بــين عـــالمـين … بقلم: د . احمد خير-واشنطن
24 June, 2009
"عالم الشمال"
أحيانا يجد الإنسان نفسه حائراً حيال موقف من المواقف ، وفى أحيان أخرى حيال الموقف ذاته عند حدوثه فى زمان ومكان آخر ! وإختلاف المواقف حيال الحدث المعين يشكل فى الوجدان أسئلة حيرى ، وربما يربك العقل ويدفع الإنسان إلى التعجب ، أو إلى إنكار الموقف برمته . أو إنكار تواجده أثناء وقوع الحدث ! ليريح نفسه من مغبة التفكير فى الموقف !
أسوق ذلك فى محاولة لتفسير مواقف بعينها من تكرار حدوثها باتت تعد سمة من سمات مجتمعات الدول المتقدمة التى نشير إليها هنا بعالم الشمال . تلك المواقف تكاد تشكل واقعا قارب أن يتقبله الجميع . ماعدا فئة قليلة من المهاجرين الذين يحاولون التمسك بالقديم من حيث العادات والتقاليد من جهة ، ومن جهة أخرى هم لازالوا فى أولى مراحل التأقلم مع واقع وجدوا أنفسهم فيه ، دفعتهم إليه عوامل عدة ، منها السياسى ومنها الإقتصادى ومنها النفسى . فالنفس البشرية من التعقيد بمكان بحيث يتصعب الأمر عند محاولة سبر أغوارها ! فالبعض ينجح بعض الشئ ، والبعض الآخر يواجه صعاب تقبل الأمر مهما طال به الزمن فى دنياه الجديدة التى يظل يطلق عليها " دنيا الإغتراب "
لايخفى على الجميع أن المجتمعات الغربية قد وصلت إلى مرحلة من التحرر بالمعنى المجمل لتلك الكلمة . ولكى لانلقى الحديث على عواهنه نقول انه إذا ما جاز ذلك على الأغلبية لاينفى إطلاقا أن يكون لكل قاعدة شواذ . والقاعدة تقول انه طالما الغالبية قد إتفقت على شئ ، حتى وإن كان ذلك الإتفاق غير علنى ولامكتوب ، عندها يجوز التعميم .
من يسير فى شوارع المدن الكبرى أو فى الساحات العامة أو من يجلس فى مقهى فى أمريكا أو أورويا لابد وان عينه ستقع على مشاهد تكثر فى وسط الشباب ، ألا وهى أن يشاهد فتى وفتاة يتعانقان عناق المودع ، وفى أغلب الأحايين يتطور العناق إلى قبل تشتد حرارتها بقدر العلاقة التى تحكم طرفى القضية . والفتى والفتاة فى ممارستهما لما يعتبرانه حقهم المشروع لايجدان غضاضة فيما يفعلانه أمام الأعين المتلصصة أحيانا " على عينك ياتاجر "
وكثيرا ما نجد التناقضات فى مجتمعات الغرب ، الشئ الذى لايشكل معضلة بالنسبة للأمريكى أو الأوروبى ، فعلى حسب مفهومهم ان التناقضات متوقعة فى مجتمعات متجددة ، لذا على الإنسان أن يقبل التحدى الذى تدفع به الحياة والذى هو جزء هام ويعتبر من متطلبات العصر !
التناقضات بالرغم من توقعها فى مجتمعات عالم الشمال ، إلا أنها تحدث أحيانا ربكة تخل بتوازن الأفراد والجماعات ومن تلك التناقضات ما حدث فى حفل تخريج دفعة جديدة من طلبة مدرسة " بونى إيجل الثانوية " فى ولاية " مين " الأمريكية ! فبينما كانت تتعالى صيحات الهرج والمرج بـين الطلبة المتخـرجين قام أحـد الطلـبة مـن الواقفين فى "طابور " التخرج على خشبة المسرح إلى إلقاء " قبلة على الهواء " تجاه والدته التى كانت تجلس فى الصفوف الأمامية بين أولياء الأمور ، والتى كانت تهلل وتصفق فرحة بتخرج ولدها .
إلى هنا والأمر عادى ، ولكن الغير عادى هو ماحدث كرد فعل لتلك القبلة البريئة على الهواء التى أرسلها التلميذ تجاه والدته ، حيث أمر المسئولين التلميذ بالعودة والجلوس وبالتالى حرمانه من فرحة تسلمه لدبلوم التخرج ! بحجة انه بفعلته تلك قد خالف قوانين ولوائح المدرسة !
وهكذا نرى ان القبلات الغير بريئة فى الشوارع والأماكن العامة مسموح بها ، أو بالأحرى لايعاقب عليها أحد ، أما قبلة على الهواء مرسلة لأم سهرت الليالى كى يكمل ولدها المرحلة الثانوية ، يعاقب عليها ! انه مجتمع التناقضات !
