تأريخ الصراع والعلاقات بين السودان ومصر 32 ق م -7 م (3)

 


 

 

ahmed.elyas@gmail.com

 

1     عصر الولاة 7 – 9 م

تناولت الحلقتان الماضيتان تاريخ الصراع والعلاقات بين السودان ومصر في عصر الفراعنة والمرحلة الأولى من فترة الحكام الأجانب في مصر حتى الفتح العربي في القرن السابع الميلادي. وتتناول هذه الحلقة تاريخ الصراع والعلاقات بين البلدين من المرحلة الثانية لفترة الحكام الأجانب لمصر من القرن السابع وحتى القرن العشرين الميلادي. وتشمل عصر الولاة وعصور الأسر المستقلة بحكم مصر

مقدمة

وأرى قبل الشروع في تناول أحداث هذه الفترة ضرورة التوقف قليلاً لمراجعة فهمنا للبداية المبكرة لعلاقة السودان بالمسلمين في مصر، لأن فهمنا لتلك العلاقات في فترتها المبكرة يسوده الكثير من الاضطراب وعدم الدقة والوضوح. ويرجع ذلك بصورة رئيسة إلى سببين:

السبب الأول: يعود إلى الخلط وعدم الوضوح في المقصود من كلمة النوبة ومملكتهم في نصوص المصادر العربية التي تناولت حروب المسلمين المبكرة في جنوب مصر تحت مسمى النوبة. فمن هم أولئك النوبة؟

النوبة مفهوم واسع يختلف باختلاف العصور والمصادر. فالمصادر اليونانية والرومانية أطلقت اسم النوبة (Nubae) في القرون السابقة للميلاد والقرون الميلادية المبكرة على سكان شمال كردفان وشمال دارفور الحاليتين. (Strabo, Geography, Book xvii, p7) كما أطلقت المصادر اليونانية أيضاً اسم النوبة (Nubaei) على سكان بعض المناطق الشرقية للنيل (بليني، التاريخ الطبيعي، في سامية بشير دفع الله ص 70) الذين ربما كانت مواطنهم على النيل الأزرق (سامية بشر دفع الله ص 70)

وأطلقت المصادر الرومانية اسم النوباديين (Nubadae) على سكان مناطق الصحراء الغربية للنيل جنوب مصر والذين استقدمهم الرومان عام 296 م للاستقرار على النيل جنوب أسوان. (Mac Michael, Vol. 1, p 24: Arkell, p178; Milne, p 99; ونتر، ص 2)

وأطلقت المصادر الاثيوبية اسم النوبة Noba على قطاعات كبيرة من سكان مملكة مروي، يقول عنهم عيزانا في نقشه: "حاربتهم على نهر تكازى [نهر عطبرة] ... وأحرقت مدنهم المشيدة بالقصب والمشيدة بالطوب، وأخذت طعامهم وحديدهم ونحاسهم، وحطمت التماثيل في معابدهم وخربت مخازنهم وقطنهم، وألقيت بكل ذلك في النيل ... ووصل جيشي إلى حدود النوبة الحمر وهزموهم" (Arkell, p 122) هذا بعض ما جاء في وصف عيزانا عن النوبة.(تفاصيل ذلك في أحمد الياس حسين، السودان الوعي بالذات ج 1 صفحات 165 – 194، أحمد الياس حسين، مراجعات، صفحات 84 - 91)

وأما كلمة النوبة في المصادر العربية فلها دلالات متعددة وقد ناقشت ذلك بالتفصيل في الجزء الثاني من كتاب السودان: الوعي بالذات (صفحات 157 - 162) وفي كتاب مراجعات (صفحات 91 – 97) ويكفي هنا الإشارة إلى أن المصادر العربية أحياناً تطلق لفظ النوبة على سكان مملكة مريس (نوباديا) ومملكة مقرة ومملكة علوة، وأحيانا أخرى تحصر اسم النوبة على سكان مملكة مريس فقط. يقول ابن سليم الأسواني "أعلم أن النوبة ومقرة جنسان بلسانين كلاهما على النيل، فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام، وبين أوّل بلدهم، وبين أسوان خمسة أميال" (ابن سليم ص 89) وأتى نفس المعنى عند المسعودي (مروج ج ص 18) والجاحظ (مسعد ص 405)

