بين بيتر برووك والنصيري

 


 

 

(..في ستينيات القرن العشرين ،كان هناك

عثمان جعفر النصيري الذي درس القانون

وعشق المسرح و"المغنية الصلعاء"

و"جان أنوي" و"مارا- صاد" بيتر فايس،

والثورة الفرنسية و"جان بول مارا")

هاشم محجوب- أديب سوداني

(1)
بين سنوات السبعينات وسنوات الألفية الثالثة، يمتدّ طريق زماني طويل بلغ طوله ثلاثة عقود أوتزيـد. العالم وقتـذاك غير العالم الماثل، والسياسة غيـر السياسة ، غير أنّ التواصل فيما بين سنوات تلك العوالم، لم يكن حاضراً فحسب ، بل كان للتفاعل الثقافي والفني بين الأصقاع التي هنا والأصقاع التي هناك، ثراءٌ لا حدود له . كان متوافراً ومتزامناً وخلاّقاً. حفلتْ سنوات السبعينات التي أحـدّثـك عنها بناقلات الثقافة وتفاعلاتها من أنحاء العالم العربي ، كما من العالم الغربي.
في الخرطوم لا يتعسّر عليك العثور على صحف القاهرة أوبيروت في أكشاك الصحف الصغيرة في ميدان الأمم المتحدة، أو في شارع الجمهورية، أو في شارع القصر، مثلما تجد صحف لندن ومجلاتها في "سـودان بُكشُب"، أو "مكتبة الخرطوم" بجوار فـنـدق فيكتوريا. ذلك قد تراه أمراً عجبا . . ! إذ كيف تأتّى لنا في تلكم السنوات البعيدة ، مثل ذلك التواصل، فيما لم تتوفّر أقمار إصطناعية تجول في السّموات، ولا كان للهواتف النقالة من وجود، إلّا في أرحام الغيب البعيد. لكننا برغم ذلك، قد نعمنا بتواصلٍ ليس في مستواه الأدنى، بل في مستواه الأعلى، كما سأحكي لك هنا. .

(2)
مرّ على السودان رجالٌ نابهون أذكياء، لهم بصرٌ ثاقب وبصيرة حاذقة. مبدعٌ مثل الرّاحل علي المـك ، وقد تولى أمر مؤسّسة السينما ذلك الزمان، لا يقدر المرؤ أن يغفل أفضاله على الثقافة والفنون في البلاد. يتذكّر جيلنا كيف بادر بدعوة الموسيقار اليوناني الأشهر "ثيودوراكيس" ليزور الخرطوم ويشـرّف عاصمة السودان بحضوره ومشاركته افتتاح العرض الأوّل لفـيلـم "زد". وضع ذلك الفنان اليوناني الكبير موسيقى ذلك الفـيـلم . كانت الخرطوم هي العاصمة الأولى التي يعرض فيها في القارة الأفريقية، ذلك الشريط السينمائي المثير للجدل، والجدل جاء من إدانته الصارخة للحكومات العسكرية وفسادها. لك أن تتأمّل كيف كانت الخرطوم وقتذاك، وحكومة مايو نفسها قـد جاءت عبر انقلاب عسكري قائده جعفر نميري . .

