تجربة السودان مع صندوق النقد الدولي 1978-1984 .. ما اشبه الليلة بالبارحة !!

 


 

 

من التاريخ نستلهم الدروس والعبر ومن تجارب الماضي نستفيد من النجاحات ونستدرك ونتفادي الأخطاء من تجارب الفشل والإخفاق!!!
المتتبع لمسيرة علاقة السودان مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي وحتي ألان يلاحظ إستمرار نفس النهج والفلسفة الاقتصادية والتي تهدف الي مواصلة مسلسل التبعيه وارتهان الاقتصاد الوطني ليدور في حلقة المنظومة الاقتصادية الرأسمالية العالمية وعلي الرغم من طول هذه المدة نسبيا وحدوث تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية محلية واقليمية ودولية مؤثرة الي الحد البعيد ولكن رغم ذلك تظل فلسفة مؤسسات بريتون وودذ جامدة في فهمها وتحليلها وتفسيرها وشرحها للأزمة خاصة في الدول النامية وكذلك جامدة في تقديمها او فرضها للحلول واستخدامها نفس الوسائل للوصول لتلك الحلول وفق أيدولوجية جامدة ومحددة الأهداف
وفي حقيقة الأمر ينطبق هذا الحديث علي جميع الدول النامية او الصاعدة او حتي المتقدمة (تجربة اليونان) دون مراعاة لإي خصوصية للاوضاع او اختلاف لجذور وبنيات الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية والتي عادة ما تميز بين الدول والمجتمعات المختلفة!!!
من اهم اعمال الراحل المقيم بروفيسور علي عبدالقادر كتيب او Monograph من سلسلة إصدارات منتظمة كانت تصدر من مركز البحوث والدراسات الانمائية جامعة الخرطوم وعادة هذه الإصدارات تكون ملخصا لندوات او محاضرات يقدمها المركز ويشارك فيها نخبة من أميز الأساتذة والباحثون من جامعة الخرطوم والجامعات الاخري الإقليمية والعالمية وكان البرفيسور علي عبدالقادر طيب الله ثراه من أبرز المشاركين في هذه المحاضرات والإصدارات من ضمن هذه الأعمال كان هناك مقالا تحت عنوان
"Some Aspects of the Sudan Economy”
صدر في العام 1984 ويتحدث عن تجربة السودان مع مؤسسات بريتون وودز منذ يومها الأول في العام 1978 وحتي العام 1984 وانتهت تلك الفترة بسقوط نظام جعفر نميري بسبب انتفاضة أبريل المجيدة
الهدف من هذا المقال مقارنة شاملة بين سياسات الصندوق والبنك الدولي في السودان في كل فترات تدخله في وضع السياسات الاقتصادية وفرض روشتته التقليدية وأتضح من الكثير من الشواهد استخدام الصندوق لنفس السياسات وبنفس طريقة واسلوب التطبيق في كل زمان ومكان وفي كل الظروف لايراعي في ذلك إختلاف الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والامنية بين الدول او في نفس الدولة ولكن في فترات زمنية مختلفة!!!
في هذه الورقة تحدث بروفسير علي عبدالقادر عن نظام سعر الصرف قبل وبعد دخول الصندوق في وضع السياسات الاقتصادية في السودان والتي يمكن تلخيصها في الأتي:
اولا/ قبل 15 يونيو 1978 كان السودان يعمل بنظام سعر الصرف المتعدد مع وجود نظام جيد للتحكم في النقد الأجنبي. في ظل هذا النظام هناك ثلاث أسعار لسعر الصرف:
سعر صرف رسمي قدره 36 قرش للدولار ينطبق ذلك على صادرات القطن ، وسعر صرف فعال قدره 40 قرش للدولار ينطبق على جميع الصادرات غير القطنية وجميع الواردات ومعدلات تحويل العمال بالعملة المحلية 57 قرش للدولار
ثانيا/ في 15 يونيو 1978 نفذ السودان أول تخفيض لقيمة العملة بموجب عقد إدارة الاقتصاد الكلي مع صندوق النقد الدولي أصبحت المعدلات الرسمية والفعالة 40 قرش للدولار و 55 قرش للدولار على التوالي مع تغطية المعدلات ومعدل تحويلات العاملين كما كان من قبل
ثالثا/ في العام 1979 حدثت تلاتة تغيرات
- تم تغير معدل تحويلات العاملين بالخارج ليصل الي 67 قرش للدولار
- امتد السعر الفعال ليشمل صادرات القطن
- في 15 سبتمبر 1979 حدث التخفيض الثاني للجنية واصبح السعر الرسمي 50 قرش للدولار مع الغاء المعدل التأشيري ومعدل تحويلات العاملين بالخارج وذلك آدي لقيام سوق موازي بمعدل 80 قرش للدولار
ويتم تطبيق سعر السوق الموازي (الأسود) لمجموعة من الصادرات والواردات
رابعا/ في 21 سبتمبر 1980 تم تحويل كل الصادرات عدا القطن وكل الواردات عدا الادوية والوقود والسكر والدقيق والالبان ومدخلات انتاج القطن من معدل السعر الرسمي الي معدل السوق الموازي وأدي ذلك لظهور سوق موازي للنقد الأجنبي بمعدل 90 قرش للدولار
خامسا/ في العام 1981 حدثت ثلاث تغيرات هامة
- تم تحويل صادرات القطن لمعدل السوق الموازي
- تم منح تراخيص الصرافات للتدوال بالعملة رسميا في السوق الموازي
- حدث تخفيض ثالث بتوحيد سعر الصرف ليصبح السعر الرسمي 90 قرشا للدولار واصبح 75% من كل الصادرات غير القطنية وكل الواردات الحكومية تتعامل وفق السعر الموحد وكل ماتبقي أصبح يتعامل مع السوق الموازي والذي بلغ سعر الصرف فيه 1.17 جنيه للدولار
سادسا/ خلال عام 1982 أدت محاولات الحكومة للتدخل في ما يسمى بالسوق الحرة من خلال تحديد معدلات البيع والشراء القصوى (30 يونيو) ثم إزالتها (25 أغسطس) ادي ذلك الي عودة ظهور سوق سوداء نشطة بمعدل 1.43 جنيه للدولار
في الخامس عشر من (نوفمبر) تم تخفيض قيمة العملة للمرة الرابعة ليصل السعر الرسمي إلى 1.43 جنيه /دولار. (وصل ما يسمى بسعر السوق الحرة إلى 1.75 جنيه/دولار أمريكي).
من ورقة بروفسير علي عبدالقادر يمكن ملاحظة تركيزه علي الأتي
اولا/ استمرت سياسة الصندوق في استخدام سياسة التخفيض المستمر لسعر العملة في اتجاه نحو الوصول الي مرونة اكبر لسعر الصرف تدريجيا لمدة اربع سنوات وكان نظام سياسة سعر الصرف قبل ذلك يستند علي نظام سعر الصرف المتعدد مع نظام محكم للرقابة علي النقد
ثانيا/ يري بروفسير علي عبدالقادر انه بسبب الكثير من القيود الاجتماعية والسياسية والهيكلية المعروفة كان لذلك أثرًا كبيرا علي فعالية تطبيق الروشتة التي يقدمها صندوق النقد الدولي لم يكن الأمر بهذه السهولة. ونتيجة لذلك تورط الاقتصاد في شبكة معقدة من تخفيض قيمة العملة والركود والتضخم وبالتالي تفاقمت الأزمة من جميع نواحيها.
ثالثا/ في الفترة من 1987 وحتي 1984 حدثت اربعة تخفيضات في سباق محموم مع السوق الموازي ورغم ذلك لم يتم القضاء علي السوق الموازي كما لم يتم الوصول الي التحرير الكامل او التعويم لسعر الصرف نسبة لتعقيدات الاوضاع الاقتصادية السياسية والامنية انذاك (حكومة البدوي توصلت الي تحرير سعر الصرف في اقل من عام دون مراعاة للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والامنية)
رابعا/ السياسات الأخرى المفروضة على السودان ضمن روشتة الصندوق كشرط للحصول علي معونات من صندوق النقد الدولي لا تقل إرباكًا أو ضررًا. امتدت هذه الظروف إلى كامل مجال الأنشطة الاقتصادية لمختلف قطاعات الاقتصاد.
خامسا/ رغم طول المدة الزمنية بين اول تدخل لصندوق النقد الدولي في الاقتصاد السوداني في العام 1978 والان فمن الملاحظ استخدام نفس السياسات والوصول لنفس النتائج والتي تتلخص في التخفيض المستمر في سعر الصرف مع سياسات ماليه ونقدية تقشفية وانكماشية تركت الكثير من الآثار السلبية للاقتصاد مع تفاقم حدة المعاناة للمواطن من ارتفاع معدلات والتضخم والبطالة وبالتالي ارتفاع حدة الفقر والمعاناة
سادسا / يري بروفسير علي عبدالقادر ان مجمل السياسات التي ينتهجها الصندوق والبنك الدولي في السودان تأتي وفق خطة شاملة تهدف الي ان تمضي الدول النامية في مسارًا رأسماليًا خالصًا للتنمية وفق مفهوم الصندوق و البنك الدولي والوكالات المانحة الأخرى التي تشرف على تنفيذ حزمة السياسات المقترحة.
