فرض هيمنة الصرب على الجمهورية، فأدى إلى تفككها ثم تمزق صربيا نفسها بانفصال كوسوفو عنها. وأخيراً انتهى به الأمر إلى زنازين المحكمة الخاصة في يوغسلافيا حيث لقي حتفه غير مأسوف عليه. ولكن المصير الذي ينتظر العراق والمالكي سيكون أسوأ من ذلك بكثير إذا استمرت سياساته الحالية. فمن الواضح أن المالكي فقد ثقة العرب السنة والأكراد وقطاعات مهمة وسط الشيعة بسبب سياساته الطائفية، وأصبح مضطراً لمزيد من القمع ضد هذه القطاعات من العراقيين، مما سيؤجج الصراع. وقد أدى هذا الوضع إلى عزلة عراقية في المحيط العربي ستزيد حتماً، مما يدفع بالمالكي إلى أحضان المتطرفين في إيران المأزومة بدورها والمعزولة دولياً.
كنت قد أطلقت في بعض دراساتي على هذه الظاهرة التي يجد الحاكم نفسه فيها على قمة منحدر يدفعه باضطراد إلى اتخاذ إجراءات قمعية تزيد من عزلته ومشاكله "متلازمة صدام"، وهي نفس المرض الذي أصيب به جورج بوش لدى دخوله العراق، كما يظهر من التجاوزات التي ارتكتب في سجن أبي غريب وغيره. ويبدو أن هذا الداء العضال قد أصاب المالكي فلحق بصاحبيه في الطريق الذي يزين لصاحبه القتل والتعذيب والكذب والخداع لا باعتبارها مما يجوز فعله، بل من البطولات التي يحسن بالنشامى أن يأتوا منها كل ما تمليه متطلبات الساعة. إنه ذلك المنحدر السريع إلى سواء الجحيم، وهو يبدأ من الوقوف في المكان الخطأ. فمن يضع نفسه في مواجهة الشعب لا يجد سبيلاً إلا سبيل القمع.
المأساة في كل هذا هو أن هذا المصير المظلم للعراق وقادته، مثل كل مصارع من سعى إلى حتفه بظلفه، ليس محتماً. فالعراق بالعكس، مهيأ لدور قيادي وسطي في العالم العربي، يبني ولا يهدم، يوحد ولا يفرق، ويعطي ولا يأخذ، ويقود ولا يقاد.فالعراق بحمد الله من أغنى الدول العربية بالموارد من زراعية ونفطية، وبالموارد البشرية والكفاءات، بخلاف دول أخرى لها نصيب من هذا أو ذاك. وقد قامت في العراق نواة توافق سياسي كان يحسن البناء عليها بدلاً من تدميرها، وبدايات نظام ديمقراطي يجب تطويره والحفاظ عليه، لا الارتداد عنه. والعراق يحتل موقعاً استراتيجياً من ناحية الجغرافيا، ووسطياً من ناحية مكوناته الثقافية، ويتمتع بعلاقات طيبة مع إيران والغرب، وحتى الآن مع معظم جيرانه. وهذه كلها نقاط قوة يجب استغلالها.
يمكن للعراق أن يكون جسراً يخفف من حدة التوتر بين إيران وجيرانها العرب، وظهيراً لتركيا في دورها البناء والريادي في المنطقة. ويمكن للعراق، بل ينبغي، أن يتصدى لدور قيادي في العالم العربي لأن وزنه ومكانته يؤهلانه لذلك، بدلاً من أي يصبح عالة على العرب والجوار. ويجب أن يكون العراق ضامناً لأمن الخليج، لا خصماً عليه. وعموماُ العراق مؤهل من كل وجه ليكون الحل في المنطقة والعالم العربي، فلا ينبغي أن يتحول إلى مشكلة.
ولكن لكي يحدث ذلك لا بد من أن يتخلص العراق من مشكلته التي عنوانها المالكي. وحين نتحدث عن المالكي كعنوان للمشكلة فإننا نتحدث عنه كمنهج، لا كشخص، مثلما كان صدام حسين منهجاً ومثلما هو بشار. فالدكتاتورية والانحراف هي مؤسسة لا أشخاص، وهي عقلية وتوجه وبيئة. فحول كل طاغية "مستشارون" من طراز هامان، يزينون له باطله، ويقومون نيابة عنه بأعماله القذرة، ويهمسون في أذنه بالروايات التي تظهر الآخرين خطراً. وقبل كل عملية قتل وجريمة تعذيب، هناك تهامس وغيبة ونميمة، وخيال خصب ينسج، ومخاوف تهيج. وقبل كل هذا وبعده، هناك "مفكرون" يرسمون ويخططون، وإعلاميون يطبلون ويزمرون، وقادة يهيجون ويجيشون.
ولكي تتوقف زفة الموت هذه، هناك واجب تاريخي اليوم أمام قيادات الشيعة في العراق، ومهمة لا مهرب منها للتصدي للكارثة التي تحدق ببلدهم. فلا بد من انتفاضة شيعية حقيقية، وصحوة دينية قومية ترفض منهج التخندق الطائفي، وتمد اليد إلى كل الإخوة في الوطن، وكل العرب. فمكان شيعة العراق هو وسط إخوتهم، وفي قيادة الأمة العربية، وليس في خنادق الطائفية والتعصب المذهبي الذي هو سجن لا قلعة. فالحاجة اليوم هو إلى قيادات ذات رؤية بعيدة ونفوس سمحة وعقول نيرة، تتخذ أفضل الخيارين: أن يكون شيعة العراق قادة في وطنهم وفي عالمهم العربي، أو سكان كانتون طائفي معزول يعشعش فيه الخوف والجوع. فليختاروا أيهما شاءوا.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]