بين الطيب صالح وعِطاية الزاهد
د. أسامة عثمان
29 March, 2009
29 March, 2009
ussama.osman@yahoo.com
غطي حدث الجنائية الدولية على حدث فقد أديبنا الكبير الطيب صالح، وقد يتسآل متسائل ماذا تبقى ليكتب عن الطيب صالح فقد كتب عنه الكثير. إن الطيب صالح من تلك الشخصيات النادرة التي تترك فيك أثرا ولو كان لقاءك بها قصيرا عابرا ولقد لاحظت من خلال ما كتب أن ثمة خيطا رفيعا يربط الذكريات والتجارب الشخصية للجميع مع الطيب صالح بأدبه ورواياته وشخوصها. وقد كان لي تجارب شخصية تجلى فيها ذلك البعد تجليا تاما.
كنت في طريقي من مدينة ليون في شرق فرنسا حيث كنت أدرس إلى الرباط لحضور دورة علمية وكان ذلك في 15 يوليو عام 1983. نقلتنا حافلة من مطار شارل ديغول إلى مطار أورلي لنستغل الخطوط الملكية المغربية للرباط وما أن وصلت الحافلة إلى مدخل صالة المغادرين في مطار أورلي وبدأنا في الترجل لندخل الصالة حتى دوى انفجار هائل يصم الآذان وعلا الصريخ والضجيج ووصلت الشرطة والإسعاف وكل وسائل الإنقاذ. كان "الجيش السري لتحرير أرمينيا" قد قام بتفجير قنبلة في مدخل مكتب الخطوط الجوية التركية في المطار انتقاما لاعتقال الشرطة الفرنسية لأحد قادته في مطار أورلي حاول أن يستغل طائرة تركية وقد أدى الانفجار لمقتل ثمانية أشخاص وجرح أكثر من ستين شخصا آخرين. لا شك أنك بدأت تتسآل أيها القارئ العزيز وما دخل ذلك بالطيب صالح؟ حجزنا جميعا داخل صالة المطار عسى أن ينجلي الأمر، اتخذت مكانا وهيئت نفسي لانتظار قد يطول وفعلا ظللنا بالمطار في حالة انتظار من العاشرة صباحا حتى العاشرة مساء ولقد كان ذلك أمتع فترة انتظار تمر بي في حياتي. ذلك أنني ما أنت اتخذت مكاني حتى وجدت نفسي وجها لوجه مع الطيب صالح والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وقد كانا في طريقهما للرباط لحضور اجتماع ما ثم السفر إلى مدينة أصيلة لحضور مهرجان أصيلة الذي كان في بداياته في ذلك الوقت. لم أكن قد التقيت بالطيب صالح من قبل، عرفته بنفسي ووجهتي وتجاورنا في "الملكية المغربية" في الرحلة التي تأخرت عشر ساعات وحشرنا فيها حشرا بسبب الاضطراب الذي سببه التفجير. وكان الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يردد طوال الرحلة " يا طيب صالح ولله أنت صالح ولولا انك صالح كنا رحنا فيها في المصيبة دي" وتشعب الحديث ووصل بنا إلى "عرس الزين" فسألت الطيب صالح إن كان قد اقتبس شيئا من شخصية "عطاية الزاهد" في رسم بعض شخوص رواياته. تهللت أساريره عند ذكر الاسم وبدت عليه الدهشة وكأني قد كشفت سرا. استوى في جلسته وسألنى من أين عرفت عطاية الزاهد فأخبرته بأنني ابن المنطقة وكما هاجر هو كشأن معظم أهل الشمال وبقيت لهم جذور في "البلد" كان ذلك حالنا وسألني عن بعض الشخصيات البارزة وإن كانوا على قيد الحياة. ولنعد إلى عطاية الزاهد تلك الشخصية الشبيهة بأكثر من شخصية في روايات الطيب صالح، لقد كان عطاية شخصا "مهمشا" لا أرض له ولا دار ولا قرار في مظهره كل مظاهر الزهد، لا تراه إلا بالعراقي والسروال مهما كان الحدث فهو لا يملك غيرهما ويجود عليه أحد الناس من فترة لأخرى بقماش يأخذه للخياط يوم السوق ليخيط له غيرهما عندما تدعو الضرورة لذلك . كان محبوبا مهذارا تفتح له جميع الأبواب في جميع قرى المنطقة ويتفآل الناس عندما يرونه في الصباح، وكان الجميع من الرجال والنساء والأطفال يعرفونه ويهذرون معه وكان يحب الولائم والمناسبات وطيب الطعام وشرب الشاي، فما من "لعب" إلا وكان أول من يصل وآخر من يغادر، كذلك الحال في