سابعا/ حزمة السياسات نفسها ليست جديدة: - هناك تأكيد على إستخدام آلية الأسعار كنظام وحيد للحوافز للمنتجين هناك دعوة لتقليص دور القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص. هناك إملاء على تطبيق البرامج قصيرة المدى بدلاً من التخطيط للإنفاق العام ؛ هناك قيود على الاستثمار في إعادة تأهيل رصيد رأس المال الحالي بدلاً من القدرات الجديدة ؛ وهناك خطبة عن ضرورة إجراء إصلاحات مؤسسية تهدف إلى خصخصة المجتمعات
ثامنا/ يري بروفسير علي عبدالقادر فشل سياسات التنمية التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وأن التأثير النهائي للجزء الاقتصادي من حزمة السياسات المقترحة سيكون زيادة الاستقطاب في المجتمعات الأفريقية مع زيادة الفقر وسوء التغذية والبؤس البشري. والسبب البسيط لذلك هو النتيجة المعروفة وهي أن آلية السوق لا تهتم عادة بتوزيع الدخل والثروة
تاسعا/ تشير التوقعات حسب الصندوق أيضًا إلى أن الاقتصاد يجب أن ينخرط في عمليات تخفيض مستمرة تقريبًا لقيمة العملة بصورة منتظمة كل عامين تقريبا
عاشرا/ الملاحظ ايضا وفق هذا النظام الذي فرضه الصندوق في النهاية سيؤدي الي دخول الاقتصاد في سلسلة من التخفيضات بهدف ملاحقة السوق الموازي تبدأ بتحديد سعر رسمي وسعر تاشيري ويظل السوق الموازي قائما ويفرض نفسه نتيجة لشح العملات الاجنبية وضعف الاحتياطي من هذه العملات وذلك بسبب اختلالات هيكلية في بنيات الانتاج وقطاع الصادر والإفراط في الواردات والنمط الاستهلاكي غير المنتج ويستمر الاقتصاد في هذه الحلقة المفرغة من التخفيض وتحديد سعر رسمي ثم توحيد السعر الرسمي مع السوق الموازي عن طريق المزيد من التخفيض وهكذا دواليك!!!

وفي كتابه الشهير " من التبعية الي التبعية " تحدث البروفسير علي عبدالقادر في مقدمة الطبعة الثانية في مايو 2021 اي بعد ثورة ديسمبر 2018 المجيدة معلقا فيها عن البرنامج الاقتصادي لحكومة الثورة حيث قال الأتي
"اما توطئة الطبعة الثانية للكتاب ، فإنها ترصد على نحو مكثف وموجز نهج (حكومة الثورة!!) إزاء قضايا الاقتصاد السوداني ، انطلاقا من الوثيقة التي أصدرتها وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي في ديسمبر عام 2019 في 71 صفحة في شكل بوربوينت ، حملت عنوان «الاقتصاد السوداني بين التحديات الماثلة والآفاق الرحبة – موازنة عام 2020» وتعرض المحتوي الاقتصادي للوثيقة لتحليل معمق ، قام به عدد من الاقتصاديين السودانيين ، ويمكن للراغبين الاطلاع على هذه التحليلات أن يعودوا إلى مختلف المواقع الإسفيرية التي تعني بالشأن السوداني ، وسيجدون
ضالتهم فيها . ما نود التركيز عليه في هذه التوطئة ، محتوي القسم الخاص لما أسمته
الوثيقة بخارطة الطريق (ص 53-56) ويشمل هذا القسم ثلاث عناوين رئيسية ، تتضمن الجدول الزمني للإصلاح الاقتصادي ، والجدول الزمني لإعفاء الديون ، وإعادة التأهيل ، والآفاق الرحبة ، وما ورد في هذه الاقسام الثلاث من موضوعات يمثل تكريسا تاما لنهج التبعية بأكثر صورها تجليا ووضوحا ، وعلى بعد الزمان وتطاوله واتساع الشقة ومداها وعصف الآزمة وفداحتها ، حذت (حكومة الثورة!!) حذو سابقاتها النص بالنص ووقع الحافر على الحافر ، ولم تجد مناصا إلا أن تتبع هوي التبعية وتسير على خطاها ، وكأن الثورة لم تأتي لتعصف بكل إرث التبعية ، وكأن ارواح الشهداء ودمائهم لم تراق لرسم فضاء أكثر رحابة تجلله آفاق التنمية المستقلة والسيادة الوطنية وكرامة المواطنيين وحقهم في العيش الكريم والرفاه الانساني"