فالنوبة هنا هم المريس المجاورون لأرض الإسلام" وتمتد حدود مريس جنوباً إلى الشلال الثالث. (ابن سليم ص 89) ولذلك عندما دخل المسلمون مصر كانت هنالك ثلاث ممالك على النيل وهي مملكة مريس تجاور حدود مصر الجنوبية، وتمتد حدودها إلى الشلال الثالث وعاصمتها بجراش (فرس) ثم تليها جنوباً بعد الشلال الثالث مملكة مقرة وعاصمتها دنقلة، (ابن سليم ص 92 - 96) ثم مملكة علوة وعاصمتها سوبة. "سوبة’ تكتب في أغلب المصادر العربية المبكرة بالتاء المربوطة)

فمن هم النوبة المريس على حدود مصر الجنوبية؟ أجاب على ذلك المسعودي بقوله:

" كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما افتتح عمرو بن العاص مصر كتب إليه بمحاربة النوبة، فغزاهم المسلمون، فوجدوهم يرمون الحدق وأبى عمرو بن العاص أن يصالحهم، حتى صرف عن مصر، ووليها عبد اللّه بن سعد، فصالحهم على رؤوس من السبي معلومة، مما يسبي هذا الملك المدعو بملك مريس المجاور للمسلمين من غيرهم من ممالك النوبة وغيرها من أرض النوبة المقدم ذكرها فيما سلف من صدر هذا الباب". (المسعودي، مروج الذهب ج 2 ص21)

فالمسعودي وضح أن النوبة هم سكان مملكة مريس الذين حاربهم عبد الله بن سعد وصالحهم على دفع السبي، وهو الصلح المشهور باسم "معاهدة البقط" فأين وقعت حرب عبد الله بن سعد مع النوبة سكان مملكة مريس؟ يوضح ذلك ابن حوقل حيث يقول:

"أسوان افتتحها عبد الله ابن أبي سرح سنة إحدى وثلاثين، وافتتح هيف وهي المدينة التي تجاه أسوان من غربي النيل، وقد تدعى قرية الشقاق، وافتتح ابلاق وهي مدينة في وسط النيل على حجر ثابتة وسط الماء منيعة الجزيرة وبينها وبين أسوان ستة أميال، وبحذائها على النيل من جهة الشرق مسجد الرّوينيّ وقصر آليه، وتحت المسجد بيعة النوبة، وهو آخر حد الإسلام وأول حد النوبة." (ابن حوقل، صورة الأرض ص 55)

فحروب عبد الله بن سعد كانت مع ملك مريس كما ذكر المسعودي الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، ووقعت تلك الحروب في منطقة أسوان كما ذكر ابن حوقل الذي عاش في القرن العاشر الميلادي بخلاف ما ذكره المقريزي -الذي عاش في القرن الخامس عشر-أن المسلمين حاربوا ملك النوبة في دنقلة. فالخطأ الواضح في فهمنا لعلاقة المسلمين المبكرة مع السودان هو اعتمادنا فقط على ما ذكره المقريزي باعتباره حقيقة مسلم بها ونتجاهل ما ذكره المسعودي وابن حوقل.

السبب الثاني: في اضطراب فهمنا لأحداث العلاقات المبكرة بين السودان والمسلمين في مصر هو أن فهمنا لهذه الفترة تأسس على حدث واحد وهو معركة عبد الله بن سعد عام 31 هـ 641 م باعتبارها المعركة الفاصلة بين المسلمين والنوبة من جانب، وبارتباطها في أذهاننا من جانب آخر بمعاهدة البقط التي نعتقد خطأً أنها تعتبر بداية دخول العرب في السودان وأنها وجهت العلاقات بين السودان والمسلمين في مصر في القرون التالية، بينما تناولت المصادر العربية عدد كبير من المعارك والمراجعات والتعديلات المتتالية للاتفاقيات والمعاهدات كما سيتضح فيما يلي.

