بلاك آند وايت!

 


 

 

رُوزنامةُ الأسبوع
الإثنين
إشادتنا الباكرة بفضائيَّة «سودان بُكرة»، والتي وصفناها، يوماً، بأنها وُلدت بأسنانها، لتميُّزها بالانحياز للجَّماهير، ولحساسيَّتها الثَّوريَّة، بالذَّات، إزاء الصِّياغة الخبريَّة، لا تمنعنا من لفت نظرها إلى ما قد يشوب أداءها، أحياناً، من تقصير! فقبل بضعة أسابيع، كانت التَّقارير الأخباريَّة تتلاحق، من الدَّاخل والخارج، تستقصي تحضيرات السُّودانيِّين ببريطانيا للاحتشاد، تنديداً بالدَّعوة التي وجَّهتها الحكومة هناك للبرهان للمشاركة في تشييع الملكة اليزابيث الثَّانية، وكذلك اتِّخاذ بعض الجِّهات السُّودانيَّة، بما فيها أسر الشًّهداء، إجراءات قانونيَّة لملاحقته قضائيَّاً، وتسليمه للعدالة، بل ومطالبة سودانيِّين، وأصدقاء للسُّودان، الحكومة البريطانيَّة باتِّخاذ ما يلزم لإلغاء الزِّيارة، ومناشدتهم كلَّ الشُّعوب، وقواها السِّياسيَّة، والنَّقابيَّة، ومنظَّماتها الدِّيموقراطيَّة، لاتِّخاذ موقف من هذه المشاركة، كون انقلاب البرهان قد قطع طريق الثَّورة لاستكمال مهام الانتقال الدِّيموقراطي، وأشاروا إلى المجازر المرتكبة ضدَّ المدنيِّين الأبرياء في مختلف أنحاء البلاد. وإلى ذلك أصدرت 76 نقابة ومنظَّمة في المملكة المتَّحدة مذكِّرة ترفض الزِّيارة.
عليه، كان غريباً ألا يحمل شريط أخبار «سودان بُكرة»، في نفس تلك الأثناء، سوى خبر «مغادرة البرهان إلى لندن للمشاركة في التَّشييع»، وتوجُّهه من هناك إلى نيويورك للمشاركة في الدَّورة 77 للجَّمعيَّة العامَّة للمنظَّمة الدَّوليَّة! ولولا إضافة كلمة «الانقلابي» إلى عبارة «رئيس مجلس السَّيادة»، لما اختلفت صياغة خبر «سودان بكرة» عن صياغة نفس الخبر عبر «تلفزيون الحكومة»!

الثُّلاثاء
شمل تقرير لجنة التَّحقيق الدَّوليَّة إلى مجلس الأمن، في انتهاكات دارفور (2004م ـ 2005م)، توثيقاً وتحليلاً قانونيَّين لعدد كبير من جـرائم الاغتصاب البشـعة، نبرز من بينها ثلاثاً:
فقد أفادت إحدى الضَّحايا بأنَّ قريتها «ترغا»، بغرب الإقليم، تعرَّضت، في يناير 2003م، للقصف بالطيران، ثمَّ أغار الجَّنجويد على ظهور الجِّياد، وقوَّات الجَّيش على نحو40 سيَّارة، وأطلقوا النَّار، جميعاً، على الأهالي. ولمَّا فرَّت النِّساء إلى الوادي، طاردهنَّ الجُّنود والجَّنجويد، وأمسكوا بهنَّ، واغتصبوهنَّ طوال 6 أيَّام. وقالت إن المغتصبات كنَّ 50، تعرف 19 منهنَّ شخصيَّاً، وإن الصَّغيرات اغتصبن أوَّلاً، ثمَّ تلت الأخريات، وإن عدد من تعاقبوا على الواحدة قد يصل إلى 9!
وروت أخرى، من قرية كالوكيتنغ بجنوب الإقليم، أنها وجاراتها، سمعن إطلاق نار في الرَّابعة من صباح أحد أيَّام مارس 2004م، ففزعن، وهربن، ثمَّ ما لبثن أن أدركن أنَّهنَّ نسين مصاغهنَّ، فعدن لأخذه، لكن الجُّنود أشهروا السِّلاح في وجوههنَّ، وأمسك اثنان منهم بيديها، وأعطى أحدهم سلاحه لزميله، وجذبها حتَّى سقطت أرضاً على ظهرها، فشقَّ ثوبها، وخلع سرواله، وأولج، ثمَّ أولج الثَّاني، ثمَّ أولج الثَّالث، وبعدها عجزت عن الوقوف، وأمر فتاة بقربها بأن تستلقي، فقالت: لا. أقتلني. كانت شابَّة. كانت بكراً. كانت مخطوبة. فأطلق النَّار عليها وقتلها!
وأخبرت طالبة صغيرة بمدرسة الطَّويلة الدَّاخليَّة للبنات بشمال الإقليم، أنه، في حوالي السَّادسة صباحاً من أحد أيَّام فبراير 2004م، هاجم المدرسة عدد كبير من الجَّنجويد عرفتهم، كما قالت، من «بشرتهم الحمراء»، وملابسهم وسيَّاراتهم البيك آب العسكريَّة المموَّهة. صوَّبوا بنادقهم إلى الطالبات، وعددهنَّ حوالي 110، وسلبوهنَّ نقودهنَّ، ومفروشاتهنَّ، ومتعلِّقاتهنَّ جميعها، وأرغموهنَّ على خلع ملابسهنَّ تماماً! وأفادت بأنهم عصبوا عينيها، ودفعوا بها أرضاً على ظهرها، وأمسكوا بذراعيها، وباعدوا بين ساقيها، واغتُصبوها مرَّتين، بإيلاج كامل، لمدَّة ساعة، ولم يقولوا شيئاً أثناء الاغتصاب! وقالت إنها كانت تسمع استغاثات أخريات كنَّ يُغتصبن أيضاً. وكانت هناك قوَّات وهليكوبترات حكوميَّة بالمنطقة. وأنَّها حبلت، وضعت طفلاً!

الأربعاء
كان كلَّ ما ينقصنا، على ما يبدو، «جدري القرود» .. وها هي النَّاقصة، في ما تتداول الأخبار، قد تمَّت، الآن!

الخميس
أوائل خريف1977م. كنا مجموعة معتقلين سياسيِّين بمستشفى سجن كوبر. فجأة ظهر بيننا، ذات صباح، نزيل لم يتعرَّف عليه أيٌّ منَّا، رغم أننا كنَّا خليطاً من شتَّى الأجيال، والاتِّجاهات، والانتماءات، فتواصينا، كالعادة، بالحذر! تصرُّفاته، ومنظره العام، خلال الأيَّام التَّالية، فاقمت من شكوكنا: رثاثة هيئته؛ العزلة التي أدخل نفسه فيها؛ هالة الغموض الكثيفة التي ضربها على حركاته وسكناته؛ نظَّاراته السَّميكة يجبُر كسر أحد ذراعيها بسلكٍ نحاسي؛ بيجامتِه الممزَّقة، حائلة اللون، بيِّنة القذارة، والتي لا تكاد خطوطهاالطوليَّة تستبين، يقضي سحابة نهاره يعالج ما نَسَلَ منها بالشَّوك ينتزعه من شجيرات في فناء المستشفى؛ حذاؤه الجلديُّ الأغبر، المشقَّق، يظلُّ ينتعله من دغش الصَّباح حتى يأوي إلى فراشه آخر الليل؛ ثمَّ تلك الطبقة القشريِّة تكسو جلده، كما سمكة عجوز، فما يكاد يكفُّ عن حَكِّها بأظافره الطويلة المحشوَّة بالقشف. مع ذلك، إن أنت دقَّقت النَّظر في ملامحه الخمسينيَّة، وجرَّدتَّه، في عينيك، من ذلك التَّزيُّد الذي وقع لنا، من شدَّة توجُّسنا، كمحض مغالاة في التَّخفِّي تفتقر للذَّكاء، فستتبدَّى لك، على الفور، ملامح شاحبة السُّمرة لغردونيٍّ نبيلٍ من جيل الحركة الوطنيَّة، والاستقلال، والسَّودنة!
مع كرِّ مسبحة الأيَّام، وعلى حين راح اهتمام المعتقلين به يذوي، فإن انشغالي بأمره أخذ يزداد، لسبب ما، بنفس المتوالية! كان ثمَّة رنينٌ خافت يأتيني، من أغوار دواخلي، بأنني أعرفه! لكن .. كيف، أين، ومتى؟! هكذا وجدتني أتتبع خطواته في غدوِّه ورواحه، وأرصده، في أكله، وشربه، ومشيه وحيداً يترنِّح، كما شبح، تحت الظلال المسائيَّة لحوائط السِّجن الصَّخريَّة، يلتقط، خفية، أعقاب السَّجائر يرمي بها المعتقلون، ليعيد إشعالها، للمفارقة، بولاعة فاخرة يحتفظ بها في جيب البيجامة (!) حتى إذا تصادف واقتربتُ منه، رحت أمعِن التَّحديق في أخاديد حفرها الزَّمن، ولا بُدَّ، على جبينه وصفحتي وجهه، مؤمِّلاً، عبثاً، أن أنتزع، من رماد تلك الملامح الكالحة، شخصاً ما، عرفته يوماً ما، في مكان ما، وفي زمان ما!
الانشغال بمشكلة واحدة، طوال الوقت، قد يُذهب العقل، دَعْ أن يحدث هذا في السِّجن بالذَّات! لذا، ولمَّا تطاول الزَّمن بلا جدوى، وراح التَّفكير في أمر الرَّجل يجرفني بلا طائل، قرَّرت، بالمخالفة لما ائتمرنا عليه، أن أجعل القصَّة الطويلة قصيرة، فحزمت أمري، ذات ظهيرة، وكان يجلس، كعادته، وحيداً، على أريكة خرصانيَّة تحت ظلِّ شجيرة بالفناء، واندفعت أقطع المسافة إليه بخطوات مسرعة، وأرمي بنفسي إلى جواره بقوَّة، كما لو كنت أخشى أن أتراجع عمَّا اعتزمت:
ـ «كيف الحال»؟!
ـ «هاي»!
فاجأتني اللفظة الأجنبيَّة قذفها بتلقائيَّة، وبحنجرة عميقة مثقَّفة، لكن بلكنة لا شئ فيها من ألسنة السُّودانيِّين! تمالكت نفسي سريعاً بعد أن تعلَّلت بـ «رُبَّماتٍ» كثر، ثمَّ واصلت:
ـ «ما تعارفنا يا أخي، تجلس دائماً وحدك»!
تنهَّد خفيفاً، وندَّ عنه طيف ابتسامة، ثمَّ أجاب، بوقار، وبإنجليزيَّة مُبينة، وبلكنة أثيوبيَّة واضحة هذه المرَّة:
ـ «توقَّعت أن يبادر أهل البلد بالتَّرحيب، على أنكم لم تفعلوا .. فما تراني فاعلاً»؟!
ابتسمت كالمعتذر، ومددتُّ يدي أصافحه:
ـ «كمال».
ـ «تِرِّيكَن».
للوهلة الأولى لم أستوعب، تماماً، ما سمعت. أخذ الأمر منِّي ثانيتين، ثلاثاً، حتى إذا ما ملأ الاسم المرعب، بدويِّهِ الهائل، صماخ أذنَيَّ، وجدتني أتزحزح، دون إرادة منِّي، مبتعداً عنه قليلاً، وأنا أردِّد:
ـ «تِرِّيكَن .. تِرِّيكَن .. "تِرِّ ..»
حسبني أتساءل، فقاطعني مؤكداً:
ـ «نعم .. نعم .. تِرِّيكَن، لا تبدو صغير السِّن إلى هذا الحدِّ، فلا بُد أنك تعرفني، أو، على الأقل، سمعت باسمي في خرطوم أواخر السِّتينات .. نعم .. تِرِّيكَن، الملحق العسكري الأثيوبي في السُّودان قبل انقلاب مايو 1969م»!
قفزت كالملدوغ:
ـ «هو أنت إذن! وأنا من ظللت أتساءل، طوال الوقت، بيني وبين نفسي، أين يا ربِّي رأيت هذه الوجه من قبل، لكن .. أين كنت؟! وما جاء بك إلى هذا المكان؟! وما الذي بهدلك كلَّ هذه البهدلة»؟!
لم يُجب، بل مضى ينظر إليَّ، برهة، بطيف ابتسامة مطفأة، وبعينين كلبيَّتين، من خلف نظارات مكسورة الذراع، دون أن ينبس ببنت شفة! لكنه بدا محقَّاً في استغرابه عندما اعتقد أنني لم أعرفه حتى بعد أن نطق باسمه، فمَن ذا الذي في مثل سِنِّي، أوان ذاك، ويشتغل بالعمل العام إلى درجة دخول السِّجن، ولا يعرف تِرِّيكَن، أو .. «سفير جهنَّم» كما أسماه صديقنا الرَّاحل محمود محمد مدني؟!
…........................................…
…...........................................
ظللت، خلال العامين (1967م ـ 1968م)، أتنقَّل، كالنَّحلة الشَّغوف، بين بعض المؤسَّسات الصَّحفيَّة، حتى طاب لي المقام، قبيل سفري إلى كييف للدِّراسة، بجريدة «الضِّياء»، بديلة «الميدان» بعد حظرها في عقابيل حلِّ الحزب الشِّيوعي، وكان يرأس تحريرها المرحوم عمر مصطفى المكي، وسكرتير تحريرها المرحوم ميرغني حسن علي، ويشرف عليها سياسيَّاً المرحوم حسن الطاهر زروق. تلك هي الفترة التي ابتدأت فيها صداقة العمر بيني وبين محمود مدني وصدِّيق محيسي، فضلاً عن صداقات كثر في وسط ذلك الزَّمان الصَّحفي، بعضها بقي، برغم الدَّاء والأعداء، وبعضها تلاشى كرفيف عطر قديم!
لم تكن لأيٍّ من ثلاثتنا، في الواقع، معرفة، أو مجرَّد سبب لأيَّة معرفة، في المستوى الشخصي، أيَّامها، بتِرِّيكَن، وإن كنتُ رأيته، من بعيد لبعيد، في مناسبة واحدة سأسوق خبرها بعد قليل! مع ذلك كان ذكر اسمه وحده كافياً لجعل الفرائص ترتعد، ولإثارة أقصى درجات الرُّعب في نفوس الناس، خصوصاً معارضي النِّظام الإمبراطوري، ومنسوبي الثَّورة الإريتريَّة، وقتها، الذين كانت تنتشر الحكايات، بين الحين والآخر، عن اكتشاف جثث بعضهم مدفونة، على عجل، في الفضاء الكائن بين بُري ومطار الخرطوم، مكانَ حيِّ الصفا وامتداد ناصر حالياً! وعلى حين كانت أصابع الاتِّهام كلها تشير إلي «سفير جهنَّم»، كانت الألسن تضجُّ بالشَّكوى من استخذاء السُّلطات إزاء جرائمه البشعة التي أزكمت رائحتها الأنوف، حتَّى لقد لقَّبه الكثيرون بـ «الحاكم العام»!
