بمناسبة مرور ذكرى ستمائة عام على رحيله: العلاَمة إبن خلدون مؤرخاً
تحتفل العديد من الأوساط العلمية والفكرية في العالمين العربي والإسلامي هذه الأيام بذكرى ستمائة عام ونيف على رحيل أبرز مفكري العالم الإسلامي في العصور الوسطى (1406م ،808ه). ولعل أهمية إبن خلدون تكمن في إحداثه إنقلاباً معرفياً في الدراسات الإنسانية ليس له نظير ليس فقط في عصره إنما لأحقاب عديدة لاحقة ذلكم هو عبد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون. إسمه عبد الرحمن وكنيته أبو زيد ولقبه ولي الدين وشهرته إبن خلدون. ولد في تونس عام 732هـ بيد أن نسبه يرجع إلى حضرموت في اليمن وجده الأكبر الصحابي الجليل وائل بن حجر الذي دعا الرسول (ص) لذريته بالبركة. ونهل من العلوم الدينية والعقلية في موطنه (تونس) ثم إنتقل إلى الأندلس الذي تربطه وأسرته بها علاقة قديمة حيث كان أسلافه من الأمراء الذين تولوا حكم ولاية أشبيلية في عهد ملوك الطوائف ثم ضعفت شوكتهم وزال ملكهم وعادوا للإستقرار في شمال أفريقيا. تنقل إبن خلدون بين الأندلس (قضى بها سنتين ونصف العام) وشمال أفريقيا (إمارة بجاية) حيث أوكلت له مهام سياسية للتوسط بين أهل السلطة هناك وقبائل البدو من بني هلال فعمل على إصلاح ذات البين بحنكة ودراية اكتسبها خلال إحتكاكه بتلك المجموعات القبلية. ورجع إلى موطنه تونس واستقر به المقام في مصر في عهد السلطان الظاهر برقوق الذي أحسن ضيافته وولاه القضاء على المذهب المالكي وطبقت شهرته العلمية الآفاق. وقابل بمعية السلطان الناصر فرج قائد التتار "تيمورلنك" عند قدومه لبلاد الشام.
ولعل أهم ما إشتهر به إبن خلدون مقدمته الموسومة "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". وقد وضع في هذه المقدمة الشاملة أسس علم العمران والمنهجية التي تفسر حركة التاريخ الإنساني وأسباب قيام الدول وسقوطها وشروط الحكم والسلطة. وتجدر الإشارة إلى أن إبن خلدون رفد المكتبة العربية-الإسلامية بالعديد من المؤلفات في السيرة الذاتية والتصوف وعلم الكلام والإجتماع البشري. ولعل من أبرز مؤلفاته "التعريف بإبن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً" و"المنهل الصافي" و"شفاء السائل في تهذيب المسائل" و"لباب المحصل في أصول الدين".
إبن خلدون مؤرخاً:
سإقتصر في حديثي على منهج إبن خلدون في التاريخ كما يستبان من "مقدمته" الأكثر شهرة بين مؤلفاته العديدة. ويعتبر علماء كثر أن هذه "المقدمة" نقطة تحول في الدراسات الإنسانية بشكل عام وعلوم الإجتماع والتاريخ على وجه التخصيص حيث إعتمد في وضع نظريته التاريخية على الملاحظة والتجربة مستنداً إلى أقيسة الأصوليين وتطويعها لتتماهى مع منهجه العلمي الجديد.
ولعل مما يثير الدهشة أن المسلمين لم يعيروا هذه العبقرية الفكرية إهتماماً كبيراً سواء في العصر الذي عاش أو العصور التاريخية المتأخرة، فلقد إكتشفه الأوروبيون وكشفوا النقاب عن تراثه الفكري وأبانوا المناهج العلمية التي إحتوتها مقدمته والتي وضعت الأسس للعديد من النظريات الحديثة في الاجتماع وفلسفة التاريخ. ويعتبر إبن خلدون من القلائل الذين ترجمت أعمالهم إلى كل لغات العالم الحية حيث أسهم فكره بشكل وافر في نهضة الحضارة الغربية الحديثة.
منهج إبن خلدون في كتابة التاريخ:
في العصر الذي عاش فيه إبن خلدون كان التاريخ في نظر العرب والمسلمين عبارة عن حكايات وأخبار وسير يعتمد الإخباريون في رصدها على المزاج الشخصي تحركهم الأغراض الدينية والسياسية أو لمجرد العلم والمعرفة أو لتزجية الوقت. أي أن دافعهم للكتابة ليس من أجل التاريخ نفسه. واستطاع إبن خلدون أن يسبغ مفهوماً أكثر شمولية على هذا العلم من أجل إستنطاق حوادث الماضي وإستفتاء مجرياتها والإستعانة بها في فهم الحاضر الذي تشكل تجربته الشخصية جزءً لا يتجزأ منه. فماذا فعل إبن خلدون لتحقيق ذلك من خلال مقدمته التي طبقت شهرتها الآفاق؟
إعتمد ابن خلدون على المنهج الإستقرائي القائم المستند إلى المفاهيم الأرسطية لتأييد الأحكام العامة التي وضعها في البدء ثم يعمل على الإتيان بإستقراءات جزئية تحاول أن تبرهن على صحة الحكم "العام" الذي أصدره والذي يعتقد أنه الحكم العلمي السليم متأسياً بأرسطو ومقولته المعروفة "لا علم إلا بما هو عام". ويرى بعض الباحثين أن حكماً كهذا يتعلق بالقياس الأصولي (قياس الغائب على الشاهد وقياس الجزء على الجزء) الذي كان الطريقة الإستدلالية المتعارف عليها في العلوم العربية والإسلامية، غير أن الجديد الذي أتى به ابن خلدون كما يرى محمد عابد الجابري-وهو محق في ذلك- هو صياغة هذا القياس على هيئة براهين هندسية أضفت طابعاً إستنباطياً شكلياً مما جعل منهجه في الظاهر يبدو إستقرائياً تجريبياً وإستنباطياً هندسياً ولكن دون أن يفي بشروط أي منهما.
نظرية إبن خلدون في كتابة "التاريخ":
يعتبر إبن خلدون أن نظريته في قيام الدول وسقوطها أهم قصة في التاريخ العام غير أن نظريته الإستقرائية هذه إستندت في معطياتها على حيز جغرافي وبشري ضيق وهو ممالك العرب والبربر في شمال أفريقيا. ويرى العديد من الباحثين أن الخطوط العامة لهذه النظرية تتمحور في المرتكزات التالية: أولاً؛ إن الدول كالأفراد تماماً تنمو طبيعياً وتصل مرحلة النضوج فالشيخوخة والهرم ثم الموت والزوال؛ ثانياً: إن الجيل الذي ينشئ الدولة يتصف بالقوة والبأس خاصة وأنه كان إلى عهد قريب في مرحلة الخشونة (البداوة)؛ ثالثاً: إن الترف يصيب الجيل الثاني من مؤسسي الدولة لعدم تقديرهم للمجهودات التي بذلها الآباء المؤسسون؛ رابعاً: الجيل الثالث ينغمس حتى أذنيه في الترف والملذات وتعم الفوضى البلاد وخامساً: الجيل الرابع هو جيل الخراب الشامل وزوال السلطان بسبب تفشي الفساد المتوارث من الأجيال السابقة. وكان إبن خلدون على رأي مفاده "إن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال هو عمر الشخص من العمر الوسط فيكون أربعين....".
نقد المشروع التاريخي الخلدوني:
علم العمران الذي أراده إبن خلدون علماً جديداً ومعيناً منطقياً لكتابة التاريخ ليس قواعد منهجية إنما هو تفسير لحوادث التاريخ الشيء الذي يفترض مسبقاً وجود معرفة موثقة بهذه الحوادث فـ"المقدمة" أخطأت –كما يرى بعض أهل العلم- في إدراك العلاقة بين علم العمران وبين التاريخ فإنعكس ذلك على الإثنين معاً. وأراد إبن خلدون أن يفلسف التاريخ من داخله وهذا بالطبع مستحيل. فالمؤرخ –كما هو معلوم- لا ينتج فلسفة تاريخ بل يحاول إعادة تركيب التاريخ تماماً كما يفعل علماء الآركيولوجيا (الآثار) في دراساتهم للمخلفات المادية التي كشفت عنها الحفريات الآثارية.
إضافة لما سبق، فمن العيوب التي توجه للمشروع التاريخي الخلدوني في قيام الدول وسقوطها إعتماده على العصبية القبلية لتفسير نشوء الحضارات متجاهلاً الولاءات المذهبية والدينية والتي عجز عن إيجاد التفسير المناسب لها من مرتكزاته الفكرية زاعماً أنها شاذة وفوق العادة (معجزة). ونلحظ أن الحتمية التاريخية بإنهيار الدول لعوامل داخلية على رأي إبن خلدون تناقض الحقائق التاريخية التي تشير أيضاً إلى إنهيار العديد من الدول بعوامل خارجية وهي في منتهى القوى والعنفوان.
وبقطع النظر عن ما تم إيراده أعلاه من نقائص للمشروع الخلدوني في التاريخ، إلا أن ذلك لا يقلل البتة من مكانة هذا المفكر العربي-الإسلامي الكبير والذي يعتبره الكثيرون أحد أبرز العلماء على مر العصور بل أن العديد من العلماء الأوروبيين في الإجتماع والتاريخ استمدوا منه أفكارهم وتأثروا بنظرياته في العمران البشري ونشوء الدول منهم على سبيل المثال "فيكو" وأوجست كومت صاحب "قانون الحالات الثلاث" في الفكر الإنساني وتوينبي صاحب نظرية "التحدي والإستجابة" وغيرهم كثر. وفي تقديري أن الإرث الفكري الذي تركه لنا هذا المفكر الضخم ما يزال في حاجة لمزيد من البحث والتقصي كيما يتم تقييمه بصورة موضوعية تسبر أغوار منهجه الفكري بشكل أكثر عمقاً لرفد مناهجنا المعاصرة في مجال الدراسات الإنسانية برؤى إبستمولوجية جديدة. ألا رحم الله إبن خلدون وأسكنه فسيح جناته بقدر ما قدم لأمته العربية والإسلامية من جلائل الأعمال.
إبن خلدون
بروفيسورعبدالرحيم خبير
khabirjuba@hotmail.com