تجربة بخت الرضا في الجمعيات والتأهيل الديمقراطي

 


 

 

قيام الفرد بالممارسة الديمقراطية في الحياة العامة ليس أمراً فطرياً ينشأ عليه، وإنما يتعين أن يؤهل له وفق أدوات التربية التي تعين على خلق الروح المتسامحة وتدعم قيمها، بكل ما يستبطن ذلك من قدرة على تحمل مسؤولية اتخاذ القرار وتبعاته، والسعة لتحمل الرأي المعاكس والتناغم معه وفق الآليات التي تحفظ حق الأغلبية وترعي حقوق الأقليات، سواء كان ذلك من خلال التربية المجتمعية العامة، أو من خلال وسائل التعليم النظامي.

وقد فطن معهد التربية بخت الرضا لضرورة هذا الجانب التأهيلي وبدأ تجارب عملية لتنشئة الفرد الديمقراطي من خلال جمعيات صغار المزارعين والتي كانت بحق فرصة جيدة لزرع النزعة الديمقراطية لدى الطلاب، والتشبع بمعانيها. ومن ثم تطورت هذه التجربة إلى الجمعيات الصباحية وهي نوع من النشاط اللاصفي يقوم به الطلاب تحت إشراف المعلمين ويتم من خلال إدارة الطلاب للمناشط، وفيها يتعلم الطلاب الاعتماد على أنفسهم في اكتساب المعارف والابداع في ذلك والتعبير عن أنفسهم في المناشط المختلفة، والرقابة الجماعية على أداء الجمعيات وحسن الإدارة.

قيم مستر قريفيث أول عميد للمعهد وأبوه الروحي هذه التجربة في كتابه (تجربة في التعليم) الذي تفضلت بروفسير فدوى عبد الرحمن علي طه بنقله إلى اللغة العربية، فذكر: (من المدهش أن نفس المشكلات التي تحدث في جمعيات الكبار، والحكومة المحلية والقومية غالباً ما تحدث بصورة مصغرة في جمعيتنا. فعلى سبيل المثال بعيداً عن أن يصبح تلميذ المدرسة الصغير يفكر بصورة أكثر ديمقراطية، فإن موظفي نادي صغار المزارعين يشتكون من لا مبالاة العضو العادي. وما دام الأمور تسير بصورة عادية فإنه يتضجر من أي اقتراح لاجتماع، وإذا سارت الأمور بصورة سيئة فإنه يطلب اجتماعاً فورياً وينفس عن أفكاره بحد أقصى من السخط). وبالطبع فإن هذا التقييم جاء بعد فترة من التطبيق العملي وأدرك فيها مستر قريفيث القيم الرفيعة التي تنطوي عليها هذه التجارب. ولم تكن مثل هذه التجارب وليدة أفكار معهد التربية بخت الرضا في أصلها، وإنما استفاد فيها من خبرات تربويين سبق لهم الاستفادة من هذه الأفكار منهم السير نن في كتابه حقائق عن التربية ومبادئها الأولية Education: Its Data and First Principles، إلا أن بخت الرضا طورت التجربة ، ووضعت عليها بصمتها بما يناسب الواقع السوداني وظروفه الاجتماعية.

كتب مستر قريفيث بالاشتراك مع مكي عباس كتاباً عن تجربة الجمعيات سنة 1943، وضعا فيه الأسس لعمل الجمعيات المدرسية، ونوها إلى أن دور المعلمين فيها دور استشاري وليس تنفيذي، كما أوضحا فيه الأصول السلوكية لإدارة الجمعية وسير المناقشات فيها، وواجبات الأعضاء، وآليات اتخاذ القرارات وإدارة الأموال، وانتخاب الأعضاء التنفيذيين، وآداب الاجتماعات، وكيفية طرح الثقة في الإدارة التنفيذية. وعلى هدى هذا الكتاب انطلقت تجربة الجمعيات في بخت الرضا بما فيها الجمعيات الصباحية.