كان نصيب الصَّحفيِّين من إرهاب الرَّجل وافراً! ولعل الأحياء منهم ما زالوا يتحسَّرون على مصير صحفيٍّ نابه تناقل الوسط، حينها، قصة الابتزاز الوضيع الذي استهدفه به تِرِّيكَن، بسبب إصداره كتاباً مؤازراً للثَّورة الإريتريَّة، فاستدرجه، عن طريق صحفيٍّ آخر، من القراند هوتيل، إلى بيت قوَّادة شهيرة بالقرب من حديقة القرشي، وعندما استيقظ الصَّحفي النَّابه وجد نفسه عارياً على سرير غرفة بالملحقيَّة العسكريَّة الأثيوبيَّة، حيث جرت مساومته على توقيع كتاب مضادٍّ جاهز، أو يتمُّ تعميم صور «فاضحة» التقطت له تلك الليلة، فوافق، مجبراً، تحت ضغط نفسيٍّ هائل! حكاية مؤلمة أشبه بقصص «المافيا» في أعتى عصورها الأمريكيَّة ـ الصِقليَّة، بل أكثر قسوة، وحقارة، ووضاعة، بتفاصيلها التي تتداخل فيها عناصر الشَّبكة الواسعة من العلاقات الممتدَّة من السفارة الأثيوبيَّة إلى أزقة العاهرات الأثيوبيَّات المبثوثة في المدن الثَّلاث، واللاتي لم يكن روادهنَّ يعلمون بأن معظمهنَّ مجنَّدات، وقتها، في خدمة مخابرات أسد يهوذا، وسبط صهيون، الإمبراطور هيلاسلاسي! وتحت التَّأثير البالغ لتلك الحكاية، أقدم المرحوم الصَّحفي سيد احمد خليفة، بحكم علاقة باسلة ربطته، وقتها، بدوائر الثَّورة الإريتريَّة، على نشر كتاب جسور آخر يمجِّد فيه تلك الثَّورة، متحدَّياً بذلك تِرِّيكَن ورهطه الذين كانوا ينشطون بدعم «الملحقيَّة العسكريَّة الأثيوبيَّة»، حتَّى خشي الناس على مصيره!
الواقعة الوحيدة التي كنا، صِدِّيق محيسي وشخصي، ضمن شهودها المباشرين، بالمصادفة البحتة، حدثت يوم دعانا، ذات خميس من أوائل عام 1968م، زميل صحفيٌّ لتناول العشاء بمنزله بأم درمان، بمناسبة «سماية» مولوده الجَّديد. وفي طريقنا لتلبية الدَّعوة لم نكن نمنِّي النَّفس بأكثر من سهرة متواضعة، لعلمنا بإمكانيَّات مضيفنا الماليَّة! غير أننا، ما أن اقتربنا من «بيت السِّماية»، حتَّى لاحظنا أرتالاً من السَّيَّارات الفارهة حاملة لوحات المرور الدِّبلوماسيَّة! ثمَّ كانت المفاجأة الأكبر بالدَّاخل، حيث الزِّينات المبهظة، والثُّريَّات الضِّخام، قد أحالت ليل بيت أخينا نهاراً، وأعداد مهولة من المدعوِّين، أكثرهم صحفيُّون، يتحلقون حول طاولات نضِّدت بأناقة، وفرشت بالأغطية الفخمة، ورُصَّت عليها صِحاف الضِّيافة، وقواريرها، وآنيتها، بسخاء باذخ! جلسنا، على استحياء، إلى أقرب طاولة، وما لبث مضيفنا أن خفَّ إلينا، هاشَّاً باشَّاً، يأمر لنا بالمزيد من الضِّيافة، ونحن بين الدَّهشة والحيرة نكاد لا نصدِّق!
لحظات، وبدأت ترتفع، من مكان ما، أصوات آلات موسيقيَّة يتمُّ ضبطها، ومكبِّرات صوتٍ يجري تجريبها. التفتنا، لاإرادياً، فأبصرنا فرقة موسيقيَّة على منصَّة قبالة الفيراندا المطلة على الحوش حيث نجلس، ثلة من فتيان إثيوبيِّين بأقمصتهم، وآلاتهم التَّقليديَّة المميَّزة! لكن، قبل أن نعِي الحاصل تماماً، فرقع صوت امرأة مسِنَّة من داخل الفيراندا:
