بين فيروس الكورونا وفيروس الاستبداد

 


 

 

تذهلنا طبيعة جائحة الكورونا بقدرتها الفائقة على المناورة والتحوّر، فلا يكاد أيّ لقاح يُنتج في الشرق أو في الغرب، أن يقهـر تلك الجائحة أو يحاصر بفعالية قدراتها على التمدّد والانتشار.
كلما أمعنّا النظر في أحوال بعض دول العالم الثالث، ونرصد تكاثر محاولات انقلاباته العسكرية، وخاصة في القارة الأفريقية، تقـفـز إلى الخاطر حال دول العالم، بعد أن اجتاحتها جائحة الكورونا وفيروسها القاتل هذه الساعة . ثمّة مقاربة لا تغيب عن نظر المتابع، بين فيروس تلك الجائحة التي تستهدف مناعة البشر بصورة جماعية ، فإنّ "فيروس الطغيان" هو الذي يستهدف الشعوب بصورة جماعية أيضاً، بقصد إجهاض تطلّعات تلك الشعوب نحو الحرية والديمقراطية والحكم الرشيد. .
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً، فلننظر لأمثلة صارخة في القارة الأفريقية، غربها وشرقها ووسطها . أكتب هنا وفي ذهني جال السودان وثورة شعبه الذي ، عانى الأمرّين في مصارعة من تصيّـدوا ثورته من جنرالات ينوون فرض وصاية أبوية لشباب ثائر، ويدّعون قيادة مسيرة البلاد نحو الديمقراطية. غير أن الشارع السوداني يتشكك في تلك النوايا وتلك المزاعم، ويراها محاولات لبناء نظام إستبدادي ، لا يختلف عن نظام الطاغية "البشـير" الذي أسقطته الثورة السودانية منذ أبريل 2019.
لكن ليس السودان وحده الذي غرق في أزماته حتى طمع جنرالاته في فرض الوصاية على حراكه الثوري، ومسيرته نحو تحقيق الحرية والديمقراطية. هنالك جنرالات وشبه جنرالات طامعون في السيطرة على شعوبهم في أنحاء قارة أفريقيا والشرق الأوسط وحتى تخوم قارة آسيا. ثمّة طامعون تمدّدوا في تـشـاد وفي مالـي وفي غينيا، وموخراً في الصومال، دع عنـك أزمات ليبيا وسوريا وتونس وبورما وفينزويلا والتشيلي وسواهم. إنها جائحة سياسية تتناسل بوتيرة عالية في أنحاء العالم الثالث وفي بلدانه الهشّة. .
واهـمٌ من ظنّ أنّ تقليعة الإنقلابات العسكرية التي شاعتْ في سنوات الحرب الباردة أواسـط القرن العشرين ، قد ولّى زمانها . ليس ذلك هو الحال . إنّ فيروس الاستبداد، فيما نرى، قد حوّر نفسه بأكثر مما حوّرت جائحة الكورونا نفسها ، فلا تكاد تفلح مختلف اللقاحات في محاصرة هجماتها الكاسحة التي تستهدف بالقهر القضاء على الحرية والكرامة الإنسانية.
لو نظرنا لموجات الربيع العربي التي اجتاحتْ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ عام 2011م وما تلاها من سنوات، سنرى انتفاضات ذلك "الرييع السياسي" وقـد اعتراها تراجع، بلْ نكوصٌ بيّـن. وجاز لنا أن نرجّح ، أنّ تراكم تجارب تلك الشعوب في مقارعة الاستبداد، فد ماثله تراكمٌ في تجارب حالات الطغيان ، فتكوّنت له مناعة ، تمثلت في اكتساب نُخـبِ العسكريين وأشباههم من الطامعين في بلدانهم ، قدراتٍ متجدّدة في المناورة، وصرامة ضاربة في السيطرة على شعوبهم وفي تدجين معارضيهم . في الذي نراه في الحالة السودانية ، فإنّ جنرالات المكوّن العسكري يناورون بتبنّي طروحات الثورة السودانية ومسيرتها نحـو الحرية والديمقراطية. النظام العسكري الذي بطبيعته لن يكون إلا استبدادياً وشمولياً ، يعجز أن يقنع الشارع السوداني بإدعاءاته النية نحو تحقيق قيام انتخابات وترسيخ حكم ديمقراطي في البلاد، فيما تتواصل التظاهرات لمزاعم الجنرالات تلك..