ومضي قائلا
"نسارع لنلاحظ أن السياسات التي ذكرتها الموازنة هي نفس السياسات التقليدية للصندوق ، وأن ما أسمته وثيقة الموازنة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي المتابع SMP ليس فتحا مبينا لحكومة الخبراء التي جاءت بها الثورة . ويهمنا في هذا المجال ملاحظة أن الحكومات المتعاقبة للعهد الاسلامي المباد قد وقعت مثل هذه البرامج سنويا منذ عام 1997 دون أن تبشر الشعب السوداني بآفاق رحبة جراء تطبيق السياسات المدرجة في مثل تلك البرامج . كما يهمنا أيضا ملاحظة التعريف الرسمي لهذه البرامج كما جاء في هامش البيان الصحفي الذي صدر عن الصندوق في 28 مارس ، 2021 تحت عنوان: ادارة صندوق النقد الدولي تنهي تقييم المراجعة الأولي لبرنامج SMP مع السودان . ينص التعريف على أن هذا البرنامج هو عبارة عن اتفاق غير رسمي بين سلطات البلد المعني وموظفي الصندوق لمراقبة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي صاغته سلطات البلد المعني ، ولا ينطوي برنامج SMP على تقديم مساعدات مالية أو اعتراف من مجلس إدارة الصندوق"
واسترسل في التحليل موضحا
"مهما يكن من امر ، أفضت موازنة عام 2020 إلى تشكيل آلية عليا لإدارة الأزمة الاقتصادية في البلاد اعتبارا من أول مارس 2020 ، أسندت رئاستها في بدء إنشاءها إلى رئيس الوزراء ( دكتوراة في الاقتصاد من جامعة مانشستر – بريطانيا) ، ولكن سرعان ما أنيطت قيادة هذه الآلية لنائب رئيس مجلس السيادة (لم يسبق له أن ارتاد أي مرحلة من مراحل التعليم النظامي) ، وترتب على مستوي ونوع هذه الإدارة العليا للآزمة ، خاصة في أعقاب تشكيل حكومة شركاء الدم ، التي جاءت بعد انضمام الحركات المسلحة للحكومة الانتقالية ، أن تتوالي القرارات الإرتجالية ، والتي بدأت بخفض سعر الجنيه السوداني من 55 جنيها للدولار إلى 375 جنيها للدولار ، تحقيقا لرغبة شركاء السودان ، وتطبيقا لشروط صندوق النقد الدولي وأخذ هذه الشروط على عواهنها دون تبصر أو تدبر لنتائجها الكارثية على اقتصاد منهار مثل الاقتصاد السوداني
ولا نخال إننا بحاجة إلى إبداء ملاحظات فنية من أن مثل الإجراءات التي تم اتخاذها سوف تترتب عليها أي أثار إيجابية على الاقتصاد ، سواء كان ذلك على صعيد توحيد سعر الصرف (بين السعر الرسمي والسعر الموازي) ، أو تشجيع الصادرات (لتدني مرونتها السعرية) ، أو تحسين ميزان المدفوعات (لكون مجموع المرونة السعرية للصادرات والواردات تقل عن الواحد الصحيح ، كما ينص على ذلك شرط
مارشال-ليرنر الشهير)"
ومن الواضح للعيان نبرة الإحباط الواضحة في حديث البروفسير من البرنامج الاقتصادي لحكومة الثورة والذي كان بعيدا كل البعد من اهداف الثورة ولايمثل الا المزيد من تكريس التبعية والاستمرار في نفس السياسات وكأن أمر الاقتصاد السوداني يمكن وصفه الان استمرار في مسيرته من التبعية الي التبعية ثم المزيد من التبعية في حلقة مستمرة منذ الثمانيات وحتي الان!!!!