بيوت الصدقة ومناسبات الختان وختمة القرآن أو قراءة المولد النبي الشريف أو النور البراق للسيد الختم. وكان من "أهل الخطوة" فيما يقول عنه الكبار في ذلك الوقت. كان يتنقل في المنطقة الممتدة من قنتي حتى مدينة الدبة ويمكث في قشابي وكرمكول أكثر من غيرهما دون أن يكون له مكان سكن ثابت وكانت تروي عنه روايات تجعله أشبه بأكثر من شخصية في "ضو البيت" و"المريود" في أسطوريته، كان يشرب شاي الصباح عند صلاة الصبح أينما اتفق في قرية قشابي مثلا، ويشد الناس حميرهم للذهاب للدبة في يوم السوق ويتركونه خلفهم فهو لا يملك حمارا ويسير راجلا، ويصلونها بعد ساعتين تقريبا ليجدوا عطاية الزاهد يحتسى الشاي في أحد مقاهي السوق ومجموعة من الناس يهذرون حوله. وكان يذهب لحضور حفلات الأعراس في الضفة الأخرى للنيل ويعود دون أن تبتل ملابسه! كان في سلوكه كما الزين وفي مظهره كما الحنين واختفى كما اختفى مصطفى سعيد دونما ما يعرف شخص في كل المنطقة إلى أين ذهب. كان له حد "قبلى" وآخر "بحري" لا يتجاوزه ويرد عندما يسأل عن سر عدم تجاوزه لتلك الحدود أن خلف الحدود زهاد كبار يبلعونه إن تجاوز حدود منطقته!
تكاد كل الرسائل التي كتبت ونشرت مؤخرا بعد أن نعى الناعي الطيب صالح تجمع على زهده فلا غرو إن كان شخصية الزاهد هو أقرب الشخصيات إلى نفسه ولعل هذا هو سر حضور عطاية في أكثر من شخصية من شخصيات الروايات. وزهد الطيب صالح مما سارت به الركبان. قابلني ذات يوم في باريس في مناسبة ما الناشر بيير بيرنارد، صاحب دار "سندباد" التي كانت مختصة بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسية وسألني إن كنت أعرف عنوانا للطيب صالح لأنهم قد أرسلوا له شيكا بمبلغ يخصه عن ترجمة موسم الهجرة إلى الشمال وعاد إليهم الشيك وسألني إن كان الطيب صالح يملك أراض وعقارات في السودان تجعله زاهدا في حقه إلى هذا الحد! ولم يفت السيد بيرنار أن يذكر لي عددا من الأسماء المرموقة من الكتاب والروائيين العرب الذين يطالبون بحقوقهم لحظة توقيع العقد ويظلون يلاحقونه بإلحاح إذا تأخر في الدفع. وتكرر السؤال نفسه بعد ذلك بعامين عندما التقاني الروائي الفلسطيني أميل حبيبي في باريس وسألني إن كنت أعرف كيف يمكن أن يصل للطيب صالح لأن الناشر الإسرائيلي الذي تولى ترجمة ونشر موسم الهجرة إلى الشمال إلى العبرية كان يريد أن يدفع له استحقاقه ولم يجد وسيلة لذلك لأنه لا يرد على رسائله التي تصله مع بعض الكتاب وعلمت لاحقا أنه كان قد تعمد عدم استلام حتى "شاقل" واحد من الناشر الإسرائيلي واقترح أن يتبرع الناشر بالمبلغ لمنظمة خيرية فلسطينية فتعذر ذلك على الناشر لأن القوانين الإسرائيلية تعتبر ذلك دعما للإرهاب. ولعل الطيب صالح قد فارق الدنيا وهو لا يدري ما حدث لاستحقاقه من الترجمة العبرية، ولم يكن مهتما بالأمر فهو زاهد في حقوق الترجمات الأخرى التي لا خلاف فيها دعك عن ذاك المال التهمة. وربما كان من المفيد في هذا السياق إعادة حكاية رواها الأخ عبد الوهاب الأفندي مؤخرا تدل على تجنبه مواقع الشبهات. شاهد الأفندي في التلفزيون لقطات من عودة الصحفي السوداني سامي الحاج إلى وطنه وعن حكاية حكاها سامي الحاج عن رؤيا رآها أحد المعتقلين العرب في غوانتامو عن قبر قيل له إنه لوالد الطيب صالح وأن بركات كثيرة ستفيض على السودان من صاحب ذلك القبر المشهود بصلاحه كما قيل لصاحب الرؤيا في منامه. هاتف الأفندي الطيب صالح ليزف له بشرى خبر رويا الخير تلك فكان أول قوله: هذا كل ما أحتاجه، أن يصبح اسمي متداولاً في غوانتامو فيظن بي القوم الظنون!
