تأطير العلاقة بين التجربة الاسلامية ، والعلمانية … بقلم: الرفيع بشير الشفيع

 


 

 

 

نحن نرى الان الحراك والعراك بين العلمانية والاسلام فيما يمثل صراع حضارات تنبأ به الكثير ، وكانت اسبابه كثيرة ولكن دون التطرق لها فقد بلغ العراك بين النظرية العلمانية والمنهج الاسلامي مداه الان في رياح التغيير التي عمت المنطقة الاسلامية والعربية حتى اعتلت العلمانية كل ادارات الدول في المنطقة تقريبا ، فيما انحسرت الدعوة لأسلمة الدولة الى اقصى حد لم يترك معه حكومة تدعي ذلك بنسبة كبيرة وواضحة ، وانحسر حتى الدفاع عن المنهج الى ما يشبه القبول والصمت والاحباط التام بسبب الاستلاب الفكري والمعارك والدمار الذي يحدث على المناطق المسلمة.
نحن كمسلمين في السودان وفي العالم الاسلامي يجب الا تغرنا ولا تغرينا مصطلحات لا تشبهنا من ديمقراطية واشتراكية وحرية وعلمانية وما شابه ، هذه مصطلحات لا يمكن تطبيقها عندنا هنا في السودان او في البلاد العربية والاسلامية ، وانا لا اعيب الديمقراطية او الاشتراكية ولا الحرية ولا استنكرها ، فثلاثتها مقتبسة من قيم دينية (اسلامية ومسيحية ويهودية )، ابتدعت من قيم ربانية ارتضاها للإنسانية الله في شكلها المثالي ، ووحدت موروثات قيم انسانية مشتركة في الانسانية فهذبتها لترقى لمستوى المثال ، لنطبقها نحن ونلتزم بها بقدر ما نستطيع على شرط ان يكون قصدها هو مرضاة الله ورفاه الناس وتعمير الدنيا لتكون صالحة للعبادة والعيش والتعايش.
يبقى المحك هو التطبيق لهذه القيم ، فقد طبق الغرب الجانب البشري فيها وبدل منهج و موجهات الكنيسة الرباني، بزيادة وضعية بشرية ، في مواعين التدين (بدلوا الرباني بالانساني )، وبدلوا الاخلاقي بالابتذالي وبدلوا دوافع الالتزام الايمانية بدوافع التزام دستورية وضعية ، وسموا هذا " العلمانية" التزمت في جانب من التطبيق الحياتي والانتاجي والاداري ، فيما التزمت ثانيا فيما يحسب ايجابيا لها ونغبطها عليه ، هو الالتزام الشديد على ما تنزل عليه الناس من دساتير " وضعية " كانت حسناتها العدل والتساوي الحقوق والشفافية في مراجعة الاداء وتطبيق المعايير في الانتاج ، والمعايير في ادارة الوطن وحفظ حقوقه من أي من كان ، وحفظ حقوق الناس في التعبير والتدين والجنس واشياء كثيرة ، ثم طبقت على ذلك مبدأ المحاسبة والمساواة في المحاسبة وهذا هو قمة العدل البشري الذي افتقدناهةنحن في عالمنا العربي والاسلامي زلم ننجح في تطبيق ربع ما يطبقه الغرب العلماني من قيم انسانية.
الا ان العلمانية ابتذلت في جانب كبير وهو الجانب الاخلاقي من حياء وعفة والجانب الإيماني بالرب الخالق ، وحلت عروة جانب التعبد الجمعي ، وحصرته في الكنيسة والفرد ، وحصرت بل انهت تطبيق مباديء ادارة الدولة على اساس ايماني ولجأت بالعلاقة بالله الى العدم ، بالانفصال التام عن الله (ما لله لله وما لقيصر لقيصر).
أما نحن في جانب الدول الاسلامية فقد سقطنا بين هذا وذاك ، فلا دين ابقينا ولا علمانية رعينا ، بإعتبار ان العلمانية بتفاصيل تطبيقاتها لم نخلق لها ولم توجد لنا ،ولأسباب كثيرة:-
اولا :- لم نجيد الديمقراطية وممارسة الديمقراطية والالتزام بها ، وهي في الغرب مناهج سياسية تدرس في المدارس وفي الاسرة وفي الشارع life orientation curriclums ، كما تدرس عمليات إدارة الوطن والمعاملات بين الناس على اساس ديمقراطي علماني ، حتى اصبحت الديمقراطية ثقافة وممارسة يومية.
ونحن اتينا بالديمقراطية Raw او عينة شكلية specimen وحاولنا نطبقها في دور السياسة وفي حدود البرلمانات فقط ، بدوافعها ومرتكزاتها الانسانية فقط في مجمتع مسلم، هو أقرب للشورى التي هي مرتكز الديمقراطية لكنا فشلنا لأن الديمقراطية عندنا لم تصبح ثقافة وممارسة يومية داخل وخارج اروقة السياسية ، وحتى داخل اروقة السياسية فإن تطبيقنا للديمقراطية هو تطبيق صوري فقط ، وكثيرا ما تنتهك الحقوق الدستورية والقانونية والانسانية ونتفلت عن الديمقراطية حتى وان رضينا بها ، وجاءت ادارات تدعي العلمانية ، لأن العلمانية والديمقراطية عندنا ليست طبع ولا فطرة ولا ثقافة بشكلها العلماني لأننا توجهنا توحه اقرب للربانية اخروي hereafter oriented ، من الحياتية life orientation "فقط".
ثانيا:- فشلنا حيث نجح الغرب في أدارة شؤون الحياة وتجويدها كما تجودها العلمانية ، لأن توجهنا السايكولوجي العام هو توجه آخرة ، وتزهد في امور التجويد والتوجه الحياة ( فقط)، وهذا خطأ كبير باعتبار ان الاسلام يحضنا ايضا على ان " لك على نفسك حق" ويحثنا على طلاب الرزق والتمتع بالحياة للحد الذي يبقي على علاقتنا بالله على افضلها وعلى ان نحفظ اخلاقينا وقيمنا وتوجهاتنا الربانية ، إذ ان الدنيا لها متطلباتها كما للاخرة متطلباتها ، ونحن معنيون بالاخذ بكلاهما على ان تكون الاولى مطية للاخرة .
والغرب فصل في هذا بحكم النظرة العلمانية ( ما لله لله وما لقيصر لقيصر) ، فنجح في تجويد الحياة عما سواها ، وبرزت العلمانية كخيار حياتي تطبيقي.
فشلنا نحن المسلمون في تطبيق العلمانية لمفهومنا الخاطيء في تجويد الامور الحياتية بتفاسير خاطئة ومناقضة حتى لأصل الدين ، وهي ترك امور الدنيا والغفلة عنها بإعتبار " التواكل" على الله، فلا نعقل امور الدنيا بما تستحق ونجودها ونوجهها لخيري الدنيا والاخرة.
ثالثا :- الخطأ في أننا تركنا قيم ديننا وتلبسنا العلمانية الغربية " خام" وطالب بعضنا بفصل الدين عن الدولة ، وفصل الدين عن الدولة سبب هوة كبيرة جدا بين تمسكنا بقيمنا الاسلامية التي ترعى حق الله بدساتيره الربانية ، وتمسكنا بقيم وضعية ، ديمقراطية علمانية ، لا ندري عنها شيئا ولا نجيدها فسقطنا بين الالتزام الرباني والوضعي.
ففي حال تعاملنا مع المال سندنا العفو والعقاب في التغول عليه على الله ، حيث لا حسيب ولا رقيب دستوري الا دستور الله الذي لا نطبقه، ودستور دولة نتحابى ونتغابى في تطبيقه ، وسندنا جلب المال على القيم التنافسية الوضعية، لم ترعى فيه كوابح الشرع الاسلامي والتي هي قمة في العدل الذي اقتبسته العلمانية ونجحت فيه لوجود الرقيب البشري المتمرس والمتثقف والملتزم بحدوده وحقوقه على بذل حقوق الاخرين فعم الفساد في البر والبحر عندنا وقل عندهم . لأننا تواكلنا على الله وفي نفس الوقت ، عذرنا انفسنا وبعضنا بالتحيز للاحزاب والتوجهات والتمترس في الثقافة والارث الطبقي والجهوي ، وضيعنا المحاسبة والمراجعة وتطبيق الدستور الالهي ، او الوضعي.
فالديمقراطية بطريقتها العلمانية لا ننفع نحن لها ، كما لا تنفع هي لنا ، وذلك للتضارب مع مثالنت الرباني والذي يرقى على كل المثل ، ولتكويننا الفطري والتربوي (الوضعي المحلي) و لأساليبنا التدينية والانسانية وايضا الاجتماعية والمنهجية .
رابعا : - لكن الذي ينفع معنا هو الإسلام بقيمه الربانية السامية ، وبمثله اذا قاربنا المثال ، هذا المثال الذي لم نطبق فيه الا اسمه احيانا والتزيؤ به ، والتمني على الله الاماني،؛ فشكلنا مسلم واطارنا الخارجي مسلم في فرده ومجتمعه وثقافته العامة ، لكن عند تطبيق المثال او جزء منه على حياتنا على المستوى الجمعي وليس التعبدي الفردي يساوي صفرا كبيرا جدا .
وتطبيق الاسلام ليس سهلا اذا لم يك ذلك المثال ثقافة في الفرد والمجتمع ودستورا وتعامل حياة ، إذ ان الاسلام مثال في حده الاعلى، أتى الله بذلك المثال في اقصى امثلته في زمان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم واختار له شخوص ، التزمت بالمثال وطبقته عملا ، واخلاق ، ومعاملة ، ولكن تدحرج التطبيق بفعل داخلي هو التفرقة والتفسير لذلك المثاا وفعل خارجي في تفتيت الامة والمثال نفسه ، الى زماننا هذا حيث اثرت في دحرجة المثال :-
- حياة البداوة في المنطقة العربية ومحيطها الاقرب ، بعد ان انتقل المسلمون في سني الاضمحلال الايماني والثقافي والمثالي بفعل الزمان وبفعل التعرية الثقافية بالتبادل مع الاخر الذي نجح في تقديم مثاله لنا "العلمانية " حيث فشلنا في تقديم مثالنا له " الاسلام" ، فرجعنا لطبع واخلاقيات وثقافة الوضع والبداوة ،تناسى الناس المثال .
وظلت الفطرة و الفكر والطيع الوضعي هي الحكم السائد الى ان غشي التدين الغربي (المسيحية)، غاشية العلمانية ، ثم فتحت ابواب العلم والتجريب واطلقت لنفسها العنان في تخليق الصناعة ثم التقنية ، ثم اجتاحتنا العلمانية فكريا وسياسيا وفنيا وتقنيا وعسكريا وكسرت شوكتنا سايكلوجيا واستجبنا لها يالتبعية ، فوجدتنا في حال البداوة والانتزاع عن الدين الحقيقي ، وفرضت علينا بحكم الواقع علمانيتها ، ومنها الديمقراطية ، وطبقناها بنفسيات البداوة المتدينة في محيط مدنية هائج وطالبنا بحريتها ، التي اجتازت حدود تعاليمنا الدينا الى التبذل في الاخلاق ، ففقدنا الاخلاق ايضا .
وطريقة الحوار بين "العلمانية ، والاسلام " لم يجد طاولة صالحة او مواعين واعية لخلق بيئة الحوار المناسبة حتى يحدث التلاقح الحميد والمقبول الذي يدعو للشراكة وتطبيق المشتركات من قيم ومتطلبات حياة وتعايش .
هذه هي بعض اسباب المعترك الذي نرى الان نتائجه ، شقة وشقاق بين العلمانية والأسلمة ، غلبة للاولى وانحسار للثانية والعكس صحيح .
فللذين يمموا منا شطر العلمانية وتطبيقاتها نقول ، ليست الديمقراطية بذلك التقديس الذي يطليه عليها دعاتها وليست الحرية ولا العلمانية بالمفهوم الغربي هي المثال الذي ينبغي ان نحتذيه ونتعبد الله به ، كما نقول للذين يطالبون بالأسلمة مقابل العلمانية ، أن يعرفوا بأن التطبيق سيكون نسيبا وستتداخل فيه كل عوامل التي ادت لتعرية المثال ،و يجب ان يدرسوا الامر من كل جوانبه البيئية السياسية ، ومستوى التعبد والتدين والصدق مع النفس والصدق الجمعي الذي يؤيد ذلك من الذي ينافيه حاليا ، ومراعاة الاسباب التي جعلت بعضنا يقبل العلمانية بما هي عليه ، واسباب التطبيق الشائه للمثال وللعلمانية ايضا ، التطبيق لا يتعدى مرحلة الإعجاب بالشعارات هنا وهنا دون تطبيق يرضي الجميع ، لذا وجب على الجميع ان يجدوا حلا وسطا يجعل الحياة تسير ولو بأضعف الايمان.
والله من وراء القصد.


rafeibashir@gmail.com

 

آراء