ذكر المقريزي: "وأوّل ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص، لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين في عشرين ألفاً، فمكث بها زماناً، فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمر رضي الله عنه، نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد، وكثرت سراياهم إلى الصعيد، فأخربوا، وأفسدوا، فغزاهم مرّة ثانية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين." (المقريزي، المواعظ في مسعد ص 300)

روى البلاذري عن شيخ من حمير قال: شهدت النوبة مرتين في ولاية عمر بن الخطاب، فلم أر قوما أحد في حرب منهم ... فدخلت خيولهم أرض النوبة كما تدخل صوائف الروم، فلقى المسلمون بالنوبة قتالاً شديداً ... فانصرفوا بجراحات كثيرة وحدق مفقوءة، فسموا رماة الحدق. فلم يزالوا على ذلك حتى ولى مصر عبد الله بن سعد بن أبى سرح" (فتوح البلدان، ص 236 ، 238)

صوائف الروم يعني بها غزوات المسلين من الشام على دولة بيزنطة المعروفة في المصادر العربية بدولة الروم في منطقة تركيا الحالية. وكان المسلمون يغيرون عليها مرتين في السنة مرة في الصيف ومرة في الشتاء. ويعني ذلك أن المسلمين كانوا دائمي الحروب مع النوبة منذ دخولهم مصر عام 641 وحتى عام 651م.

وجاء عند ابن عبد الحكم "اقتتلوا قتالاً شديداً وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج وأبي شَمِر أبرهة وحَيويل بن ناشرة فيومئذ سموا رماة الحدق، فهادنهم عبد الله بين سعد إذ لم يطقهم" (ابن عبد الحكم، ص2)

وهكذا وقعت عدد من المعارك بين المسلمين والنوبة كما هو واضح في النصوص أعلاه، ويذكر نص ابن عبد الحكم أعلاه أن عبد الله بن سعد صالحهم إذ لم يطقهم. ويعني ذلك أن عبد الله بن سعد لم ينتصر عليهم وأن ملكهم لم يبد "ضعفاً ومسكنة وتواضعاً" كما جاء في نص المقريزي. كما يفهم من نص المقريزي أيضاً أن عبد الله بن سعد كان قد وقع صلحاُ مع النوبة في إمارة عمرو بن العاص أي قبل أن يتولى ولاية مصر وقبل موقعة عام 31 هـ التي اقترنت بمعاهدة البقط. فهل وقع عبد الله بن سعد صلحين مع النوبة؟ وكيف كانت شروط الصلح الأول؟ ولماذا نتجاهل كل ذلك؟

من الواضح أن المسلمون خاضوا عددا من المعارك قبل معركة عبد الله بن سعد الأخيرة عام 31 هـ 651 م، ثم خاضوا عددا من المعارك مع مملكة مقرة في القرون التالية كما يتضح من الجداول أرقام 1 و2 و3.

وكما انحصرت معرفتنا للعلاقات بين المسلمين في مصر وبين السودان على نص اتفاق واحد بين هو النص المشهور بمعاهدة البقط كما ذكرها المقريزي بينما توجد في المصادر العربية لتلك المعاهدة او الصلح عدد كبير من النصوص. فقد تتبعت نصوص هذه الاتفاقية في 12 مصدرًا وجدت نحو 40 نصا لذلك الاتفاق والتعديلات التي جرت عليه، وقد ذكر المقريزي نفسه ثمانية نصوص لذلك الاتفاق وتعديلاته (أنظر نصوص اتفاقيات المسلمين وممالك السودان في ملحق الفصل الرابع من الجزء الثالث من كتاب السودان: الوعي بالذات وتأصيل) وفي الجدول رقم 1 سبع إشارات لمراجعة وتعديلات المعاهدات بين مملكة مقرة وولاة مصر. ومع كل ذلك فإننا نرجع الى نص المقريزي فقط نستدل به ونوثق به كل ابحاثنا متجاهلين الكم الهائل من النصوص الأخرى.

وأخيراً فإن اضطراب فهمنا للعلاقات المبكرة بين المسلمين والسودان وعدم دقة ذلك الفهم وما ترتب عليه من مسلمات غير سليمة يرجع في الأساس إلى اعتمادنا على نتائج معركة واحدة وصلح أو معاهدة واحدة مع عبد الله بن سعد عام 31 هـ 651م.

أحداث العلاقات بين السودان ومصر 7 - 20 م

يمكن تناول هذه الفترة تحت المراحل التالية:

  1. المرحلة الأولى فترة حكم الولاة في مصر بين القرنين 7 – 9 الميلاديين، وهي الفترة الممتدة من بداية فتح مصر حتى قيام الأسر التي استقلت بالحكم. أحداث هذه الفترة في الجدول رقم 1.

  2. المرحلة الثانية فترة الأسر التي استقلت بحكم مصر بين القرنين 9 – 20 وسأتناول في البداية الأسر التي حكمت بين القرنين 9 – 13 الميلاديين وكونت دولها المحلية عندما فقدت الخلافة في بغداد سلطتها المركزية على الولايات في القرن التاسع الميلادي، مع اعتراف تلك الدول بالسلطة الاسمية للخلافة العباسية وهي: الدولة الطولونية والدولة الإخشيدية، ثم الأسرة الفاطمية التي أسست الخلافة الفاطمية. ثم عادت مصر إلى دائرة الخلافة العباسية اللامركزية في عهد الدولة الأيوبية. أحداث هذه الفترة في الجدول رقم 2.  

  3. فترة حكم المماليك بين القرنين 13 – 16 ثم فترة الحكم العثماني بين القرنين 16 – 20 الميلاديين.

وقد أخذت الجداول الموضحة لهذه الموضوعات من الجزء الثالث من كتابي "السودان الوعي بالذات وتأصيل الهوية" مع القليل من التعديل. وسيجد القارء الكريم تفاصيل أحداث هذه الجداول في الكتاب.

عصر الولاة القرن 7 – 9 م

يبدأ عصر الولاة في مصر ببداية فتحها في القرن السابع الميلادي، وقد بدأت العلاقات بين السودان ومصر مبكرا منذ دخول جيش المسلمين مصر. فقد انفرد الواقدي برواية استنجاد البيزنطيين بملكي النوبة والبجة، وذكر أن كليهما استجاب وأرسلا جيشين كبيرين لمساعدة البيزنطيين إبان حصار المسلمين لمدينة البهنسا. (فتوح الشام ج 2 ص 60) ولم تشر المصادر العربية الأخرى لهذه الرواية.

وبدأت بين السودان ومصر مباشرة بعد انتصار المسلمين على البيزنطيين، فقد ذكر البلاذري أن عمرو بن العاص لما فتح مصر بعث "إلى القرى التي حولها الخيل ليطأهم. فبعث عقبة بن نافع الفهرى، وكان نافع أخا العاص لامه. فدخلت خيولهم أرض النوبة كما تدخل صوائف الروم (البلاذري ص 238)

ثم توالت المعرك بين المسلمين والنوبة يغير كل منهما على الطرف الآخر حتى تولى عبد الله بن سعد إمارة مصر، وخاض المسلمون المعركة المشهورة التي انفرد المقريزي بوصفها حيث ذكر أن جيوش المسلمين حاصرت مدينة دنقلة عام 31 هـ / 641 م ورموهم بالمنجنيق الذي لم تكن النوبة تعرفه " وخسف بهم كنيستهم بحجر، فبهرهم ذلك، وطلب ملكهم واسمه: قليدروث الصلح، وخرج إلى عبد الله وأبدى ضعفاً ومسكنة وتواضعاً، فتلقاه عبد الله ورفعه وقرّبه، ثم قرر الصلح معه على ثلاثمائة وستين رأساً في كل سنة. (المقريزي، المواعظ في مسعد ص 300)

