بين ثورة في 1964 وانقلاب في 2021: هل من سبيل للتفاؤل؟ (2-2)

 


 

 

ترامت أخبار غير مبشرة عن مصير التحول الثوري للديمقراطية بينما يـتأهب صف الثورة في السودان للاحتفال بذكرى ثورة 21 أكتوبر 1964 والتنديد بانقلاب 25 أكتوبر 2021. ونوه أهل الرأي بمقال لماكس فيشر، الصحفي بالنيويورك تايمز، خلص فيه إلى الانسداد التدريجي لفرص ذلك التحول عن طريق الثورة بناء على قاعدة بيانات عن مصائر الثورات تتوافر جامعة هارفارد على نشرها. ولاحظت بأسف أن فيشر قال بفشل الثورات في تغيير الأنظمة القابضة واستثني ثورة سيريلانكا وغض الطرف عن ثورة ديسمبر السودانية بينما ذكرها في جوانب إخفاق أعقبت قضاءها على نظام الرئيس المخلوع البشير.

نجد فيشر وغير فيشر يرد فشل الثورات عن زحزحة النظم القابضة إلى ما سماه "الاستبداد المرقمن" وهذا عجيب. فكانت الوسائط الاجتماعية المرقمنة ربما هي التفسير الراجح لاستثارة الثورات ونجاح بعضها في الربيع العربي مثلاً. فكيف انقلبت هذه الوسائط لتكون آفة الثورات وسبب هلاكها

فمن ضمن أسباب عددها لفشل الثورات جراء الاستبداد المرقمن جاء فيشر بمكر النظام القديم في ضخ إعلام يشكك في قوام الاحتجاج وغزارته. فيظل يوحي للجمهور بخلو المحتجين من الدعم الجماهيري الحاسم الذي يؤهلهم للحكم.

ولم يكن بوسع نظام الإنقاذ في السودان الإيحاء بضآلة حجم جمهور الثورة وهي في حالة الهجوم عليه لأن الأرقام كانت تحدث عن نفسها. ولكن ما جاءت قوى الحرية والتغيير لكرسي الحكم ومتاعبها فيه حتى كانت أكثر حجج النظام القديم ذيوعاً عنها أنها أحزاب قلة لا سبب لها لتزعم تمثيل الشعب جميعاً. فقالوا عنها في معرض الإزراء بقلة نفرها إن الحزب منها لا يملأ حافلة ركاب في خط المواصلات. وسموهم "أربعة طويلة" إشارة إلى أنهم عصابة من أربعة أحزاب صغيرة. و"طويلة" من اسم عصابة للنهب، هي "تسعة طويلة"، طفت على السطح بعد الثورة وروعت الناس. فنجح النظام القديم بالوسائط في الخصم من غزارة الحراك الثوري بل وبذر الخلاف بين أطرافه بعد نجاحه في الإطاحة به لا قبلها.

ويربط فيشر بين الوسائط الاجتماعية وفشل الهبات الشعبية دون الإطاحة بالحاكم القوي. فقال إن هذه الوسائط مكنت الناشطين من بناء هياكل تنظيماتهم والتواصل مع الشعب لإطلاق عنان الاحتجاج. ولكن نجاح الثورة في التغيير في رأيه رهين بوجود بنية تحتية تقليدية كالحزب السياسي أو الجبهة لها قدرة البقاء في وجه عسف النظام القديم سقط أو لم يسقط، ولينمي الضبط والربط بين أطراف الحراك، ولتنعقد به سلسلة القيادة فيكون لها زمام إدارة استراتيجية التغيير. فيمكن لبوست واحد في الوسائط الاجتماعية أن يذيع بين الناس ويحشد الآلاف بليل. ولكن حركة التغيير بالوسائط، الموصوفة بخلوها من قيادة معلومة، ذات عمر افتراضي يتربص بها النظام القديم فيشققها ويجعلها كعصف مأكول. فالاحتجاج في الشارع واحد من أدوات حملات تغيير ما بالناس. ولكن للتغيير رافعات أخرى لا نجاح للتغيير إلا بها في المفاوضات، وعقد التحالفات مع أطراف شعبية غير التي في الميدان، واستنفار التضامن الإقليمي والعالمي للحراك.

ومما أقعد بثورة ديسمبر دون بناء البنية التحتية التقليدية التي وصفناها الإسفين المدقوق، في قول فيشر، بين الصفوة والجمهور. فاعتزل كثير من الناس الليبرالية لأنها مجرد حلبة لنخب متصارعة حول عقائدها ومشروعاتها. وآية ذلك سوء ظنهم المقيم في الصفوة. وتمثل هذا الخصام في ثورة ديسمبر في الجفوة التي قامت بين لجان المقاومة، التي سادت في الشارع إلى يومنا هذا، وبين الأحزاب السياسية التي مثلتها في مفاوضات قيام الحكومة الانتقالية مع العسكريين. وكانت سارت بين شباب السودانيين عبارة موروثة من الدكتور منصور خالد، المفكر والسياسي، وهي "فشل الصفوة وإدمان الفشل". فاعتزلت لجان المقاومة الصفوة الحزبية فصارت طاقة احتجاج عظيم بلا نافذة لتشكيل السياسات في الدولة التي أوجدوها من عدم. واستدبرت أحزاب الصفوة لجان المقاومة فصارت جنرالات بلا جيش.

ولاحت، من الجهة الأخرى، نذر شؤم عن مآل الديمقراطية في عالم اليوم. وستلبد هذه النذر الواقفين عند ذكرى ثورة أكتوبر 1964 وانقلاب 25 أكتوبر. فكانت أكتوبر عن استرداد الديمقراطية من نظام ديكتاتوري وكان انقلاب 25 أكتوبر ردة عن طريق التحول الديمقراطي. ومن هذه النذر إحصائيات عن معهد دم-في قالت عن انكماش رقعة البلاد الديمقراطية في العالم (13% من سكان العالم) بينما غطت الأوتوقراطيات (الانتخابية والمغلقة) الباقين.

ولعل أفجع هذه النذر قاطبة لمصير الانتقال الديمقراطي في السودان هو لجلجة أمريكا حول ما تريده للديمقراطية في العالم. فما نشره ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية منذ 2003، في الفورين آفيرز مؤخراً "مو بشارة" كما نقول في السودان. فخلافاً لما تذيع أمريكا عن جعلها الديمقراطية أسبقية في سياستها الخارجية إلا أن هاس، والعالم على الصراعات التي تكتنفه، طلب حتى ألا تعرض أمريكا للصراع في أوكرانيا كصراع بين الاستبداد والديمقراطية. فهاس لا يريد للناس أن ترى أمريكا خارجة لتغيير العالم أو تجاهله. وقال إن الاستراتيجية الأوفق هي أن تمتن أمريكا الديمقراطية في بلدها ولا تحفل بأشياء أخرى. وهي نظرية غَلّبت ضبط النظام العالمي على نشر الديمقراطية.

مما قد يدعو ليأس الثوريين احتفالهم بثورة وقعت منذ نحو ستين عاماً مقرونا بوقفة عند انقلاب على ثورة مثلها للديمقراطية حدثت منذ ثلاث سنوات. ومما قد يضاعف من هذا اليأس أن ما جئنا به عن التغيير السياسي والديمقراطية في العالم المنفلت لا يدعو للتفاؤل لطالبهما. ولكن هذا الطالب ربما وجد العزاء في استماتته عند مطلوبه. لم يفت تطاول الزمن وتوالي النكسات من عضد عزائمه.

 

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء