جوته والإفادة من تكنيك السرد في “ألف ليلة وليلة” والتناص معها

 


 

 

مدخل:
"الحكيم الحقيقي أندر من الشاعر الحقيقي، وإذا اجتمعت الملكتان: ملكة الحكمة وملكة الشعر في إنسان، فإننا نحصل على الشاعر العظيم. والشعراء الذين على هذه الشاكلة لا ينتمون إلى بلدانهم وحسب بل إلى العالم أجمع..، وقد كان جوته واحداً من أحكم الرجال وكان شاعرا غنائيا عظيما..، دانتي وشكسبير وجوته، أعظم الشعراء في لغاتهم".
ت. س. إليوت، من مقاله: (جوته حكيماً)1955.
*
يقول المستشرق البريطاني المعروف، هميلتون جِبّ، أستاذ الأدب واللغة العربية بجامعتي لندن واكسفورد: "وربما كان أفضل ما أسدته الآداب الإسلامية، لآداب القرون الوسطى أنها أثرت بثقافتها العربية وفكرها العربي، في شعر القرون الوسطى ونثرها، سواء كانت المواد التي أخذت عن المصادر العربية، ظاهرة أو غير ظاهرة". ص 190
ثم يضيف في ذات البحث:" ومهما يكن مقدار ما للشعر العربي من فضل في إثارة العبقرية الشعرية في الشعوب الرومانية الجنوبية، فإن ما تدين به أوربا في العصور الوسطى للنثر العربي لا يكاد يكون موضع جدل". ص 176
ويعدد جِبّ الكثير من القصص الفرنسية والأسبانية والألمانية والدنماركية والإنجليزية باسمائها وهي قصص مركزية في تراث أممها، ويقول هذه القصص إما أنها من أصل عربي أو ظهرت نتيجة للتأثيرات العربية.
وأما عن تأثير قصص (ألف ليلة وليلة) في الآداب الأوربية، فيقول جِبّ: "لسنا مبالغين إن قلنا إن قصص ألف ليلة وليلة، قد هدت كُتّاب الشعب إلى الباب الذي كانوا يبحثون عنه، أو قلنا إنه لولاها لما عرف الناس قصة روبنسن كروزو، أو ربما لم يعرفوا كذلك قصة رحلات جولفر". ص202
بل حتى القصة الحديثة أو الرواية novel في أوربا فنجد بدايتها كما يقول جِبّ متأثرة بالتراث العربي الأندلسي. "فسرفانتيس Servantes نفسه كان مديناً للثقافة الأندلسية وقصته دون كيخوته Don Quixoto كما صرح بريسكوت أندلسية بحتة فيما يظهر فيها من لباقة وفطنة. وقد تأثر بالثقافة الأندلسية غير سرفانتيس عدد من رجال الأدب الأسباني لا يكادون يقلون عنه أهمية".
وهنا لا بد لكاتب هذه السطور أن يشير إلى ما ظل يردده الروائي العالمي جابرئيل غارسيا ماركيز في أحاديثه ومذكراته عن الإثر العميق الذي تركته "ألف ليلة وليلة" في تشكيل وجدانه كروائي.
ولعل ما أطلقوا عليه "الواقعية السحرية" في أدب أمريكا اللايتينة، يعود في تقديري، إلى استلهام هؤلاء الكتاب لروح السرد في حكايات "ألف ليلة وليلة". وهنا يجب ألا ننسى أن التراث الثقافي لهؤلاء الكُتّاب هو في أساسه ذو أصول أسبانية أندلسية.
وهكذا كان حريا برجل في مكانة وحكمة جوته، آمن بوحدة التراث البشري، وعمل على ترسيخ "فكرة الأدب العالمي" (بالمعنى الانسانوي لا بالمعنى العولمي، لإيمانه بوحدة التجربة البشرية) من استلهام هذا الأثر العالمي الخالد أسلوبا ومضموناً أعماله الأدبية المتنوعة. فالثابت وباعلانه هو من تلقاء نفسه أنه أفاد فائدة جذرية من حكايات (ألف ليلة وليلة) في العديد من أشعاره ورواياته ومسرحياته، لا من حيث الأسلوب والتنكيك والحكبة وحسب، بل ومن حيث المضامين أيضاً على النحو الذي يأـتي بيانه.
تقول كاتارينا مومزن الباحثة القديرة، وأستاذة الأدب الألماني في الجامعات الأمريكية، والمختصصة في أدب جوته، إن جوته كان يكثر من الحديث في رسائله ومذكراته اليومية والمنقولة عن هذا السفر الأدبي "الذي هو ملك للعالم العربي لا من حيث اللغة، وحسب بل من حيث المحتوى أيضا، إذا إن الكثير من أجزائه، على أقل، تقدير مستقى من مصادر عربية". مومزن ص 24.
فقد كان جوته، كما تقول، شديد الشغف بأحاديث "شهر زاد" في حكايات ألف ليلة وليلة التي سمعها من والدته ووجدته في أيام طفولته المبكرة ولم التي تمح من ذاكرته أبداً. لذا ظل يستدعي ويستلهم "شهر زاد" في الكثير من أشعاره ويعبر على لسانها عن بواعث معينة ويلبسها أدوارأ وأفعالاً مختلفة. وكثيرا ما كان جوته يقارن نفسه بصفته شاعرا وروائيا، بشهر زاد، وكان يقول ذلك بوعي تام وبصورة مستمرة.
وترد كاتارينا مومزن، الجدة التي لاحظها الدراسون في أسلوب روايات جوته وحاروا في تفسيرها، إلى تأثر جوته بأسلوب السرد في حكايات ألف ليلة وليلة. فمثلاً إهمال البناء الشكلي في رواية (سنوات تجوال فلهم مايستر) سببه بحسب اعتراف جوته نفسه أنه كان ينهج نهج شهر زاد في اتباع طريقة تقوم على سرد "أقاصيص مختلفة" بصورة "متداخلة" وتقديمها في "باقة زهور متشابكة".