ويلاحظ أن نص المقريزي الذي اقتطفنا جزءاً منه أعلاه لم يرد في كل المصادر العربية الأخرى. وتوجد في تلك المصادر العربية نحو 35 روايات أخر من روايات صلح عبد الله بن سعد لا تشبه هذه الرواية لا في محتواها ولا في حجمها (نصوص الروايات في ملحق الفصل الرابع من الجزء الثالث من كتاب السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية)

ولم تشر المصادر العربية إلى العلاقات بين المسلمين والنوبة بعد معركة عام 31 هـ / 651 م وحتى مستهل القرن الثامن الميلادي حيث تناولت المصادر مراجعة والي عبد العزيز بن مروان لاتفاقية عبد الله بن سعد، إذ وجد من بين بنودها تقديم المسلمين الخمر للنوبة مقابل الرقيق، فاعترض على ذلك. فقد تضمنت كل نصوص صلح عبد الله بن سعد التي رواها الرواة المبكرين ودونتها كتب الفتوح والتاريخ منذ القرن التاسع الميلادي تضمنت كل تلك المصادر التزام المسلمين بدفع المقابل للرقيق مثل روايات ابن عبد الحكم البلاذري والطبري والمقريزي والنويري وابن الأثير وابن الفرات. ومن أمثلة هذه الروايات:

  1. ذكر الطبري (ص 36) على النوبة: "هدية عدة رؤوس منهم يؤدونهم إلى المسلمين في كل سنة، ويُهدى إليهم المسلمون في كل سنة طعاماً مسمى وكسوة من نحو ذلك."

  2. وأورد ابن خرداذبة (ص 34) رواية جاء فيها: "صالحهم على ثلاثمائة رأس هدية، ليست بجزية ولا خراج، ولهم على المسلمين العوض على الموادعة، وهم أصحاب الزرافة التي تهدى إلى الخلفاء."

  3. ذكر ابن الأثير (ص 168) أن عبد الله بن سعد: "صالحهم على هدية عدة رؤوس في كل سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كل سنة طعام. وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده ولاة الأمور"

  4. ذكر كل من النويري (ص 222) وابن الفرات (258) رواية جاء فيها: "نعطيهم شيئاً من قمح وعدس ويعطونا رقيقاً، ولا بأس بما يشترى من رقيقهم"

  5. ذكر ابن خرداذبة (ص 34) أن عبد الله بن سعد: "صالحهم على ثلاثمائة رأس هدية ليست بجزية ولا خراج. ولهم على المسلمين العوض على الموادعة"

بينما أتت الرواية التي ذكرت الرقيق فقط بدون عوض عند المسعودي والمقريزي.

وكان عدم التزام الطرفين ببنود الصلح التي تشترط دفع الرقيق بالمقابل من أهم أسباب الحروب التي نشبت كثيراً بين ولاة مصر ومملكة مقرة بعد ضمها لمملكة نوباديا نحو مستهل القرن الثامن الميلادي. كما كانت الخلافات بين المسلمين والأقباط في مصر تؤدي في كثير من الأحيان إلى تدخل مملكة مقرة عسكرياً للدفاع عن الأقباط.

وقد ذكرت المصادر أن مملكة مقرة لم تدفع ما تقرر عليها من الرقيق لأربعة عشر عاما فأنذرهم الخليفة العباسي المعتصم بالحرب ان لم يدفعوا ذلك. فأرسل ملك مقرة زكريا الثاني الذي حكم 822 – 872 م كما في قائمة مصطفى محمد مسعد أو 822 – 856 كما في قائمة مونرو Munro-Hay (أنظر قوائم الملوك في الملحق رقم 3 الفصل الثالث من كتاب السودان: الوعي بالذات) أرسل ابنه وولي عهده الأمير جورج لمقابلة الخليفة العباسي في بغداد.

وتناولت مفاوضات الأمير جورج في بغداد أموراً متعددة، ووجدت مطالبه القبول من الخليفة. ووافق على إعفائهم مما كان عليهم من البقط، وجعل دفعه مرة كل ثلاث سنوات بدلاً من كل سنة، وأجرى لهم في ديوان مصر عند وصول البقط سبعمائة دينار وأشياء أخرى. وكتب له الخليفة كتاباً بذلك بقي في يد النوبة كما عبر المقريزي. وافق الخليفة على إطلاق سراح المقُرّيين المحبوسين في مصر. ووهب له الدار التي نزل بها في بغداد، وأمر بشراء دار له في كل منزل ينزله على الطريق لتكون دوراً لرسلهم. وكان الأمير قد امتنع عن دخول دار أيّ أحدِ في طريقه. (ابن المقفع ص 85 والمقريزي ص 305).

فهنا لدينا اتفاق جديد مع مملكة مقرة يعدل اتفاق عبد الله بن سعد تعديلا شاملاً، وموثق بكتاب من الخليفة العباسي ومع ذلك فنحن لا نرجع إليه، بل لا ترد الإشارة إليه في كل كتبنا الدراسية وفي أغلب الدراسات التي تتناول علاقة المسلمين بمملكة مقرة حتى أصبح نص اتفاق عبد الله بن سعد الذي ألغته التعديلات والمراجعات المتعددة كما يتضح في الجدول رقم 1 هو المرجع الوحيد في كتاباتنا التاريخية.

وكما اتسمت معرفتنا بالعلاقات بين مملكتي نوباديا ومقرة بالاضطراب وعدم الدقة تبدو كذلك عدم العناية بأحداث العلاقات بين البجة والمسلمين في مصر. فقد بدأت علاقة البجة قبل اكتمال الفتح العربي لمصر عندما طلب منهم البيزنطيين مساعدتهم في تصديهم لجيش المسلمين. فقد ذكر الواقدي (فتوح الشام ج 2 ص 60) أن البجة أرسلوا جيشاُ كبيراً لمساعدة البيزنطيين أثناء حصار المسلمين لمدينة البهنسا. ثم عقد المأمون مع البجة صلح شبيه بالصلح الذي وقع مع مملكة نوباديا.

ولم أجد في المصادر العربية ما يؤيد هذه الرواية ولكن بوركهارت -ونقل عنه بدج -أشار إلى هذا الحدث. وذكر أنه وجد في تاريخ مدينة البهنسا [Oxernchus في صعيد مصر] وصول جيش كبير من البجة والنوباديين بقيادة مكسوج ملك البجة وغالٍك ملك النوباديين لنجدة المسيحيين الذين حاصرهم المسلمون في مدينة البهنسا، وبلغ عددهم 50000 جندي ومعهم 1300 فيل. ووصف الجنود على الأفيال وسلاحهم بنفس وصف الواقدي" وأضاف بوركهارت أن وصول جيش البجة تؤيده سلسلة من الأدلة الموثوق بها. (Burkhardt, Vol. 2 f. n. 63 p 528; Bugge, Vol. 2 p 184)  

بدأ أول اتصال بين البجة والمسلمين في مصر منذ عصر عبد الله بن سعد، فقد ذكر ابن حوقل: "فإن عبد الله بن أبي سرح لما فتح مدينة أسوان وكانت مدينة قديمة أزلية، وكان عبر إليها من الحجاز قهر جميع من كان بالصعيد وبها من فراعنة البجة وغيرهم" فربما كان المقصود بفراعنة البجة هنا البليميين الذين رأينا أنه كان لهم وجود في صعيد مصر. (ابن حوقل، صورة الأرض ص 55)

وربما المقصود بالبجة هنا هم المِجا سكان المناطق الواقعة شرقي أسوان، لأن ابن عبد الحكم ذكر عند حديثه عن حملة عبد الله بن أبي سرح على مملكة نوباديا: "فتجمع له في انصرافه على شاطئ النيل البجة، فسأل عنهم فأخبر بمكانهم فهان عليه أمرهم فنفذ وتركهم، ولم يكن لهم عقد ولا صلح، وأول من صالحهم عبيد الله بن الحبحاب." (ابن عبد الحكم، ص 10)