ـ "الرسول يا بنات امِّي جيبوا المرارة لي .. تِرِّيكَن"!
سرت رعدة بين الطاولات، وقفَّ شعر رؤوس كثيرة في المكان! التفتنا، لاإرادياً أيضاً، إلى مصدر الصَّوت، فإذا بـ «سفير جهنم» ذاته، بلحمه وشحمه، وقد أحاط به خلقٌ كثيرون، رجال ونساء وأطفال من مختلف الأعمار، كأنه كبير الأسرة، يسامر هذا، ويداعب ذاك، وأمامه طاولة خاصَّة مُدَّت، وصحاف منتقاة رُصَّت، وبدا، جليَّاً، أنه ضيف الشَّرف الرَّفيع، والمموِّل السَّخِي لكلِّ ذلك البذخ!
ما حدث، بعد ذلك، كان «كوميديا سوداء»، إذ ألفيتنا، صِدِّيق وشخصِي، نتدافع، ضمن آخرين، دون سابق اتِّفاق، عند باب الخروج! وفي الشَّارع استغرقتنا موجة من الضحك الهستيريِّ عندما رأينا بعض الأصدقاء ما كادوا يتخارجون حتى أطلقوا سيقانهم للرِّيح! ولم نكفَّ عن التَّندُّر بذلك طوال يوم الجُّمعة! لكننا فوجئنا، صباح السَّبت، ونحن نستقلُّ التاكسي إلى الخرطوم، بالخط الرَّئيس لجريدة «الضِّياء» يَدْوِي كما القنبلة: «الملحق العسكري الأثيوبي يقيم حفل علاقات عامَّة لتجنيد عملاء جُدُد من الوسط الصَّحفي» .. أو نحو ذلك! وهمس لي صِدِّيق، الذي ساءته كثيراً تلك الصِّياغة، بأنها تمسُّ صحفيين شرفاء كلُّ ذنبهم أنهم لبوا، ببراءة، دعوة عاديَّة من زميل لهم، على العشاء، دون أن يعلموا بأنها كانت مصيدة! وفور وصولي إلى الصَّحيفة نقلت ذلك إلى المرحوم حسن الطاهر زروق، ورويت له تفاصيل ما حدث. وكان مِمَّا قال «أبو علي» بلهجته المصريَّة المميَّزة:
ـ "أيوه يا كمال يابني .. كلام صِدِّيق صح، وأكيد راح نطيِّب الخواطر، بس كمان أخوانا دول لازم يتفهَّموا إنِّ مَكانش ممكن نِهدر القيمة التَّحذيريَّة الأساسيَّة في الصِّياغة"!
وحول صحن الفول الذي دعاني إليه راح يقهقه لمَّا رويت له حكاية الفزع الذي انتاب الكثيرين حين علموا بعلاقة تِرِّيكَن بالحفل، وأنه موجود فيه! وفي اليوم التالي نشرت الصَّحيفة تنويهاً مهذباً في ذات المعنى الذي وعدني به، فطابت خواطر كثر!
….......................................…
…..............….........................
إنتبهت، فجأة، إلى أنني سرحت مع تلك الذِّكريات بعيداً عن ذلك «الرِّمَّة» المتكوِّم إلى جواري على الأريكة الخرصانيَّّة في باحة مستشفى السِّجن، والذي كان يوماً ناشر الرُّعب في دور الصُّحف بالخرطوم، وأحياء العاصمة المثلَّثة السَّكنيَّة! عدت أسأله، وأنا أتفحَّص هيئته الرَّثة، وعينيه الكلبيَّتين تتصيَّدان أعقاب السِّجاير الشَّحيحة حولنا، عن سبب تلك «البهدلة»، وعن سِرِّ وجوده في ذلك المكان. فأوضح لي أنه هرب من أديس بعد إطاحة العسكر بالإمبراطور، وأنه قضى فترة في بريطانيا، ثمَّ قرَّر طلب اللجوء إلى السُّودان الذي قال إنه «يحبُّه كثيراً!»، لكنَّ جندرمة الأمن اعتقلوه وزجُّوا به في السِّجن!
نهضت، وقد تبدَّد شغفي لسماع قصَّته! غير أنِّي، وبعد أن خطوت بضع خطوات باتجاه العنبر، تذكرت، فجأة، أن معي ثلاث سيجارات، فرميت له بواحدة قفز يلتقطها في الهواء، ككلب صيد مدرَّب، ثمَّ .. مضيت مبتعداً!

الجُّمعة
مرَّ على «الأفنديَّة» حين من الدَّهر رتعوا خلاله في نعيم الميزات الاجتماعيَّة؛ كان لدنياهم رونق، ولحياتهم مذاق، ولمحافلهم سحر، والآخرون لا ينفكُّون يتطلَّعون إليهم من أدنى السلم الاجتماعي، يتباهون بمصاهرتهم، ويتجمَّلون بالتقرُّب إليهم، ويؤثرونهم بصدور المجالس، ويتبارون فى تقليد أساليبهم فى المأكل، والمشرب، والملبس، والكلام، والحركة، والسُّكون.
الأمهات يُهَدْهِدْن أطفالهُنَّ بوعد حظوظهم: «بكرة تكبر وتبقى لي مامور»! وأغاني البنات فى المدن والأرياف تتغزَّل فى مناقبهم: «الأفندى التِّذكارو عندي»! و«المهندس جا ورسم البُنا»! و«الدَّكاترة ولادة الهَنا»! و«أجيب شانتير محامى»! و«مشيت الخارجيَّة أشوف سبب الأذيَّة»! و«مشيت الدَّاخليَّة للحارس الجِّنسيَّة»! و«شرطاً يكون لبِّيس من هيئة التَّدريس»!
والناس فى أصقاع السُّودان الفقير يتيمَّنون بإسباغ صفاتهم على كل بديع فى حياتهم، فالشَّاي الجَّيِّد لا بُدَّ أن يكون «دمَّ الدَّكاترة»! والثَّوب النِّسائي الأنيق إما «بت الباشا المدير»، أو «السَّفير»، أو «الكادر»، أو «قلم الدَّكاترة»، أو «ضُلَعَهم»، من كلِّ بُد! كان ذلك سابقاً على «التَّطهير» السِّياسي خلال حقبة مايو، والتي أعقبتها «هوجة الاغتراب» فى السَّبعينات والثَّمانينات، عشيَّة تآكل الطبقة الوسطى، وانهيار مملكة «الأفنديَّة»، وبوخ سلطتهم، وفتور سيرتهم، وخمول ألقابهم، وانتهاء المُنعَم عليه منهم بعقد عمل خارجي إلى الاندغام، بالكامل، في لقب وحيد، هو «المغترب»، حيث لا فضل لطبيب على سبَّاك إلا بعدد «شنط الشيلة» التى يهبط بها في مطار الخرطوم، من ذلك العالم الآخر! هكذا استحالت منظومة القيم الاجتماعيَّة في أغاني البنات إلى: «السَّافر جدَّة خلاني براي»! و«المغتربين ازَّيَّكم .. لعلَّكم طيبين فى حيَّكم»! و«يجيبو لى فرحان .. من جدَّة للسُّودان»! و«كلامو إسترلينى ما سائل فى الدولار»! والتَّمنِّى على الله بـ «مغترب أو ود غَرب»! ولات حين أهميَّة لما يصنع فى «جدَّة» مَن «يسافر» إليها، أو لما يفرِّق بين «ود غَرب» صالح وآخر طالح!