وكذلك هدت (الف ليلة وليلة) جوته إلى طريقة الكتابة في رواية (سنوات التجوال) فقد استلهم فيها "طريقة السلطانة شهر زاد" في الحكي. ص 24-25
فقد كان يرى أن جوهر السرد وروعته يكمنان فيما يسببانه "من حب استطلاع" قد "يستثار إلى حد جامح" ومن ثم ينبغي على القاص ان يسعى إلى "تعليق السرد للإسثارة" وشد السامع "بكل الأساليب الفنية" الممكنة.
وقد انتهج جوته هذا الأسلوب في مؤلفه (أحاديث مهاجرين ألمان) فنشره على شكل مسلسل مستلهما بذلك بصورة متعمدة "أسلوب ألف ليلة وليلة" حيث "يتشابك الحدث مع الحدث الآخر، ويُنسى الاهتمام بالحدث الآخر".
وهو الأسلوب نفسه الذي اتبعه جوته في الكتب التي تناول فيها سيرته الذاتية وبخاصة كتابه (شعر وحقيقة) وكتابه (الرحلة الإيطالية) وكان جوته يصف هذه الكتب بـ" الألف ليلة وليلة العجيبة في حياتي". ص26
لم يقتصر تأثر جوته بالف ليلة وليلة بالبناء الشكلي وحسب بل استلهم بالقدر ذاته وفي الكثير من الحالات مادة وموضوعات ملموسة من هذا السفر العربي.
وتشهد على هذا الاستلهام أعمال أدبية دبجها في مراحل حياته كافة ابتداء من عمله الدرامي المبكر (نزوة العاشق) وانتهاء بآخر أعماله وهو القسم الثاني من (فاوست). فكان يستعير جزئيات ومفردات مميزة وموضوعات وشخوصاً معينة معبرة، كما كان يستمد موضوعات أساسية (موتيفات) أو شخصيات تعينه على إضفاء جو سحري على بعض أجزاء نتاجه الأدبي. مومزن ص26
ففي مسرحيته (نزوة العاشق) استعار لبطلة المسرحية اسماً من إحدى قصص ألف ليلة وليلة وهو الاسم العربي (أمينة) ولكنه لم يكتف بذلك بل استعار كذلك المعالم الكلية لهذه الشخصية التي تلاحقها الغير ليتطابق المغزى المسرحية مع المغزى الذي انطوت عليه القصة الواردة في ألف ليلة وليلة حيث يدفع رجل الندم ثمناً لغيرته وشكه وسلوكه الأناني الفظ. مومزون ص27
والأمر نفسه ينطبق على حكاية جوته (باريس الجديد) ومؤلفه (ميلوسينة الجديدة) كما ينطبق على القصة الخرافية التي وردت بمؤلفه (أحاديث مهاجرين ألمان).
وأما في رواية (سنوات تجوال فلهم مايستر) يؤمي جوته بصورة واضحة إلى قصتي علاء الدين والمصباح السحري، وقصة حلاق بغداد بألف ليلة وليلة.
كذلك في روايته (الأنساب المختارة) استعان جوته بقصة أبو الحسن وشمس النهار، مثلما أفاد في روايته (الأقصوصة) من حكاية الأمير أحمد والجنية باريبانو، من كتاب ألف ليلة وليلة. ص 27
ومن أكثر الأمور إثارة للدهشة تلك الآثار التي تركتها الف ليلة وليلة في القسم الثاني من (فاوست) إذ توجد مشاهد كبيرة تحاكي حكايات شهر زاد. فقد اتاحت قراءة جوته لكتاب الف ليلة وليلة كما تقول كاتارينا مومزن، الفرصة لإيجاد الحلول لمشكلات فنية كانت في غاية التعقيد وا لأشكال.
فمن أجل تبيان الطريق الذي يوصل فاوست إلى هلينيا استخدم الشاعر الأسلوب الذي سردت به أقاصيص الف ليلة وليلة، الطريق الطويل الموصل إلى كسب ود أميرة من الجن تعيش في عالم ناء. وفي "ليلة الفالبورج الكلاسيكية" يمر الطريق عبر بلاد الجن وتتخلله مشاهد لقاء بالجن عديدة وغير ذلك من المواقف المشابهة.
كما ان لقاء فاوست بهيلينيا ومشاهد احتفائه بها وزواجه منها وكذلك موضوع القصر في العالم السفلي كل هذا غدت ىصياغته الشعرية طوع بنان جوته حينما لجأ إلى استخدام بعض السمات والمعالم من الحكايات الشرقية.
ويوجد كذلك بالفصل الأول من القسم الثاني من (فاوست) الكثير الكثير من المؤثرات التي تعود أصولها إلى ألف ليلة وليلة. فهناك مثلاً موضوع استخراج الكنز المدفون في باطن الأرض وموضوع المناظر السرية العديدة التي رافقت تنكر الأشباح وحكاية (تسويلر– تيرزيتس) وما جاء يها من صراع بشأن استحضار الأشباح وأوهام الحريق الكبير وكذلك موضوع الهيمنة على البحار وما شابه ذلك. مومزن ص 28
وفي نهاية الفصل الخاص بالمناظر السحرية التي رافقت تنكر الأشباح في (فاوست) نجد جوته يثني على ألف ليلية وليلة ويشيد بشهر زاد وذلك على لسان القيصر وهو يثني على مفيستوفليس الشخصية المسؤولة عن امتاع القيصر وتسليته، إذ قال في مشهد (حديقة السرور) البيت رقم 6031 وما بعده:

أي حظ طيب هذا الذي قادك إلى هنا،
مباشرة من ألف ليلة وليلة؟
لو استطعت أن تتشبه بشهر زاد في خصوبة عطاياها
لوعدتك وعدا صادقا بأثمن الهدايا
تأهب على الدوام (لتسليتي)
فما أكثر ما تبتليني أيام دنياكم
بأعظم الكروب والمنغصات.

مصادر ومراجع:
1- جِبّ، الأدب، من كتاب: تراث الإسلام، ترجمة لجنة الجامعيين، القاهرة، طبعة 1983، (صدر الكتاب بالإنجليزية سنة 1931 عن جامعة أكسفورد: Legacy of Islam، وشارك فيه عدد من المستشرقين، ونُقل إلى العربية في الطبعة الأولى سنة 1936 عن اللجنة الجامعية للتأليف والترجمة والنشر بالقاهرة. وأعاد المركز القومي للترجمة بالقاهرة طباعته سنة 2007).
2- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، ترجمة عدنان عباس، مراجعة د. عبد الغفار مكاوي، سلسلة عالم المعرفة، رقم 194، الكويت، فبراير 1995
3- عبد الغفار مكاوي، جوته: النور والفراشة- مع النص الكامل للديوان الشرقي للشاعر الغربي، ترجمة وتقديم، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2006.
4- المختار من نقد ت. س. إليوت، الجزء الثاني، اختيار وترجمة وتقديم: ماهر شفيق فريد، تصدير جابر عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000

عبد المنعم عجب الفَيا
20 يناير 2023

abusara21@gmail.com

 

آراء