الراجح أن فيروس الاستبداد لن يقف على الحالة السودانية وحدها ، ولن يفلح بالطبع من يدّعي سلمية ثورته التي أذهلتْ العالم، أمام البطش المُمنهج من قبل جنرالات جيش بلادهم، وهم من كسبوا تجارب ثرية خلال حكم الطاغية "البشير"، في البطش بمعارضيه بمثلما فعل في دارفور . من يصرّونّ على معارضة نوايا أولئك الجنرالات في السودان، ستغلق الجسور أمام مسيراتهم، ويُلاحقون بالغاز المسيل للدموع، ويُضربون بالهروات وبالرّصاص الحيّ ، وقبل ذلك كله وبعده ، تُحجب عنهم شبكات الاتصالات والتواصل الاجتماعي والهواتف الذكية وغير الذكية، فلا يعرف من بالداخل أو بالخارج ما يفعله الجنرالات بشعبهم من بطش مفرط وعنف بالغ .
لكن ثمّة عوامل تتفاعل في الخارج، يحسب جنرالات السودان، أنها سـتصبّ لصالحهم ولن تقف في طريق تنفيذ خططهم ، حتى لو مضوا قُدماً لابتناء نظامٍ إستبداديٍّ مانعٍ، ليكون امتداداً لنظام الطاغية الذي أسقطه السودانيون الغاضبون ، قبل ثلاثة أعوام.
أهمّ عامل في تقديري يقوّى فيروس النظم الاستبدادية، ويطيل من أعمار مناعتها ، سيتصل حتماً بمصالح أولئك الأقوياء الطامعين، وبما يخفون من أجندات وما يظهرون من نوايا خادعة. عليه فإنْ أقدم جنرالات السودان لتقديم تنازلات ، ليس لشباب بلادهم الثائر، بل للأقوياء في الخارج ، فهم يحسبون أن الأقوياء سيغضون أبصارهم عن تجاوزاتهم، ويظفرون برضاهم فيستدام الاستبداد. ذلك ما فعله "البشير" رئيس السودان السابق الذي تسلّط على السودان ثلاثين عاماً، بعد قبوله بالركوع أمام أجندات القوى الخارجية. قدّم الرّجل ملفات استخباراتية تحتاجها الولايات المتحدة عن "بن لادن" ، وأيضاً ملفات استخباراتية عن "كارلوس" تحتاجها فرنسا، وتبرّع بكلّ ما لديه من معلومات عن الإرهاب الدولي في إقليمه ، فلم ينفعه كلُّ ذلك . لقد استنفد الرّجل كلّ فرص استدامة نظامه الإستبدادي، ولم يجد في نهاية الأمر من يقف مسانداً له في طغيانه السافر، فانتهى به الأمر حبيساً وراء قضبان سجون بلاده. لم يقل مصيره البائس، عن مصير "بينوشيه" الذي حكم "التشيلي" بالقهر والاستبداد، ثمّ مات ملاحقاً منبوذا.
لعلنا لو نظرنا لخلفية انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، وتركهم شعب تلك البلاد لقمة سائغة لقوى "طالبان" الأفغانية ، والتي جاءت القوات الأمريكية نفسها لمحاربتها، لأدركنا مدى تعلّق الأقوياءِ بمصالحهم بالخصم على المباديء التي يتشدقون بحمايتها. .

خلاصة الأمر أن فيروس الاستبداد، لن تكتب له استدامة إلى أبد الدهر ، بل أنّ فيروس الطغيان لن يعيش طويلاً، إذ الشعوب قادرة على إفراز لقاحات تتعزّز عبر إرادتها الصلبة ، وتصميمها القادر على تحقيق تطلعاتها لتحقيق الحرية والديمقراطية ، وإنْ طالتْ مسيرات
المواجهات من جهة ، أوتحـوّرت طبيعة الاستبداد من جهة أخرى.
بمثلما ستدحر اللقاحات آخر الأمر جائحة الكورونا، فإنّ للطغيان نهاياته المحتومة، إذا خلصتْ النوايا وقويتْ إرادة الشعوب لنحقيق تطلعاتها نحو اسـتدامة حقوقها في الحياة الكريمة. .

الخرطوم – 29/12/2021

jamalim@yahoo.com
/////////////////////////

 

آراء