(3)
لعلك تعجب ، ولك أن تسأل ما مناسبة هذا الاستطراد حول أمور تتصل بالثقافة والفنون ؟ دعاني لذلك رحيلُ مُخرج بريطاني عظيم هو "بيتر برووك" (1925م- 2022م)، أوائل يوليو هذا العام ، ذلك الذي أثرى ساحات المسرح والسينما في العالم الغربي، ولعلّ أصدق وصف له هو أنه شـيخ المخرجين المسرحيين ، عمراً وألقا.
كُـنّا طلابا في أوائل سنوات الدّراسة في جامعة الخرطوم. في تلك السن الباكرة، لم نكن قد تعوّدنا وقتها على مشاهدة المسرح . سمعنا بجماعة المسرح الجامعي وقتذاك، وفيهم بعض زملاء لنا في الجامعة : شوقي عزالدين. سلمى بابكر. هشام الفيل. محمد آدم عثمان. محمود تميم الدار. مأمون الباقر. أما السّـاحر الكبير فهو طالب في سنواته النهائية في الجامعة، إسمه عثمان جعفر النصيري. .
قام النصيري بإخراج عددٍ من المسرحيات ، انتقاها وأختار من يمثلون أدوار شخصياتها. من أميز ما قـدّم، مسرحية بديعة من إخراج البريطاني المميّز "بيتر برووك" ، وهي مسرحية "مارا- صاد" وكان قد أخرجها "برووك" في عام 1967م ،. . تدور المسرحية والتي اقتبسها "بيتر برووك" للسينما والمسرح، من مسرحية ألفها المسرحي الألماني "بيتـر فايــس"، حول الثورة الفرنسية ومقتل رمز من رموزها "جان بول مارا"، حيث تتداخل وقائع المسرحية حول شخصية "الماركيز دي صاد" الشهير، ذلك الذي ينسب إلى إسمه أعراض مرض السادية، ودوره في تجسيد مقتل "بول مـارا" بتمثيل مسرحي مع عدد من رفقائه في السجن . أخرج الطالب العبقري عثمان النصيري تلكم المسرحية وقدمها بإسم جماعة المسرح الجامعي في قاعة امتحانات جامعة الخرطوم، تلك التي تقع في مدخل مباني جامعة الخرطوم. يزداد عجبك أن تعلم مقدار ذلك التواصل الثقافي والفني الذي حدثتك عنه أوّل سطور مقالي هذا ، فيأتيك في قلب جامعة الخرطوم ومن إخراج طالب جامعي وممثلين من طلاب الجامعة، عملٌ أخرجه أحد كبار المخرجين البريطانيين "بيتر برووك"، عن مسرحية بذات العنوان من تأليف الكاتب المسرحي الألماني "بيتر فايـس". لأمر مثير أن ترى التواصل والتفاعل بين مخرج في لندن هو "بيتر برووك"، ومخرج شاب في الخرطوم هو جعفر النصيري. .

(4)
رحل شيخ المخرجين العالميين البريطاني "بيتر برووك" في مقامه الذي اختاره في باريس، في الثاني من يوليو من عام 2022م ، وعمره أقل من المائة بثلاثة أعوام، وقد قضى أكثر من نصف عمره الإبداعي في فرنسا، مولياً ظهره لمجده الذي ابتناه في لندن ومسارحها ودورها السينمائية . كانت لسنوات الحرب الباردة ، وهي التي تمدّدتْ منذ طيّ صفحات الحرب العالمية الثانية في عام 1945م ، وحتى تفكّك دولة الاتحاد السوفيتي في ديسمبر من عام 1991 ، ألقٌ وتميّزٌ. إنّ لحقبة الحرب الباردة ومن دون كلّ الحقب التي عاشتها البشرية على مدى تاريخها القريب والبعيد ، تميّـزا لا ينكره إلا مكابر. لو أجلتَ البصر ملياً سترى كبار النجوم في الأدب والمسرح والسينما والموسيقى ، لامعة صنوف إبداعهم، تاركين من البصمات ما أعطى قيمة التميَّز للقرن العشرين بكامله، وليس حقبة ما بعد الحرب الثانية وحدها. .
هي حقبة جاءت بعد انطواء صفحات الحربين العالميتين، غير أنها شهدت بعد ذلك مصارعات السياسة وصراعاتها بين الغرب والشرق. الحروب الطاحنة من فيتنام ، إلى هزيمة العرب في يونيو/حزيران 1967. هي حقبة الانقلابات العسكرية بامتياز في العالم الذي نسمّيه مجازا بالعالم الثالث: من سوريا و مصر والعراق والسودان واليمن وسواها من البلدان. لكن لن يكون مقالي هنا عن تجليات السياسة في تلك الحقبة، بل سأعطي قلمي استراحة عن السياسة ، فأكتب هنا عن الثقافة والفن. . ثم عن "بيتر برووك" تحديداً .

(5)
وقفتُ على نبأ رحيل "بيتر برووك" ، شيخ المخرجين السينمائيين والمسرحيين، ذلك الذي سطع نجمه في سنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بل وحتى سبعيناته. هو رقم عرفته المسارح البريطانية ، والفرنسية، مثلما عرفته في السينما .
كتبت وزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبدالملك (مواليد 1979)، وهي من أصول لبنانية ، أنّ "بيتر برووك" أهدى جمهوره أجمل صمت ، غير أن الصمت ألأخير الذي رحل فيه برووك، يبقى الأشد حزناً . كلمات رائعات من وزيرة نابهة في حق مخرج شيخ بلغ عمره ما يزيد عن ضعف عمر الوزيرة الشـابة. رحل "برووك" وقد ترك إرثا إبداعياً ب مقدّراً ، ويشكّل رحيل مبدعٍ مثله فراغاً يصعب ملؤه. إن الحقبة المميّزة أعطتْ البشرية رموزاً لها الصيت المستحق فقد تركوا لنا بصمات الخلود، كلٌّ بما أبدع في مجاله. ذلك نفر من المبدعين كان لهم السهم الأكبر في صياغة إنسان ما بعد الحربين ، وأعطوا حقبة الحرب الباردة لونا إيجابيا خلاقا.. .