ومع مطلع التِّسعينات، وبفعل نازلتين، تفاقمت محنة «الأفنديَّة»، لتقضي على ما تبقَّى من مجدهم! فقد بدأت في الدَّوران طاحونة «الفصل للصَّالح العام» على يد «الانقاذ»، كما بدأت تدول دولة «المغترب» ذاتها، حين اجتاحتها، فى عقابيل حرب الخليج الثَّانية، رياح «السَّعْوَدَة»، و«العَمْننة»، و«الظَّبْيَنة»، فانسدَّ كلُّ مفتوح، ولم يعُد متاحاً سوى اللُّجوء إلى بلاد طيرها أعجميٌّ، فشهدت منظومة القيم الاجتماعيَّة انقلابها الجَّديد على أيدى الطفيليِّين، ولصوص المال العام، وحراميَّة المشاريع الحكوميَّة، والمضاربين فى كلِّ شئ، من العملات إلى الضَّمائر، حتى قال المراجع العام إن مائة وثلاثين جنيهاً تنهب، كلَّ ثانية، من الخزينة العامَّة، مِمَّا أفضى بأغاني البنات إلى: «سجِّل لي عرباتك .. وسجل لي شركاتك .. ما إنت العسل ذاتك»! و«تجارة ليها أساس .. ما بيعرف الإفلاس»! و«شوفو كان رايق .. للفى ـ إكس ـ آر سايق .. لفت الخلايق»! و«ليلى علوي وَجْوَاجَة .. كتحتني بعجاجا .. زاد وجدي سوَّاقا»! و«بالضَّرا ان شا الله راجل مرَا"! و«بختي ان شا الله راجل اختي»! ولمن شاء استفاضة أن يلتمسها لدى نصرة، أو قسمة، أو هاجر كبَّاشي، أو حوَّا بنزين، أو «قونات» أخريات ينتشرن، بطول البلاد وعرضها، بعدد حالات موت الفجـاءة، والطلاق للغـيبة، أو لعـدم الانفاق!
أغاني البنات مصدر متميِّز للتَّاريخ الاجتماعي، فلا يصحُّ اختزالها في محض أحكام أخلاقيَّة عامَّة، دون النظر إلى محمولاتها من المستويات السَّائدة للوعي الاجتماعي بين مرحلة وأخرى!

السَّبت
لم يعُد النَّصر والهزيمة، في الحروب، يُحسبان بكمِّ العُدَّة، والعتاد، والذَّخائر، أو بمستوى تطوُر السِّلاح المستخدم على كلِّ جانب، فقرار كالذي اتَّخذه الاتِّحاد الأوربِّي لكرة القدم، مؤخَّراً، باستبعاد روسيا من منافسات كأس الأمم الأوربيَّة القادمة (2024م)، هو، بكلِّ المعايير، هزيمة لها .. من الوزن الثَّقيل!

الأحد
في السِّتِّينات أحيا أبو داود وكابلي، كثنائي، حفلاً شرَّفه الرَّئيس اسماعيل الأزهري، فوقف أبو داود في بدايته، وخاطب الأزهري قائلاً:
ــ «حنغني ليكم يا سيادة الرَّئيس أنا وكابلي، بلاك اند وايت»!

***

kgizouli@gmail.com

 

آراء