هذا يذكرنى بتفاصيل قصة قصيرة يروى فيها أن أحدهم كان قد تزوج ولم يمضى على زواجه أكثر من أسبوعين غادر بعدها قريته طلبا للرزق فى مكان بعيد . وبعد مرور خمسة أعوام ، عاد الرجل إلى قريته شوقا لرؤية زوجه وإبنه الذى سمع بمولده ولم يراه . قبل أن يصل إلى منزله أسرع إليه طفل وهو ينادى " بابا .. بابا " ، حمله الرجل وضمه إليه وهو يسأل عن هويته ويجيب الطفل بأنه " مجدى " ولده . وصل الرجل إلى باب منزله وطرق الباب وإذا بزوجته تفتح مرحبة بالطارق . عندما رأته ذهلت ولم تنبس ببنت شفه . سألها : من هذا الطفل الذى أحمله ؟! قالت : انه " مجدى" لقد حدثتك عنه فى رسائلى ! ثم أشار إلى طفل رضيع تحمله بين يديها سائلاً : ومن هذا الذى تحملينه ؟! قالت: ماياها عادتك ، دايما تتمسك بالحاجات الصغيره !
"عالم الجنوب"
ما نعنيه بعالم الجنوب هو مجموعة الدول النامية ، وتصادف أن تقع تلك الدول فى النصف الجنوبى من العالم ، وهى نفس الدول التى كان يطلق عليها فى الماضى إسم " الدول المتخلفة " ولحفظ ماء وجهها أطلق عليها من قبل الأمم المتحدة لفظ "نامية " بالرغم من أن الكثير منها لم يحافظ حتى على مستوى تخلفه ، بل تخلف أكثر مما كان عليه ، ثم أمعن فى التخلف . المهم هو أن ما يحدث فى عالم الجنوب يختلف كثيرا عما يحدث فى عالم الشمال ! سواء كان ذلك فى السياسة أو الإقتصاد أو الحياة بصفة عامة .
فى عالم الجنوب تتفشى الدكتاتوريات التى لاتعرف الديمقراطية معها سبيلا . وكذلك الرشوة والمحسوبية . كما تكثر وفيات الأطفال ووفيات الأمهات عند الولادة . وتعم مظاهرالفوضى والقبلية والخلافات العرقية . كما يكون الفقر والجوع والمرض والخوف سمة غالبة فى المجتمع . نضيف الخوف هنا إلى المرتكزات الآساسية للتخلف لأن الحياة الغير مستقرة لابد وأن تجلب معها الخوف . الخوف من كل شئ ومما يخبئه الغد . وكيف للإنسان أن يسعد وهو يعلم أن الغد لن يكون أفضل من الحاضر وأن الحاضر حالك السواد ؟!
إذا ما أردنا معرفة الفرق بين عالم الشمال وعالم الجنوب ، لننطر إلى مايتخذه الإنسان من قرارات . فى عالم الشمال إذا حدث أن سلب حق من أحد فستجد المطالبة بإستعادة ذلك الحق ، والمطالبات ربما تصل إلى حد التظاهر . والتظاهر هنا ليس فقط ممن أهدر حقهم ، بل ينضم إليهم البعض من المتطوعين المساندين للحقوق ، حتى وإن لم يكن لهم شأن أو مكسب يرد لهم غير مكسب الحفاظ على حقوق الإنسان .
هذا بعكس الحال فى عالم الجنوب ، حيث أن من يسلب حقه ربما يعتبر ذلك قضاءا وقدرا . وربما يقبل البعض بضياع الحق على مضض بحجة أن لاحولة ولاقوة لهم . أو أن لله ما أعطى ولله ما أخذ ! والتواكل هنا ليس عن طواعية ، بل لقلة الحيلة .
فى عالم الشمال ، السلطات الحاكمة قائمة على المشاركات الجماهيرية . أى أن الشعب هو صاحب القرار وأن الدستور الذى إرتضاه الجميع هو مصدر السلطات . أما فى عالم الجنوب فلا صوت للجماهير ولاتوجد صناديق إقتراع ، وإن وجدت فلا يخلو الأمر من تزوير وخلافات تصل إلى حد إراقة الدماء! كما أن السلطات فى إدارتها لدفة الحكم تعتمد القرارات الفوقية وتكتفى بثلة من المستشارين ممن يدينون بدينها . وبذا تغتصب الحقوق فى وضح النهار !
سنتناول مستقبلا " بإذن الله " أحداث فى عالم الشمال وأخرى فى عالم الجنوب ، ليس بغرض المقارنة ، ولكن، فقط من أجل تسليط الضوء على مايحدث .