ولم يوضح ابن عبد الحكم أو المصادر الأخرى الأحداث التي أدت إلى هذا صلح عبيد الله بن الحبحاب. ويبدو أنه حدثت مواجهة بين البجة والمسلمين قد تكون انتهت بحرب أو بدون حرب ووقع الطرفان فيها هذا الصلح. وذكر ابن عبد الحكم:

"ويزعم بعض المشائخ أنه قرأ في كتاب ابن الحبحاب فإذا فيه: ثلاثمائة بكر كل عام حتى ينزلوا الريف تجاراً مجتازين غير مقيمين، على أن لا يقتلوا مسلماً ولا ذمياً فإن قتلوه فلا عهد لهم، ولا يؤوا عبيد المسلمين، وأن يردوا أباقهم إذا وقعوا، وقد عهدت هذا في أيامهم يُؤخذون به ولكل شاة أخذها بُجاوي فعليه أربعة دنانير وللبقرة عشرة. وكان وكيلهم مقيماً بالريف رهينة بين المسلمين." (ابن عبد الحكم، ص 10)

ولم يؤد الصلح الذي وقعه ابن الحبحاب معهم (ابن عبد الحكم ص 10) إلى تحسين العلاقات. فقد أشارت المصادر العربية إلى غاراتهم المتكررة على صعيد مصر. وذكر ابن سليم (ص 105) أن "أذيتهم كثرت على السلمين" ودارت عدد من المعارك بين البجة والمسلمين مثل حملات حكم النابغي وابن الجهم والقمي – كما في الجدول رقم 1 -إلا أن كل ذلك لم يؤد إلى إنهاء التوتر في العلاقات طيلة عصر الولاة.

جدول رقم 1 العلاقات بين مملكتي نوباديا ومقرة والبجة مع المسلمين في عصر الولاة

التاريخ-ميلادي

الحدث

المصدر

641

جيوش ملك النوبة وملك البجة لمساعدة البيزنطيين    

الواقدي، فتوح الشام، ج 2 ص 60

641-651 م

غارات على مملكة مريس (نوباديا) تقريباً 5 معارك

ابن عبد الحكم في مسعد ص 7 البلاذري ص 238

651

حرب وصلح عبد الله بن سعد

ابن عبد الحكم في مسعد ص 7 البلاذري ص 238

651

مصالحة عبد الله بن سعد للبجة شرق النيل

ابن عبد الحكم في مسعد، ص 10

قبل عام 707

الاعتراض على تضمين الخمر في الصلح النوبة

المقريزي، الخطط ص 304

700 – 710

ضمت مملكة مقرة مملكة نوباديا

Vantini, p 36; Adams, p 453

684 – 704

مراجعة والي مصر لصلح عبد الله ابن سعد

البلاذري في مسعد ص 304

718 – 720

مراجعة الخليفة عمر بن عبد العزيز لصلح ابن سعد  

الطبري، في مسعد

قبل عام 723

صالح عبد الله بن الحبحاب البجة

ابن عبد الحكم، في مسعد ص 10

723 - 742

غزو المقرة: الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك

النويري وابن الفرات (مسعد ص 222 و258)

723 - 742

تعديل الاتفاق بعد حرب الخليفة هشام أعلاه

ابن المقفع، ص 82

749

جملة ملك مقرة على مصر

ابن المقفع، في مسعد س 78

قبل عام 758

شروط اتفاق مختلفة في رسالة والي مصر 758

Blumley An Eighth-Century Letter

758

رسالة والي مصر إلى ملك مقرة

مجلة الآثار المصرية، انظر حاشية رقم 10

754- 775

غزو المقرة: عصر المنصور

النويري وابن الفرات (مسعد ص 222 و258)

775- 785

مراجعة الخليفة المهدي لصلح عبد الله بن سعد

البلاذري (مسعد ص 27)

826

مراجعة والي مصر لصلح عبد الله بن سعد

المقريزي (الخطط مسعد ص 304)