شغلتْ سنوات الستينات والسبعينات، رموزٌ أحدثتْ تحوّلات في الإخراج المسرحي والسينمائي ، منهم "بيتر برووك" ومسرحيون كبار مثل جون أوزبورن بيتر فايس وهنري ميللر ويوجين أونيسكو وسـواهم . نعدّ بينهم جان بول سارتر ، فهو فيلسوف وأيضاً كاتب مسرحي حاذق. هم من تركوا بصماتهم في حقبة الحرب الباردة ، وانشغلوا يما يمور في الساحات السياسية ، ولكنهم كانوا الأكثر انشغالا باستنطاق روح تلك الحقبة فكانوا مبدعين عباقرة .
كان "بيتر برووك" مسرحيّا تجريبيا ومخرجاً سينمائيا مميّزا ، وقد أنجز في عام 1963م فيلم "أمير الذباب" عن قصة الروائي البريطاني "وليام جولدنغ" الحائز على جائزة نوبل في الأدب . له من المنجزات في المسرح الشيكسبيري، مثلما له مبادرات في أطروحة المسرح الشامل ، ثم نرصد عكوفه على التجريب في تيار "مسرح القسوة" . قناعاته بالتجديد دفعته إلى باريس ، فكأنّ لندن التي أعطته الشهرة في بداياته، لم تتحمل مجازفاته الابداعية تلك.

(6)
إذا أمعنت النظر في سنوات حقبة الحرب الباردة، لن يرتدّ بصرك حسيرا ، إذ ستبين لك تجلياتٌ، دافيءٌ أثـرها في الأدب والفنون والفلسفة ومجمل الحراك الإبداعي، خاصة في العالم الغربي ، الذي خرج بمآسـيه وجراحاته بعد سنوات الحرب العالميتين الأولى والثانية. أسماء برزت نجوميتها في سنوات القرن العشرين . جان بول سارتر . همنجواي وفولكنر. فراسوا ساغان وصاموئيل بيكيت . ت.س. إليوت وسيمون دي بوفوار. جون شتاينبك وويليام جولدنغ. كولن ويلسُـن وجونتر غراس هناك في المانيا. كثر لا أحصيهم لك هنا. عناوين الشرائط السينمائية وحدها تحـدّثك عن التحوّلات الدافئة خلال تلكم السنوات في الفن السينمائي. إليا كازان . سبيلبيرغ وسواهم في الولايات المتحدة . في السينما الفرنسية يقف "شابرول" ويبهرك "كلود لولوش" ويدهشك "غودار" وأضرابهم. في بر يطانيا كبار قادوا التحوّل فيهم "بيتر بروك" و "جون أوزبورن" وسواهمكما أشرنا . في السينما سيستوقـفـك من المخرجين الانجليز الفريد هيتشكوك وريدلي وتشارلي شابلن . ومن الممثلين شون كونري . مايكل كين ، أنطوني هوبكنز. ثم تسمع في ستينات تلك الحقبة مطربين ذاع لهم صيت وتركوا بصمات في الغناء والموسيقى العالمية. تهزك موسيقى البوّاق المعجب لوي آرمسترونق ، وليس بعيداً عنه فرانك سيناترا . أما ظاهرة الفيس بريسلي فتلك أسطورة على حالها من أساطير عديدة. إني أستمهلك لتقف على مثل هؤلاء. سترى أسطورة البوب مايكل جاكسون ، والموسيقيّ القتيل "لينون" عضو فرقة الخنافس"البيتلز" ، ثم هناك الأسطورة بوب مارلي. كثر ُ يصعب أن تعدهم.