منذ أن تعرفت على كتابات الطيب صالح وأنا في مدرسة مروى المتوسطة ظللت أعاود قراءتها بين الحين والآخر وكلما مرة أحس فيها بمتعة متجددة وأرى فيها جوانب لم أرها من قبل. كما أن أدب الطيب صالح، كما هو معروف، أدب عالمي تجاوز القرية السودانية على ضفاف النيل التي تجري فيها وقائع القصة على الرغم من كل ذلك فإنني أحس بانتماء واندماج في وقائع القصص كما لو أني كنت جزء منها بسبب انتمائي للمنطقة التي تقع فيها الأحداث تحديدا وكأني معنيا بها بصفة شخصية. من منا لم ير جده في وصف الجد عند الراوي في نخلة على الجدول أو في "الموسم" أو في "المريود". اصطحبت "عرس الزين" ذات يوم وأنا أتوقع انتظار طويل في قاعة إحدى الدوائر الرسمية في وسط باريس قصدتها لإكمال معاملة تتعلق بسيارة. وغرقت مع الراوي وهو على ظهر اللوري عبر الصحراء وتوقفه عند قهوة "أم الحسن" والحوار الذي يدور بين سائق اللوري والركاب. سرحت بعيدا من قلب باريس إلى المرات العديدة التي قمت فيها بتلك الرحلة من أم درمان إلى قشابي وقنتي وغيرهما مرورا بالقبولاب في ذلك الطريق الترابي وقد كان ذلك قبل الطريق المسفلت وسد مروي ومدينة الملتقى. كدت أفرغ من قراءة الرواية وقد طال الانتظار وبعد قضاء المعاملة خرجت ودخلت إلى أقرب محطة مترو قاصدا داري وبعد وصولي إلى داري شاهدت في التلفزيون أن انفجارا هائلا قد وقع في قسم تسجيلات السيارات الذي كنت فيه قبل أقل من نصف ساعة في صحبة عرس الزين والطيب صالح فتذكرت انفجار مطار أورلي وعبارة أحمد عبد المعطي حجازي "يا طيب يا صالح إنت راجل صالح". التقيت بالطيب صالح بعدها بقليل عرضا في مقهى "كمبرون" مكانه المفضل قرب منظمة اليونسكو وهو ينتظر محمد صالح زيادة والطيب مصطفي وعبد الواحد عبد الله وآخرين من أصدقائه فرويت له واقعة الانفجار الثاني في مركز شرطة المرور وكيف أنه وقع بعد أن غادرت المكان بدقائق وذكرته بكلام أحمد عبد المعطي حجازي أثناء السفرة للمغرب وقلت له لقد تأكد لي صلاحك تماما الآن فأنت الزين والحنين وضو البيت وبندر شاه أنت أسطورة! فقال لي بصوته العميق، لا يا شيخ، ألم تقل لي أن جدك هو ود أب دلق المذكور في كتاب الطبقات، خلي بالك جدك دا دائما شايفك! ألا رحم الله الطيب الصالح وسكب على قبره شآبيب مغفرته.
كلمة أخيرة، آمل أن يستهل اتحاد الكتاب السودانيين وغيره من الهيئات مشروعا منذ الآن لجمع كل ما كتب عن هذا الرجل السوداني العظيم في جميع البلدان وبجميع اللغات لينشر بعد عام من الآن عندما يجتمع الناس لإحياء حولية ذلك الرجل الصالح. قال لي أحد الإخوة المغاربة مداعبا، إن أمركم مع الطيب صالح كأمر بني تغلب ولم يزد، ففهمت الإشارة اللئيمة هو أنه كان يعني البيت:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ** قصيدة قالها عمرو بن كلثوم.
وهذا التلميح يجعلنا نطرح السؤال الموضوعي لماذا لمّا تنجب بلادنا بعد غير الطيب صالح ممن هو في قامة الطيب صالح؟
د. أسامه عثمان، نيويورك،