وفي كتاب أخر يعتبر مرجعا هاما في ادبيات الاقتصاد السياسي لمؤسسات بريتون وودز صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهو عبارة عن سلسلة مقالات تم جمعها بواسطة دكتور
Bade Omimode
وهو من كبار الاكاديميين الباحثين في دور مؤسسات التمويل الدولية في صياغة السياسات الاقتصادية في القارة الافريقية وكان قد تم تقديم مجموعة المقالات التي تم جمعها في هذا الكتاب من مؤتمر السياسات الافريقية البديلة والذي عقد في لندن في العام 1987 ويتعرض هذا الكتاب في مقال هام بعنوان
" The role of the IMF and World Bank in the Agrarian Crisis of Sudan and Tanzania: sovereignty vs Control"
بقلم فانتو جيريو يتحدث بالتحليل الرصين عن حالة السودان وتنزانيا وتفاصيل تجربتهما مع برنامج صندوق النقد الدولي ويمكن تلخيص ما جاء فيه في الاتي:
"بدأت مشكلة السودان الاقتصادية في أوائل السبعينيات عندما شرعت حكومة النميري خلافًا لنصيحة البنك الدولي ، في برنامج تنموي طموح ومكلف يهدف إلى تنويع وتوسيع قاعدة صادرات البلاد. اعتمد نجاح البرنامج الجديد على استراتيجية محددة لتحويل السودان إلى "سلة خبز" الشرق الأوسط (أوبريان ، 1981: 22-6). بدأ التطور الأكثر طموحًا في عام 1972 ، ولا سيما في صناعة السكر والمنسوجات والبنية التحتية العامة مثل الري لدعم استراتيجية "سلة الخبز". وبينما أصر البنك على ضرورة استمرار السودان في إنتاج القطن بسبب الميزة النسبية ، دافعت الحكومة عن استراتيجيتها في التنويع باعتبارها مكونًا مهمًا في خطتها لمكافحة التبعية لتقليل وضع السودان الهش في السوق العالمية. استجاب البنك بإيقاف مشروع الزراعة الآلية في السودان في عام 1978 وكفاءة تمويل مؤسسات القطاع العام بهدف تحسين تخصيص الموارد وزيادة استخدام القدرات.
تم التركيز على توسيع الصادرات التقليدية للسودان في وقت كان فيه السعر العالمي للقطن منخفضًا.
في وقت لاحق ، كانت استراتيجية التنويع التي اتبعها نميري أكثر منطقية من الإيمان الأعمى لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالميزة النسبية للسودان في القطن والقوة الخارقة لقانون السوق (البنك الدولي ، 1982 ؛ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي / البنك الدولي ، 1982).
بحلول الوقت الذي بدأت فيه المرحلة الثالثة من برنامج الاستثمار الثلاثي (TYPIP) ، ظلت كميات كبيرة من مخزونات القطن غير مباعة.
كانت كارثة مفهوم التنمية بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عاملاً حاسماً في الفشل حيث أجبرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لاحقًا على الاعتراف بأن إمكانات تصدير السودان تكمن في إنتاج الغذاء في قطاع الزراعة المطرية بدلاً من إنتاج القطن".
ويمضي الكاتب قائلا
"كانت الإجراءات الموجهة نحو الطلب في برنامج التعافي تتخذ شكل سياسات مالية ونقدية تهدف إلى نمو محدود في إجمالي الطلب في ظل قيود العرض. وتضمنت هذه الإجراءات تجميد الأجور ، والحد من التوظيف الحكومي ، والسيطرة الفعالة على الإنفاق. علاوة على ذلك ، تم تصميم برنامج الاستثمار الثلاثي (TYPIP) ، الذي حل محل خطة التنمية الحكومية ذات الست سنوات ، من قبل الصندوق والمجموعة الاستشارية للبنك ، وركز على إعادة تأهيل وتوحيد الخطط الزراعية القائمة واستكمال المشاريع الجارية. وفي غضون ذلك تدهور وضع الدين الخارجي للسودان بحلول عام 1978 مما أعاق تنفيذ برنامج "الاستقرار". نظرًا لأن صندوق النقد الدولي نفسه أصبح متورطًا مالياً بشكل متزايد في الفوضى الاقتصادية في السودان فقد تم إعطاء الأولوية القصوى لإدارة الديون وترتيب إعادة جدولة الديون مع الدائنين الرئيسيين للسودان مما أدى إلى تحويل جدول أعمال إعادة الهيكلة إلى مرتبة ثانوية. وبدلاً من إنقاذ الاقتصاد السوداني أصبح الصندوق مهتمًا بشكل متزايد بالحفاظ على صورته واستثماراته المالية بعد أن أدرك عمق الدوامة الاقتصادية"
ويسترسل قاتلًا
"تشير مراجعة التسلسل الزمني لتدخل صندوق النقد الدولي في السودان بوضوح إلى الطبيعة السياسية لتدخله. سُمح للسودان في ظل حكم نميري بخرق القاعدة الاقتصادية الأساسية لصندوق النقد
الدولي - "لا ترتكب خطيئة مالية" - ومع ذلك لا يزال يُكافأ على ذلك في شكل المزيد من الاتفاقيات الاحتياطية والمزيد من أموال تسهيلات الصندوق الموسعة (EFF). في الواقع ، خلال سبع سنوات من الاستقرار ،لم يصل السودان أبدًا إلى ميزان المدفوعات والميزانية وأسعار الصرف وأهداف التضخم (Brown، 1986: Umabadda and Shaaeldin، 1983).
كيف كان من الممكن لمؤسسة مشهورة بالتوصيات بالانضباط المالي أن تستمر في ضخ المزيد من الموارد في حكومة سيئة السمعة لسوء الإدارة والفساد؟
كانت نقطة البداية لمشاركة الصندوق في عام 1978 ، عندما وسعت دعم ميزان المدفوعات للحكومة دون فرض شروطها الاقتصادية التقليدية وكانت هذه أيضًا فترة مشاركة أمريكية أكبر في السودان والمنطقة في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. .
من المحتمل أن يقدم موقع السودان الاستراتيجي في جدول أعمال الشرق الأوسط بأكمله وتأثير الولايات المتحدة في مؤسسة بريتون وودز تفسيراً أفضل لعدم تقليص الدعم الإضافي لحكومة النميري أكثر من أي مبرر اقتصادي يقدمه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الدفاع عنهما."
ويواصل الكاتب
"بعد فترة وجيزة من توقيع كل ترتيب احتياطي وإعادة جدولة ديونه يفشل السودان في تلبية مدفوعات خدمة الديون مما يجبر صندوق النقد الدولي على تعليق الاتفاقية على الفور حدث ذلك عدة مرات ومع ذلك يجد الصندوق نفسه يتفاوض لترتيب اتفاق بديل آخر بعد فترة وجيزة من تعليق الاتفاق السابق.
لا تستند هذه القرارات إلى أي تحليل اقتصادي سليم ولكن على أساس أن "اقتصاد السودان يجب إصلاحه" بأي ثمن لإثبات لبقية العالم النامي أن وصفات الصندوق كانت قابلة للتطبيق (IMF / IBRD، 1983)"
ويتحدث عن الدوافع السياسية
"دعمت الولايات المتحدة نظام النميري دون قيد أو شرط لأنها أدركت أن السودان مهم استراتيجيًا لسياسة الولايات المتحدة في إفريقيا والشرق الأوسط. ومع ذلك ، عندما أصبح السودان غير مؤهل لمزيد من مساعدات صندوق النقد الدولي في أوائل عام 1985 ، انتقدت حكومة الولايات المتحدة صندوق النقد الدولي لاتباعه سياسات اقتصادية تهدد بتقويض المستقبل السياسي لأحد حلفائها الموثوق بهم في إفريقيا."
ويختم ذلك قاتلا عن خلاصة التجربة
"ومهما كان الحال ، فإن الخاسر الحقيقي هو الشعب السوداني ، الذي يدين ألان ب 13 مليار دولار. على الرغم من سبع سنوات من تدخل الصندوق ، انخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد من 468 دولارًا في عام 1978 إلى 288 دولارًا في عام 1984 وارتفعت نسبة خدمة الدين من 19 في المائة في عام 1978 إلى أكثر من 150 في المائة في عام 1985. وفي الفترة 1985/86 انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 30 في المئة. (البنك الدولي ، 1983 ، 1985 ؛ الاتحاد الأوروبي ، السودان ، 1987)."

من كل ماسبق ذكره من إفادات مكثفة من مصادر اكاديمية معتبرة حول تجارب مؤسسات بريتون وودز المأساوية ودورها المحوري في استمرار المعاناة الانسانية في كل دول ألعالم وخاصة دول الجنوب الكوني والتي عانت كثيرا من من جراء قسوة هذه السياسات يمكن ان نخلص ألي الأتي:
اولا/ سياسة الإملاءات وفرض الوصايا وتوجيه اقتصاد السودان وبقيه دول الجنوب في اتجاه ليس بالضرورة في صالح الاقتصاديات الوطنية بل يهدف الي تكريس التبعية وارتهان هذه الاقتصاديات ودمجها في فلك الاقتصاد الرأسمالي العالمي
ثانيا/ خير مثال لذلك رفض الصندوق تمويل اي سياسات تهدف الي تنويع الاقتصاد والخروج من انتاج المواد الاولية "القطن" رغم تدهور شروط التبادل التجاري بانخفاض الأسعار العالمية لمعظم الصادرات او التغييرات المناخية
ثالثا/ تجربة تنزانيا تؤكد هذا الاتجاه عندما فرط الصندوق عليها سياسة تؤدي الي خفض تراكم الاحتياطي من النقد الاجنبي ليمكن من المزيد من التحكم عن طريق ربطها بالقروض والمنح والمعونات
رابعا/ التركيز علي برامج استثمار قصيرة المدى غالبا ماتركز علي سياسات تهدف الي تحسين وضع ميزان المدفوعات وإستقرار سعر الصرف موقتًا عن طريق تخفيض العملة مع سياسات تقشفية وانكماشية بهدف ضمان خلق فوائض من العملات الأجنبية لتسديد التزامات الديون الخارجية وخدماتها مع ضمان تاكيد إستمرار الاقتصاد الوطني في منظومة الاقتصاد الرأسمالي العالمي
خامسا/ الطبيعة السياسية لتدخل الصندوق دعمت الولايات المتحدة نظام النميري دون قيد أو شرط لأنها أدركت أن السودان مهم استراتيجيًا لسياسة الولايات المتحدة في إفريقيا والشرق الأوسط ومع ذلك عندما أصبح السودان غير مؤهل لمزيد من مساعدات صندوق النقد الدولي في أوائل عام 1985 انتقدت حكومة الولايات المتحدة صندوق النقد الدولي لاتباعه سياسات اقتصادية تهدد بتقويض المستقبل السياسي لأحد حلفائها الموثوق بهم في في المنطقة.
سادسا/ بعد كل ذلك الشعب السوداني يتحمل ديون ب 13 مليار دولار. على الرغم من سبع سنوات من تدخل الصندوق ، انخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد من 468 دولارًا في عام 1978 إلى 288 دولارًا في عام 1984.ولم يتمكن البرنامج الاقتصادي للصندوق من تحقيق اي من الاهداف الكمية المطلوبة سواء كان ذلك في خفض معدلات التضخم وخفض عجز الميزانية والميزان التجاري او استقرار سعر الصرف.
سابعا/ مقارنة مع الفترة الاولي في تدخل الصندوق في أقتصاد السودان في 1978-1984 تتسم الفترة الاخيرة في حقبة حكومة حمدوك/البدوي بتهافت وارتماء في احضان الصندوق وسرعة متناهية في تطبيق كل التوصيات في فترة قصيرة واكثر قسوة لدرجة ازعجت مسؤلي الصندوق الذين عادة ما يطالبون بضرورة ترتيب الأولويات في تطبيق بنود الروشتة وعدم الاسراع في التطبيق لدرجة تثير المشاكل السياسية والامنية
Pace and Sequencing
ثامنا/ من الملاحظ التركيز علي مسألة الديون من قبل الصندوق ومجمل السياسات الاقتصادية المقترحة تشمل اجراءات تقشفيه قاسية تهدف في المقام الاول الي تمكين الاقتصاد من توفير قدرا كافيا من العملات الاجنبية ليتمكن من تسديد القروض لتلك المؤسسات الدولية
تاسعا/ من الملاحظ السنوات الاخيرة قد شهدت انحسار موجة النيوليبرالية في العالم الصناعي وكذلك في دول الجنوب في افريقيا وآسيا ودول امريكا اللاتينية والكاريبي وخير شاهد علي ذلك هزيمة الاحزاب اليمينية المتطرفة والتي كانت تتبني برامج نيوليبرالية صارمة انصياعا لروشتة صندوق النقد الدولي وعلي الرغم من ذلك نجد اصرار غريب من ساسة قحت في الاستمرار وتبني خط صندوق النقد وتجريب المجرب
عاشرا/ في برنامج الصندوق يكون التركيز علي العون النقدي المباشر وثمرات وهذا يعكس جوهر عقلية برنامج النيوليبرالية والتي تهدف الي تحطيم البنيات الاساسية لإي اقتصاد وطني وخلق اقتصاد تابع مكبل تماما بالمنح والهبات والقروض مما يؤدي الي مزيدا من التبعية والاستنزاف في اعادة تسديد اقساط الديون والعودة مرة اخري للحصول علي مزيدا من الديون بشروط اكثر قساوة وتجربة مصر ماثلة امام اعيننا مصر التي اصبحت الان ترهن اهم اصولها التاريخية لتسديد الديون المتراكمة.
تعتبر افادات بروفسير علي عبدالقادر حول علاقة السودان بمؤسسات بريتون وودز ذات اهمية خاصة لعدة اعتبارات منها السجل الأكاديمي الحافل والمشرف للبروفسير علي عبدالقادر وكتاباته المقدرة والمميزة في الاقتصاد السياسي واقتصاديات التنمية مع التركيز علي القارة الافريقية والشرق الاوسط والسودان لأسباب معروفة بحكم الانتماء ونجد المزيد من المقالات في هذا الصدد في كتبه المتعددة منذ ثمانيات القرن الماضي ويشمل ذلك قدرا كبيرا من المقالات والبحوث والأوراق خصصت لمناقشة علاقة السودان والقارة السمراء مع مؤسسات التمويل الدولية اضافة لعدد ضخم من المحاضرات والندوات والسمنارات علي المستوي المحلي والاقليمي والدولي ومما يكسب مساهمات بروفسير علي عبدالقادر أهمية خاصة الروح العالية والانحياز المطلق لقضايا العدالة الاجتماعية وأهمية البعد الاجتماعي في قضايا الاقتصاد وضرورة التعامل معها بعيدا عن النظرة الفنية الضيقة لتمتد نحو فهم اعمق و اكثر من ذلك لتشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية او مايسمي ب
Interdisciplinary Approach
من الملاحظ ايضا في فلسفة بروفسير علي عبدالقادر ومنهجه الاقتصادي عدم التزامه بخط ايدولوجي محدد واتباعه النهج التطبيقي التجريبي المبني علي المعلومات والحقائق علي ارض الواقع وتحليلها استنادا علي النظرية الاقتصادية المناسبة
Empirical Approach
في الوصول الي معظم نتائج اوراقه ومساهماته المعروفة ونجد هذه المساهمات خاصة في مسألة سياسات مؤسسات التمويل الدولية وتاثيرها في تعميق ازمات دول الجنوب الكوني ليست معزولة في ادبيات اقتصاديات التنمية والاقتصاد السياسي للتخلف بل يشاركه الرأي في ذلك عدد مقدر من العلماء والباحثين وعلي رأسهم بروفسير جوزيف استغليتز الاقتصادي المرموق والحائز علي نوبل في الاقتصاد للعام 2001 واشتهر بمساهماته الضخمة في نقد الأساس النظري لهذه المؤسسات فلسفة النيوليبرالية ومبدأ اعلان واشنطون وايضا التجارب والممارسات الفعلية لهذه المؤسسات عند تطبيق هذه السياسات خاصة في القارة الافريقية
للمزيد من مساهمات بروفسير استغليتز علي هذا الرابط
https://www.alrakoba.net/31384027/رسالة-مفتوحة-ومباشرة-إلى-د-حمدوك-رئيس-

في الختام نود ان نؤكد ان التعويل علي الحلول الخارجية وانتظار المنح والهبات من العالم الخارجي غير مجد وغير مفيد وان مؤسسات التمويل الدولية غير مكترثة لدول العالم الثالث في ظل الظروف الدولية الراهنة والسودان بل دول الجنوب الكوني بمجملها قطعا ليس من اولوياتها!!!! .
مجتمع التنمية الدولي والقطاع المالي والاستثمارات الاجنبية كل ذلك متاثر بما يجري حول العالم من اشكالات التضخم والحرب في اوكرانيا ومشاكل الطاقة والوقود والتغيير المناخي مما يجعل السودان في اخر قائمة اهتماماتها!!!!
والاهم من كل ذلك كيف يمكن لشلل التسوية والهبوط الناعم العودة لتجريب المجرب وتطبيق روشتة الصندوق التقشفية الانكماشية والكل يشهد نتائجها ماثلة امام الاعين إذ ان جبريل ابراهيم وزير المالية لم يتوقف يوما واحدا في تطبيق برنامج الصندوق زيادة الضرائب والجبايات وتحرير سعر الصرف والدولار الجمركي وهي من اساسيات روشتة الصندوق المعروفة سلفا للجميع !! .
ايها الثوار هبوا الي ثورتكم فالقادم خطير وينذر بتمكين جديد لشلة من القتلة والعملاء والمجرمين!! .

 

د. محمد محمود الطيب
مارس 2023
wesamm56@gmail.com

References
علي عبدالقادر، 1990، "من التبعية الي التبعية: صندوق النقد الدولي والاقتصاد السوداني "
القاهرة : دارالمستقبل العربي
الطبعة الثانية (منقحة) 2021
Ali, A.A, (1984), “Some Aspects of the Sudan Economy”
Khartoum University Press
The Imf, the World Bank and the African Debt: The Social and Political Impact:
https://www.abebooks.com/servlet/BookDetailsPL?bi=22660967943&cm_sp=snippet-_-srp1-_-tile1&searchurl=an%3Dbade%2Bonimode%26ds%3D10%26sortby%3D17%26tn%3Dimf%2Bworld%2Bbank%2Bafrican%2Bdebt
https://www.aljazeera.net/amp/blogs/2017/2/3/جوزيف-ستيغليتز-مرتد-عن-الرأسمالية-أم
https://www.project-syndicate.org/commentary/breaking-the-neoclassical-monopoly-in-economics/arabic

 

آراء