827

هجوم البجة على مدينة قفط

ابن حوقل، صورة الأرض ص 57

827

حملة الحكم النابغي على بلاد البجة

ابن حوقل، صورة الأرض ص 57

831

كثرت غارات البجة على المسلمين

ابن سليم ص 109

831

حملة ابن الجهم على بلاد البجة

ابن سليم ص 109

831 - 857

تكامل الغرب بأرض المعدن بعد حملة ابن الجهم

ابن حوقل ص 57

قبل عام 833

وفد ملك النوبة للمأمون في مصر لعرض نزاع على أراضي بالقرب من أسوان

المقريزي، الخطط، موقع الوراق ج 1 ص 249

834 – 845

مراجعة الخليفة المعتصم لصلح عبد الله بن سعد

المقريزي (الخطط مسعد ص 305)

834 - 845

سفارة الأمير(ابن ملك مقرة) للخليفة العباسي المعتصم

ابن المقفع، ص 85

847 – 861

حملة اللقمي على بلاد البجة، ميناء صيحة/صنجة

البلاذري، فتوح البلدان ص 249، الطبري، ص 29

847 – 861

زيارة ملك البجة علي بابا (أولباب) بغداد

أبو المحاسن، ص 381، ابن حوقل 69

847 - 861

زار ملك مقرة بغداد

انفرد ابن حوقل ص 69 بهذه الرواية

المراجع

-     ابن الأثير، الكامل في التاريخ في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية

-     البلاذري، فتوح البلدان. بيروت: دار الكتب العلمية 1983    

-     بليني، التاريخ الطبيعي، في سامية بشير دفع الله، السودان في كتب اليونان والرومان.

-     أحمد الياس حسين، السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية، الجزء الأول, الخرطوم:مركز بناء الأمة للبحوث والدراسات 2018.

-     أحمد الياس حسين، السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية، الجزء الثاني الخرطوم:مركز بناء الأمة للبحوث والدراسات 2012.

-     أحمد الياس حسين، مراجعات في تاريخ السودان، الخرطوم: مركز بناء الأمة للبحوث والدراسات 2018.

-     ابن حوقل، كتاب صورة الأرض. بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة 1979

-     ابن خرداذبة، المسالك والممالك، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية

-     سامية بشير دفع الله، السودان في كتب اليونان والرومان، الخرطوم: جامعة السودان المفتوحة 2008.

-     ابن سليم، كتاب تاريخ النوبة

-     ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، تحقيق محمد الحجيري. بيروت: دار الفكر 1996.

-     ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، في مصطفي محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية  

-     ابن عبد الظاهر، تشريف الأيام والعصور بسية الملك المنصور قلاون في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية

-     ابن الفرات، تاريخ الدول والملوك في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية

-     بو المحاسن، النجوم الزاهرة في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية

-     المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر. القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1958\

-     مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية: مجموعة النصوص والوثائق العربية الخاصة بتاريخ السودان في العصور الوسطى الخرطوم: جامعة القاهرة 1972.

-       المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، في مصطفي محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية

-       المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، موقع الوراق

-       ابن المقفع، أنظر تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية في مسعد، المكتبة السودانية

-       النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب في مسعد، المكتبة السودانية ص 222.

-       الواقدي، فتوح الشام، بيروت: دار الجيل.  

-     Arkell, A. J. (1955), A History of the Sudan from the Earliest Times to 1821. London: University of London.

-     Blumley, Martin “An Eighth-Century Letter to the King of Nubia” Journal of Egyptian Archeology Vol. 61 (1975)

-     Blumley An Eighth-Century Letter

-     ; E. A. Wallis Budge, The Egyptian Sudan: its History and Monuments. London: Kegan Paul, Trench Trubner &Co. Vol. 2 184

-     Burckhardt, John Lewis, Travels in Nubia, London: Draft Publishers Limited 1987, f.n. 63 p 528

-     Mac Michael, H. (1967). A History of the Arabs in the Sudan. London: Frank Cass & Co. Ltd. 2nd ed.

-     Milne, J. G. A History of Egypt under the Roman Rule.

-     Strabo, Geography, Book xvii

 

آراء