(7)

مهلاً. . ألا يثير هذا الدفءُ في عقود حقبة الحرب الباردة ، تساؤلا حول تلك الصّفات المجازية التي نطلقها بلغة المناخات والنشرات الجوية : برداً وحرّاً ودفئاً، فيما لا نكاد نلحظ تبايناتها وتناقضاتها. .؟

هذه حقبة الإبـداع الخـلّاق الدافيء، وليس حقيقاً أن نقول عنها حقبة التصارع البارد، أو حقبة الحرب الباردة . .

ما قصدتُ أن أحدّث هنا ، إلا عن "بيتر بروك" وليس سواه. هو بطل من أبطال حقبة الدفء الإبداعي لا مراء. وقـد تلاحظ أنّي ما لامستُ ظواهر وتجليات إبداعية في بعض أنحاء العالم الثالث ، فما كان لبلدانه من دور ملاحظ أو مشاهد في الحقبة الباردة، أو الدافئة- إذا قبلت توصيفي لثرائها في الإبداع. . كانت بلداننا في الأغلب، قعوداً في مقاعد "الترسـو". بين الفاعل والمفعول والمؤثر والمتأثر، بونٌ شاسع من استعمار وكولونيالية واستغلال. لحراك الإبداع في بلداننا تململٌ في أرحام حقبة الحرب الباردة، لا يكاد يحسّ به الغرب، إلا في سنوات الدفء الأخيرة. . لو نظرتَ سترى نهوض الإبداع العربي والأفريقي، تخرج أصواته همسا . طه حسين وتوفيق الحكيم نجيب محفوظ، والأخير ما قـدّرت "نوبل" إبداعه إلا وهو على عتبات أرذل العمر .

في القارة السّمراء، ستجد قلم النيجيري "شينوا أشيبي" في الرواية، وأقلام سنغور و"روباديري" في الشعر الأفريقي. وفي العربية أمير لشعراء شوقي وحافظ ابراهيم عبدالمعطي حجازي ومحمود درويش وعبدالصبور وأصرابهم . في السّودان محمد المهدي مجذوب والعباسي والتني والناصر وأضرابهم ، ثم من جاء بعدهم محمد عبدالحي والفيتوري، ومحمد المكي ابراهيم وعمرعبدالماجد وصلاح ابراهيم وعلي عبدالقيوم وأبو ذكرى. .
إنّي وقـد أردتُ أن أنعي حقبة الحرب الباردة، وقد رحل أكثر نجومها صيتاً في الغرب، لكني وجدتها الحقبة الأوفر دفـئـاً والأكثر إبداعـاً، إذ المكابدات والصراعات والحروبات، هي المصهرة التي خرج من معاناتها الإبداع بشتى ألوانه، خاصّة عند الشعوب التي طحنتها نيران الحروب العالمية .

(8)

رحل عمدة شيوخ المخرجين في العالم الغربي "بيتر برووك"، وهو نفحة من نفحات الإبـداع الدافيء في عالم المسرح والسينما. أما المبدع المسرحي المتعدّد المواهب عثمان النصيري، فما أعمق بصره وما أذكى تفاعله ، فقد سمع بمسارح لندن ونهضة فنونها قبل أن يسكنها ويقيم فيها. نحن جيل أوائل السبعينات في جامعة الخرطوم ، جيل عثمان النصيري، أمير جماعة المسرح الجامعي ومن مؤسسيه الكبار، فقد أخذ بيـدنا وكأننا في حلم، إلى مراقي الفنون بتنوّعها ، وطوّفنا معه في سموات الإبداع على بساط الريح ، في زمان لم نعرف فيه الانترنت ولا الهواتف الجولة ولا الفضائيات. . لكنه أخذ بيدنا فكأنا كنا في "كوفنت جاردن"، أو في مسارح لندن الأجمل إظهاراً والأشمل تنوّعاً والأعمق فكرا.

عثمان النصيري .. أنت في القلب مقيـم ، وإنْ أخذتك منا المهاجر، ولكنك الأقدر على الإبداع أينما تكون، فيأتي منك دافئاً ، فأنت ابن حقبة الإبـداع الدافيء . سيبقى فضل جهدك في التنوير بأدب المسـرح وفنونه ، مـجداً له بريق ، إذ لم يتهيّب إقدامك تلك التجارب العالمية الخلّاقة، واختراقاتها الفنية ، فعرَّفتنا على "بيتر فايس" و"أونسكو" و "بيتر برووك"، فما أجملـك. .

الخرطوم في 14/7/2022

jamalim@yahoo.com

 

آراء