كان قدري أن أدرس بإحدى مدارس معهد التربية بخت الرضا وهي مدرسة الدويم الريفية ولم يتسن لي أن اشهد تجربة نادي صغار المزارعين التي صاغها المعهد لتدريب الطلاب على إدارة المجتمع الزراعي وتأهيله لاكتساب التجربة العملية لتطوير ذلك المجتمع، إلا أني شهدت طرفاً من تجربة الجمعيات الصباحية والابداع المترف الذي تنتجه والروح الديمقراطية التي تصوغ الطالب. فقد كان على جميع طلاب المدرسة الانعقاد في شكل جمعية عمومية في بداية العام لاختيار طالب من بينهم لرئاسة الجمعيات بالمدرسة، واختيار نائب له. إضافة إلى اختيار سكرتير عام وسكرتير مالي للجمعيات، علاوة على اختيار سكرتير ونائب سكرتير لكل جمعية من الجمعيات السبع وهي جمعية الثقافة والجمعية الدينية وجمعية الصحة وجمعية الحدائق وجمعية الرياضة وجمعية الموسيقى وجمعية الإصلاحات وهي الجمعيات التي تتولى النشاط الصباحي الذي يبدأ قبل اليوم الدراسي داخل الفصول.
وتجربة اختيار السكرتيرين عمل ديمقراطي يقوم به الطلاب وتمارس فيه كل أدوات الانتخاب بما في ذلك الدعاية الإعلامية والتكتل في شكل مجموعات لدفع بعض الطلاب للفوز وإسقاط طلاب آخرين. وأذكر أنه عند إجراء الانتخابات لاختيار القائمة الأولية فقد أحرزت 29 صوتاً من مجمل أصوات طلاب فصلي البالغ عددهم خمسة وثلاثين طالباً، إلا أنه عند طرح الأسماء للتصويت لطلاب المدرسة في شكل جمعية عمومية لم أحرز سوى 26 بمعني أنه حتى الذين صوتوا لي في الانتخابات الأولية تخلوا عني في الانتخابات النهائية، وذلك بسبب تكتلات ودعاية انتخابية من بعض المعارضين تمت على مستوى التواصل في الفصول، ومن ثم كان نصيبي أن حصلت على منصب أقل وهو نائب سكرتير جمعية الثقافة.

وتقوم الجمعيات بإدارة النشاط الصباحي اللاصفي بصورة مستقلة عن أعمال الفصل، فكل سكرتير مسؤول عن تنفيذ خطة الجمعية طوال فترته. ففي جمعية الموسيقى يقوم الطلاب المهرة بتعليم العزف على الآلات الموسيقية للطلاب الآخرين ، وتوفر الجمعية الثقافية الصحف اليومية للطلاب يتعليقها على الحائط المحدد لذلك كما توفر مكتبة غنية للطلاب الذين يمرون عليها. وفي جمعية الرياضة يتعلم الطلاب فنون الرياضات المتاحة في عدة ميادين في المدرسة منها ميدان لكرة السلة وآخر لكرة القدم وأخر لكرة اليد. ويتولى طلاب جمعية الصحة تنظيف المدرسة اجمعها بما في ذلك الفصول. أما طلاب الحدائق فيتولون تنظيف وتنظيف الخدائق بالمدرسة تجميلها.

أما أروع فعاليات الجمعيات فهي اجتماع الجمعية العمومية الذي يعقد في آخر العام ويناقش فيه الطلاب خطاب الميزانية والتقارير الختامية حيث يقدم السكرتير المالي تقريره المالي ويقدم بقية السكرتيرين تقاريرهم عن أداء جمعياتهم، وتخضع لمناقشة محتدمة من الجمعية العمومية التي تنعقد في شكل برلمان وتمارس فيها أدوات البرلمانات الحديثة من طلب فرصة النقاش وإثارة نقطة النظام والاستدعاء ورفض التقرير وتقديم الاقتراحات، وذلك برئاسة رئيس الجمعيات.

كانت هذه التجربة لطلاب مدرسة ثانوية عامة لما يتعدوا الخامسة عشر من أعمارهم، لكنها كافية لبث روح المسؤولية والتشرب بالقيم الديمقراطية وقبول الرأي الاخر واحترام القانون الذي يلف الجميع. وهي رغم القيم العالية التي تمثلها فإنها من ناحية مالية لم تكن مكلفة حيث أنها تقوم على جهد الطلاب في إدارتها وتسييرها. وكان يمكن أن تعمم هذه التجارب على كل مدارس السودان بقليل من الصبر.

ويظل السؤال الكبير لماذا تم وأد هذه التجارب الوطنية؟ أو لماذا تم وأد تجربة بخت الرضا رغم النجاح النوعي الذي حققته خاصة في مجال تدريب المعلمين وتطوير المناهج. أعتقد أن هذا الإخفاق ليس بعيداً عن جملة الإخفاقات التي لازمت العهد الوطني واضعنا فيها المؤسسات الناجحة التي بناها الاستعمار رغم الفرص الواسعة لإمكانية تطويرها. فضياع بخت الرضا ذو صلة وثيقة بضياع السكة حديد والخطوط الجوية ومشروع الجزيرة وغيرها من المشاريع الوطنية الموروثة عن فترة الاستعمار.

د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

abuzerbashir@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء