بين السودان وإسرائيل: ليس بالسلاح وحده تؤمن الأوطان

 


 

 





(1)

لا شك أن الهجوم الطائش الذي شنته جهة مجهولة-معلومة على مصنع اليرموك الحربي في العاصمة السودانية الخرطوم أمس الأول يمثل قفزة في المجهول، وليس للسودان فقط. فالجهة التي تقف وراء هذا الهجوم –وهي إسرائيل على الأرجح- قد فتحت على نفسها أبواباً قد يتعذر سدها، بعد أن أعلنت ضمناً أن قانون الغاب هو الذي ينبغي أن يسود في المنطقة.


(2)

يثير هذا الهجوم أسئلة هامة حول الدافع من ورائه. فمصانع الذخيرة العادية لا يمكن أن تشكل تهديداً لإسرائيل أو غيرها، مما يطرح السؤال عن الجهة المستفيدة، ولمصلحة من  من حلفائها ضربت إسرائيل ضربتها؟ وهل كان هؤلاء الحلفاء على علم؟ وما هو حجم التواطؤ، وهل بلغ مبلغ الطلب المسبق؟ وكيف تطير طائرات إسرائيل لمئات الأميال بحذاء سواحل دول عربية تمتلك أحدث تقينات الرادار، وتعيش في خوف ورعب على أمنها، ولا يشعر أحد بهذا الخطر؟

(3)

هناك بالطبع جانب آخر للمسألة، يتمثل في استسهال استهداف السودان، خاصة أن هذه المرة الرابعة التي تستبيح إسرائيل أرضه وهي متأكدة من أن البلد عاجز عن الدفاع عن نفسه بالسلاح، ومعزول لا يكاد يجد ناصراً. فنظامه بحسب الآية القرآنية لا يستطيع صرفاً ولا نصراً، وهي محنة من عند أنفسكم، لأن سياسات النظام هي المسؤولة عن ذلك.

(4)

بين الاستباحة والاستهداف فرق مهم. فهناك أكثر من بلد عربي وإسلامي أراضيها مستباحة، منها باكستان واليمن والعراق ولبنان، يسرح فيها الجناة ويمرحون، ويستهدفون فيها من يشاءون بتواطؤ من بعض أهلها وسلاطينها أو بدونه. وقد كان السودان حتى أمس الأول من بين هؤلاء، ولكنه حصل الآن على ترقية، حيث أصبح مستهدفاً في ذاته، بعد أن كان مسرحاً لتصفية معارك الآخرين. وهذا أمر له تبعاته.


(5)

أذكر أنني علقت مرة في اجتماع عقد في الخرطوم على ما وصفته باستضعاف السودان، حيث تناوشته سهام الأباعد والأقارب، واقتطعت أراضيه شمالاً وشرقاً وجنوباً وهو عاجز عن الذب عن نفسه، حتى أصبحت تهدده تشاد واريتريا، وهو لا يجرؤ على رد . ونصحت وقتها بالإسراع بحسم قضايا السودان الداخلية، وعلى رأسها حرب الجنوب، حتى تعود للبلد عافيته ويسترد مكانته. انبرى عندها أحدهم مستنكراً وصف السودان بأنه دولة مستضعفة، وصاح بملء فيه: إن السودان اليوم دولة عظمى! وبدلاً من أن يلقى هذا المنافق جزاءه الوفاق، سرعان ما عين وزيراً في هذه الدولة العظمى. فلا عجب أن انتاشتها بعد عام ونيف من تلك الواقعة صواريخ كلنتون، فكان رد وزير خارجيتها أن خرق البروتوكول ليستعطف الدولة العظمى الأخرى "حواراً" لوجه الله!


(6)

من نافلة القول أن الدفاع عن حمى الأوطان لا يكون بالسلاح فقط، وهناك في أوروبا وغيرها دول بحجم مدن صغيرة، وجزر نائية مثل جزر القمر والسيشيل، يتحاماها العدا، ولا يجرؤ الغزاة على طرق بابها. وذلك لأنها محمية بالقانون الدولي أولاً، وبالسمعة الطيبة ثانياً، ثم بالتحالفات القوية أخيراً. وأول ما يكون الاستخفاف بالدول عندما تكون سمعتها في الحضيض، بحيث يأمن المعتدي عليها حتى من اللوم والتقريع، بل قد يحمد سعيه.

(7)


تعالت الصيحات بعد الهجمة الأخيرة تتساءل أين الجيش والطيران، وكيف غفل الغافلون عن العدو الحاضر؟ ونادى المنادون بضرورة بذل الجهد لتحصين البلاد من هجمات قادمة. وفي حقيقة الأمر إن السودان ليس لديه من الإمكانات ما يرد به عدوان كبار المعتدين، ويكفي أن كل أسلحة أمريكا لم تحصنها من هجمات سبتمبر. وليس من الحكمة إنفاق أموال الفقراء من السودانيين لتكديس عتاد لن يغني شيئاً، بل قد يصبح مثل المصنع إياه هدفاً آخر للعدوان. ولكن ما ينبغي هو تحصين البلاد بالعدل، وإنقاذ سمعتها مما لحق بها من ضرر فادح، وإصلاح ذات البين وسط أهلها. فذاك خير دفاع.

(8)

إن ما وقع من هجوم غادر على العاصمة السودانية يجب أن يكون عظة وتذكرة لمن ادكر، بأن عنجهية القوة ليست هي الحل لكل المشاكل، خاصة إذا تمثلت في الاستئساد على المستضعفين، ونسيان أن فوق كل ذي جبروت جبار، وأن جبار السموات والأرض فوقهم جميعاً قاهر. وليوفر علينا القوم، هداهم الله، الشعارات والهتاف والصياح، فإنها لم تجد سابقاً ولن تجدي اليوم، كما أن الشعب لا يحتاج لعقوبة إضافية بعد ما حزبه من أمر، وناله من كرب. فليمنوا علينا بالصمت مأجورين. أما إذا تقدموا باستقالات جماعية، فسنكون أول من يدعو لهم بكل خير في هذه الأيام المباركات.


Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]
///////////////

 

آراء