بلادي.. يا آهات النشاذ

 


 

ندى حليم
26 April, 2011

 


        في كل مرة كنت أكتب فيها مقالا ، كانت الأفكار تسبق قلمي ترتيبا ، وتتبعثر في الورق تدوزن مابداخلي ، قبلها بفترة كافية كنت أفكر في ما أود كتابته ، أما الآن فأنا مبعثرة ، وأعزروني ان توغلت في الذاتية ، فلقد تجاوزنا عمرا مرحلة الشكايه للأم " وقشقشة الدميعات" بطرف الكم ... ولست بقرية " كرمكول " مقر أجدادي وذكريات الصبا كي أرفد الى ظل نخلة وأتكيء على جزعها وأستشف منه الحنين ، ولست كذلك بين " قيزان" الرمال في قرية   " حمور" أرض أجدادي أيضا ، ذات السمار الصافي بلون رمالها الدافئة ، فكانت سوف تمنحني ساعات من الجلوس تحت ضوء القمر، غامرة قدمي في أعلى تلة من الرمل وكأني رفيقة السماء ، وأناجي الليل وأفرغ عنده همي وأغنياتي ، وأستعيد نشاط ذاكرتي المرهقة ،لأبدأ شوطا جديدا في الحياة ... كل هذا غير متوفر ، لأجد نفسي حبيسة التوهان الدائري في وجعي ، وأجدكم أنتم أمامي في مخيلة ذلك الوجع  ، أحب أن أرمي مابكاهلي لديكم ، لستم خيارا اضطراريا ، لكنكم مثقلون بما أحمل وما لا أحمل وما أعرف ومالا أعرف ، وما أفهم وما لا أفهم ، تماطرت عليكم عشرون عاما ثانية بثانية ، رصاصا ، وتخويفا ، وتغييبا ، وتجويعا ، وتشريدا ، وتعذيبا ، وتضليلا ، وترهيبا، لكنني أستوقف نفسي و أقول "كيف يكون الحال لو ماكنت سوداني وأهل الحاره ما أهلي؟ "
   لو تدرون كم وجعي عند رؤيتهم في هذا الليل ؟ يفترشون الأرض مستلقون باهمال رجالا ونساءا وأطفالا على ذلك الأسفلت بين الجامع الكبير ومجمع الذهب وسط الخرطوم ، المطر يتساقط عليهم ومحاولاتهم البائسة في تغطية جلودهم المهترئة بقطع القماش المتسخة التي قضوا النهار في تجميعها من القمامة التي أفرغها انقلاب الدهر ذات جمعة حزينة في الظلام ، بيوت الله التي بنيت من حقوقهم في المال العام ممنوعون من الاحتماء بها واللجوء اليها ، وبأمر العسكر ممنوعون من الارتماء تحت مظلات مجمع الذهب التي أمامهم مباشرة ، فقط عليهم بالأسفلت ، حتى تتآكل جلودهم ويصبح الصباح ليجدوا أنفسهم معطونين بماء المطر المتسخ ، بعد أن انتهى الكابوس الذي راود أحلامهم التي تجولت آناء منامهم الذي هو ليس بمنام ، وانما تخدير سليسيوني لأعصاب أدمنت رائحته بعد أن هجرت رائحة الكرامة خلاياها الشمية . انهم نتيجة مباشرة لنجاح المشروع الحضاري ، يتكومون في أنحاء العاصمة وفي الولايات ، درجة من درجات النجاح الباهر التي آل اليها تطبيق الشريعة الاسلامية ، هم والمئات غيرهم من ذوي العقول والنفوس المريضة الذين أصبحوا يملؤون شوارع العاصمة شبابا وشابات في ريعان العمر هجروا ذويهم دون وعي ليتجولو قهرا في الأرصفة والشوارع والمركبات العامة يحدثون أنفسهم ونطلق عليهم "مجانين " ، البعض يضحك والبعض يندهش من رؤياهم التي أخشى أنها ماباتت مدهشة من كثير تكرارها .. الشحاذين الذين أصبحوا بهيئة العمامة والجلابية البيضاء المكوية والثوب السوداني النظيف في عمر الآباء والأمهات ، مزقت كرامتهم وتغاضوا الطرف عن كونهم خارجين من تلك البيوت السودانية الأصيلة ولهم أبناء في الجامعات والمدارس  ، انهم فقط يريدون أن يأكلون ويطعمون الأفواه الجائعة التي بانتظارهم في تلك المنازل التي هم مهددون باخلائها لعدم دفع الايجار الشهري . أصبح التسول مهنة وفن وطبقات ومنظومات تزايدت الأعداد ، وتعددت الأساليب ، والهدف واحد ، تلبية الحاجة البيولوجية للطعام والشراب ، لايريدون أن يشبعون غريزة الابداع وتحقيق الذات التي تقع في أعلى الترتيب الهرمي لنظرية " ماسلو" النفسية التي تقول بأن الانسان يرتقي في تلبية احتياجاته من الغريزي الى الشعور بالأمان الى الابداع ثم الى تحقيق الذات والاستقلالية ، وعندما يصل الى هذه المرحلة الأخيرة انما يكون انعكاس لمجتمع معافى بدرجة سمحت له بالاستفادة من امكانياته والاندراج تحت الفئة المنتجه التي تساهم في الارتقاء بالبشرية ورفعة الانسان والتنمية .
      ان التنمية في الوطن الحبيب الكليل، تحدث على هيئة طفرات ، فجأه نستيقظ لنجد العمارات استطالت ، والشركات الضخمة أعلنت عطائاتها وفتحت استثماراتها العالمية لتقتحم حرمة الاستثمار الوطني ، والفنادق خدشت سماء الخرطوم ، وبالمقابل المواطنون ينتظمون تباعا في   :   شبكات الشحذه ، ومجموعات " المجانين" ، وأكوام المخدرين في  السوق العربي . ان تلك التطورات الفجائية أفرغت التنمية عن محتواها البشري القيمي والفني والأخلاقي،حيث أن التنمية البشرية تقاس بمؤشرات تستهدف قياس الخدمات البشرية والتي في عاصمتنا القومية لا تحتاج لاحصاءات القياس بل فقط مجرد القاء نظرة ، والتي هي مؤشرات اجتماعية مثل الصحة واكتساب المعرفة، والوصول الى مستوى معيشي لائق .         ان التنمية الاقتصادية بمعناها العلمي ،زيادة الطاقة الانتاجية للقوى البشرية والموارد الطبيعية وغير الطبيعية ، حيث أن النمو الاقتصادي هو زيادة الانتاج والدخل القومي الحقيقي وبالتالي دخل الفرد ، على أن تكون الزيادة في معدل الدخل أكثر من معدل الزياده في السكان بغض النظر عن النيل كمورد طبيعي وثروة مميزة ، وبغض النظر عن السهول والمراعي والأراضي الزراعية والثروة الحيوانية التي يمتاز بها قطر السودان الأكبر في أفريقيا ، أين هو عائد البترول ؟؟ من يصدق أن السودان دولة منتجه للبترول ؟ بلا شك أنهم ذوي "الكروش" ومن لايصدق هم ذوي النوم على البروش الذين هم عامة الشعب وغلبة سكان السودان .
            ظهرت بوادر اكتشاف هذا الذهب الأسود في العام 1979في منطقة جنوب كردفان ، وفي 1981أعلنت شركة شيفرون الأمريكية أنها اكتشفت وجوده بكميات تجارية في حقل " الوحدة"  ، وقدر حينها حجم احتياطي النفط الذي يمكن استخراجه من حقل كايكانق وحقل الوحدة وحقل الهجليج المجاور له ، رسميا ،بنحو ملياري برميل ، يمكن أن يعود على البلاد بنحو 50مليار دولار ، أو يغطي احتياجات الطاقة المتوقعة لعقدين من الزمان.
       نحن في بلد تعادل فيها مساحة منطقة الامتياز " المنطقة البترولية "، مساحة بلد آخر وهي سوريا ، ويستخرج النفط من 6 حقول يبلغ انتاجها حوالي 170 ألف برميل يوميا ، ترتفع حسب احصاءات قديمة عند العام 2001 الى 450 ألف برميل ، ويقدر احتياطي النفط السوداني بأكثر من ملياري برميل وفق الأرقام الرسمية التي تم نشرها في ملف النفط ،وحدة التوثيق بمؤسسة المجتمع المدني السوداني .
      فيا أحبائي هل وجدتم لي العذر عندما أفتقدت زمن " قشقشة الدميعات" في طرف ثوب أمي ؟؟؟
اختصاصية نفسية /وناشطة في مجال حقوق الانسان
         
Nada Haleem Saeed [nadahaleem19@yahoo.com]

 

آراء