بَوحٌ في ذكرى دكتور أحمد شامي
تجِفُ الأرضُ من هذا الرَّبابِ .. وَيَخْلُقُ مَا كَساها مِنْ ثيابِ
وَما ينفَكُّ مِنكَ الدّهر رطباً .. وَلا ينفَّكّ غَيثُكَ في انسِكابِ
تُسايِرُكَ السَّواري والغَوَادي .. مُسايرةَ الأحِباء الطِّرَاب
أبو الطيب المتنبي
(1)
في ضُحى 26 ديسمبر 1988 صعدت الوديعة إلى صاحبها .وفي الذكرى الرابعة والعشرين لرحيله له رسالة نكتبها بماء العصر ، لتتجول في أرجاء الكون وتستحضر جلسةً للأرواح المتفرقة التي عرفته منذ طفولته وشبابه ،حين تلتقي بعضها تحت دوحة المحبة ، فالوفاء خصلةٌ ،لعن الله من جفّفها . لنُعِد لذاك الزمان البعيد وَهجه ، لتُشرق البسمة من بين تلال الحزن فتتألق الإنسانية الجديدة وتتراقص أنجُمها على البحار التي نَسْبَحُ في مائها السِحري. ندخل مجدها و عوالمها المتغيرة مع الزمان . نتحسس ورقة المشاعر التي تُهذب النفوس ، وتليِّن وَحْشتها . نترُك الغليظ من الطباع إلى غير رجعة ، لتشُف القلوب رهافة بنبض الدماء فيها ووَقْع العواطف النبيلة السامية في ترقِّيها .
لسنا وحدنا الذين يقيمون تلك المحافل في آداب الرحيل ، وخطرات المراثي . ونحن نفتح السيرة لأنها لا تخصنا وحدنا . ففي بطون أرض الوطن مزرعةٌ للنفوس الكِبار التي تعبت في مُرادها الأجسادُ . ولصاحب الملف نفسٌ من تلك النفوس . فميراث جيناته تهتزّ فرحاً عندما يتحين هو فرصةً ليُسعِد الآخرين .كان سفيراً للنوايا الحَسنة دون أن يتوِّجه أحد. أنبتت سِفارته ثمارها الحلوة هنا وهناك .
(2)
آخر يوم التقينا بمنزله ، لنودعه قبل سفره للخليج . تناولنا طعام العشاء معه ،من بعد أشهُر من خريف غضب النيل العظيم عام 1988 ، حين هدم النيل بيوت الفقراء على ضفافه والسيول استعادت مجاريها القديمة ، لا تعبأ بمنْ حولها .وخرّب الفيضان المزارع وضرب بأجنحة عُقابه الماشية التي كانت قريبة للشواطئ أو بقرب مجاري السيول . بُخار صدر النيل الغاضب وقد انفجر مرة أخرى. وكانت الغضبة السابقة عام 1946 التي أرّخ لها الشاعر المبدع " أحمد محمد الشيخ – الجاغريو " وكتب :
البَحَر السَطيتْ غيرَكْ مَافي ذكْـــرَى
كَشَّفتَ العَرايضْ العَجوزْ والبِكْــرَة
وهَدّمتَ القِصورْ
الخَوْلي النَشيطْ صَارْ ما عِندُه فِكْــرة
وأصْبَحْ سَاهي حَايرْ وَالتْ عَقْلهُ سَكْرة
والأفْكارْ تَدورْ
مَا هَماكْ حَالُنْ ما فيش ليكَ شَكْــرَة
زَمّلوا لى رحَالُنْ عِرفوكْ نَاوي مَكـرة
خايضين للصدورْ
مَاكِر جيتنا سَايرْ ليلكْ كُلهُ تَسْـــرَى
دَمرتَ البَشايرْ وإتْعوضنَا حَسْــــرَه
وتَيَارَكْ يَفُورْ
كُلمَا تشوفْ زِراعهَ عَليها أخدْتَ كَسْرَة
تَنْهضْ لى صُرَاعَه كَاتِلْ ليكَ مَسْـــرَة
حُكمَكْ كُلهُ جُورْ
(3)
هذا هو النيل سليل الفراديس عندما تتجمع السيول من فوق الهضاب العالية، تُلملم أشتاتها ، تتهلف لحضنه حين تهبط. تعرف مجاريها القديمة ، فيفيض النيل حنيناً ، تتمايل أعطافه ...ونحسبه غضباً .
سمع صفيّنا " أحمد " بأخبار غضبة النيل أو حنينه خريف عام 1988 وكان حينها بعيداً عن الوطن . وما كانت الدنيا حينذاك بهذه الضخامة الإعلامية الكونية ، فجهزِّ قبل عودته للوطن صيدلية كاملة لعلاج أوباء الخريف . حَزَمها في حقيبة سفر ضخمة تُعين الذين هم بلا نصير . سافر بها أحد أعمامه من أم درمان إلى"تنقاسي" . غوث حُر، يلحق بمنْ فرّ من الأهالي للتلال العالية ينتظرون الفرج . تلك كانت أهم أسباب عودته في عطلته الاضطرارية الأخيرة ، قبل عودته الأخيرة داخل الصندوق الخشبي بجلاله ليزرع نفسه في أرض الوطن .
(4)
عودتنا يده الممدودة بالخير في صمت ، أن تجوب الفيافي ، لا تفرق بين الناس . لما نزل نحاول اكتشاف بعض الخيوط من ضياء شموس أفعاله التي لا يحيط بها أحد إلا مصادفة. أسرار بقيت مطمورة في نفوس الذين فرّج كربهم بما استطاع في حياته القصيرة الحافلة . أنفس متفرقة في أرجاء الوطن وخارجه ،لما تزل تدعو أن يرزقه المولى بقدر ما مسح من أدمعٍ ، وشفا من وهنٍ وأثلج من صدور .
(5)
كنتُ برفقة "ابن عمر" و"عبد الرافع" و" محمود ". ثلة من أصدقاء العُمر. عند المساء ذهبنا لوداعه بعد انقضاء عطلته تلك. تسامرنا إلى منتصف الليل ونحن بمنزل أسرته بمدينة الثورة بأم درمان.في النفوس انفعالات وقد انتظم عقدنا حيناً من الدهر، آن له أن يتعلم قسوة الفراق، فسفره كان موعده الغد . قال ممازحاً وكان هو الأعزب الوحيد بيننا :
- ( ربما أتزوج فالوالدة تُلحّ في السؤال ) .
خلطنا الجدّ بالمزاح ، فوعده يكتبه دائماً على " رمل الطريق " الذي تمحوه الرياح .
السَفر من الخرطوم إلى الخليج يستغرق ثلاثة ساعات ونصف الساعة بالطائرة . فالعاصمة تبدو للمسافرين عنها أجمل. فأيام الديمقراطية لا يحجرون على أحد بسبب الرأي .ويبتئس القادم إليها بسبب ضعف الخدمات ،ولكن حلاوة لقاء الأهل والأصدقاء وأوجههم الصبوحة ورائحة التُراب العالق في الجو يمنحُكَ تياراً من كهرباء العاطفة والحنين، تجعلك تفرح حين تكون في الأرض التي أنجبتَك وبين الأهل والأصدقاء الذين جَمَّلوا عُمرك بالدفء.
(6)
اجتمعنا ذات يوم "بمبارك الحاج" وهو أحد أفراد حزمة الأصدقاء الذين لم يكونوا بيننا أيام الفقد العظيم . قَدِم من المملكة السعودية بعد سنتين من غيبة " أحمد " الكُبرى ، وهو لا يعلم بخبر الرحيل.التقينا برفقة " ابن عمر" . جلسنا في غرفة الضيافة في بيت شقيقه الراحل " حسن محمد الحاج " ،نذكر أيام صفانا ونتسامر . وقلتُ له في زحام الترحاب وسؤال الأحوال :
- أتذكر يوم توديع ابن عمر قبل أن يسافر إلى جامعة ليدز بيوم ؟
قال :
- نعم ... وأذكر التسجيل الصوتي ، وختام أغانينا نُلون بها حفيف الشجر ، الذي يحركه النسيم في الساعات الأولى من ذلك الليل الصباحي. وأذكر صوت "أحمد" يقول في الختام : ( أنتم سادتي آخر رواد المكان ، ولا نادل يخدمكم .. ) .
قلت وأنا أحاول أن أكون مُتماسكاً :
- نعم كُنا جميعاً في ليل الخامس من سبتمبر 1973 ،وإلى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي . لكن ،... دارت الدُنيا علينا سيدي.كان للقاطرة الرمادية أن يغادرها حبيب منا . لن نلقاه ، ولن تلقاه أنت أيضاً .
وَجمَ مبارك وجحظت عيناه . قلقٌ وخوفٌ ورُعب .وبدأ يُعدد حضور تلك الأمسية ، وعندما هبط طائر الحزن على اسم " أحمد " وكان آخر الأسماء ، غطى " مبارك "وجهه بكفيه وأجهش بالبكاء .أطرقنا في وُجوم وقطرات الدمع المِلْحِي تُغسل المحاجر . قبض "ابن عُمر "على يدي برفق ، وقال لي " نتركه برهة ، فالدمع يعيد للنفس توازنها .
(7)
قال لي " مبارك الحاج "، حين جاء عابراً القارات من بعد ذلك بسنوات ،حين التقينا في محطة من محطات المهاجر ، وكانت قد مضت ثلاثة وعشرين عاماً على رحيل " أحمد ":
- الوطن الذي صار مزرعة لأحمد ، لن يحوز مكانته في المحبة أي وطن آخر ، مهما كسبنا بالحفر في دروب المهاجر . أنت تعلم أنني لا أستبدل السودان وطناً . ولا كندا الباردة التي علَّمت أطفالنا ،يمكنها أن تحوز مرتبة الوطن الأول .كان " أحمد " جوهرة عِقدنا الذي انفرط ،وتفرقنا. تشتتت حبات العقد على أرجاء الكون من السودان إلى كندا وبولندا والإمارات ...
(8)
نعلم أن العُمر كتابٌ لن تنقضي عجائبه . لا النرد يروي ظمَأك بالنبوءات ، ولا طينة الأسى تبرح مقامنا ، إلا لتُحيل دُنيانا الصاخبة إلى حجرٍ جُلمود ، قد يَتشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء في مُقبل الأيام .لم تكُن مشاعر المحبة بين الأصدقاء خيط وهمٍ أو عُشرة سنين تمضي أو جُرعة دمٍ نسكُبها وتنقضي أو أغطية نزيحها عن أجسادنا عندما يأتي الصباح .تلك حجارة ثقيلة نزلت على طين النفوس وصلصالها ، أعادت تشكيلها قبل أن تتصلب قرميداً بنار التاريخ . فلا ننزع أنفسنا من ذكراها إلا لتأتينا بشائرها صبح كل يوم جديد يُطلّ. وحق علينا ألا نأسى على ماضٍ تولى، بل نهلل بمقدم تلك الجروح ونخيط في نول ذكراها أفراحاً جديدة .
لن نعيد المحاجر إلى الملح والدموع مرة أخرى ، فالشهد عصير حلو نستحلبه من أثداء الذكرى . قصة طويلة ساقها العُمر .لم تكُن خطوات مشيناها كُتبت علينا وينته الأمر ، بل جُرحٌ نابتٌ نستظل بشجره من هجير الزمان عندما يكشِّر أنيابه .لم نزل نتحسس أثر نتوءات لا تَبْرَى .لم نستكمل خطاوينا ، ولم نجد الدواء الشافي ، غير أن نُحيل العويل القادم من بئر الزمان إلى فرح نقيم له السرادقات ، ونزيّن مكانه في النفس بالثريات ، وعلى ورق الحوائط نستعيد سمْته النبيل .
(9)
لا أعرف لِمَ طاف بذهني قصة عتاب رباني ورد في الذكر الحكيم يخاطب فئة من الناس في زمان بعيد :
{...قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ...}البقرة91.
لم يفعلها يهود الزمن الغابر وحدهم ، ولا الفن السابع بقادر أن يصنع لنا حياة مثل التي كانت برفقته، فكانت المنيَّة عندنا هي التي تقتُل. لا نعرف عدواً لنا مثلها شراسة عندما تُنشب أظفارها وتهزم حساباتنا في التَقيَّة والحِرص . صوت " أحمد " لما يزل رنينه ندياً كحليب الفجر من أثداء الأبقار ساخناً ،حين يودِّع الليل ظلماته في الأرياف .
بلّور الندى في روعة المشهد في المكان ، غير قابل أن يمحوه الزمان .وما الفاجعة في عناصرها الأولية إلا أسورة فضية مُجوَّفة ، يُشاغب رنينها المسامع ، كحُجول الجدَّات في أول القرن الماضي،يضربن بأرجلهُنَّ ليبدين زينة تُحرك مشاعر الذين دفنهم التاريخ في حضن التُراب وتبقت الذكرى الطيبة .
عبد الله الشقليني
6/12/2012
abdallashiglini@hotmail.com