تجربتي مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة (1_3)
ندى حليم
21 October, 2011
21 October, 2011
مدخل أول :
من مرامي حياتهم الى مداخل روحي
على الرغم من أن أكثر من ثلاث أعوام قد انقضت منذ فترة انتهاء عملي معهم ،الا أن وجوههم تملأ مساحة واسعة في مخيلتي بكل تعابيرها: لحظة الحزن ، لحظة الفرح ، لحظة الانكسار ، لحظة الجرح الطفولي الخاص الذي لا يعلم سره أحد ، لحظة الأندهاش ، لحظات الرضا عن الذات والاحساس بالانجاز .
احساسي بهم مازال يملأ صدري الفة ومودة ، كانت مرحلة من حياتي العملية علمتني الكثير ، كشفت لي عن عالم كبير ، موجود بيننا ،ولكننا لانشعر به ، كشفت لي عن عجز مؤسساتنا الراعية في خدمة الشعب
بشكل أعمق وأوجع ، بل عن قصورها الذي وصل في تقديري حد الاجرام ، كشفت لي عن الأمومة في ثوب مختلف ينسجه الجرح ويطرز في أطرافه ندوبا تاريخية لا توجد لها ضمادات في بلاد اللاصحة ، كشفت لي عن معنى للانسانية لم يدرج في الكتب أو في الأشعار أو في القصص الخرافية . ترائى أمامي بحر من المجهول تتجاذبني أمواجه يمنة ويسرة ، وشل التفكير حركة كهرباء دماغي وتسمر حول كلمة واحدة "مامصيرهم "؟؟.
عاشرتهم طيلة خمسة أعوام ، منها ثلاث أعوام دراسية متواصلة ، وعامان دراسيان متقطعان ، عملت كمعلمة واختصاصية نفسية ، وكانوا تحت رعايتي بمشاركة اختصاصية أخرى ومعلم ، كان قسما من أحد أقسام تلك المؤسسة ، يضم مختلف الحالات للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة ، حالات متفاوتة في شدة الاعاقة ومختلفة بحيث أنني لا أجد أكثر من حالتان في الغالب تتشابهان ، سواء حالات متلازمة الداون "Down Syndrome" وهم الأطفال " المنقوليين" ، وكانوا الأكثر عددا مع اختلاف الدرجات حيث أنهم مصنفون الى ثلاث فئات ، وحالات " التوحد" "Autism." ، أما البقية فكان يقع تصنيفهم تحت التأخر العقلي ، ولأسباب مختلفة ، وبخصائص شخصية مختلفة ، وقدرات تواصل متفاوتة ، ومهارات فردية متفاوتة .
دون سابق خبرة ، دخلت عليهم أول مرة، الضجيج الطفولي ، الصراخ ، البكاء ، الدموع ، الضحك ، الصمت ، المعارك الثنائية والجماعية البريئة والشرسة في نفس الوقت ، والتي فيما بعد علمت أنها لأي درجة كانت متنفس ووسيلة تفريغ تلقائية . لم أعرف من أين أبدأ ، كانو غير منتبهين ، لهم عالمهم الخاص أنه معزول عن العالم الخارجي ، وكل منهم عالم بذاته ، أفكار وأحلام ، وأحاسيس ، وتصورات تخصه لوحده ، بطريقة مختلفة ، لهم ذات حاضرة وموجودة ،لهم ادراك حاضر ورؤية ثاقبة ، الناظر لأول مرة بل ولعاشر مرة لا يدرك أنها موجودة ، لأننا وببساطة مجتمع لايريد أن يعلم بوجودهم .
لهم عالم أخضر وواحات ، لهم أحاسيس تتفتح مع كل صباح كما الزهور لتجد ماء السقيى عكر .
أستجمعت أشلاء انتباهي الموزعة في وجوههم وصراخهم ، وقلت بصوت عالي " : السلام عليكم " ، وجاء رد التحية متفاوتا مابين الصراخ والهمس واللا شيئ ، شرعت في المصافحة الفردية والابتسام الذي دائما أنا مقتنعة بأنه" مدخل انهاء أثخن المعارك ،وابتداء أزهى النزهات" ، وكانت رحلة المصافحة استكشافية ، عيونهم تلمع وتساؤل جديد في أذهانهم "من هذه ؟ أهي جلادة جديدة ؟ ولا أبالغ حين أقول جلادة حيث أنني أكتشفت فيما بعد أن منهج التربية والتعليم المستخدم مع تلك الفئة في السودان غالبا هو الضرب، كأمتداد للعادات التربوية المنزلية والمدرسية عندنا ، لكن مع فارق كبير بينهم والأطفال الأسوياء ، هو أن الطفل السوي يعي تماما سبب معاقبته بالضرب، أما الطفل المعاق ذهنيا فلا يعلم ذلك في أغلب الأحيان ، لكن ابتسامتي طمأنت غالبهم لدرجة أن بعضهم قام من كرسيه ليبادر بالمصافحة ، وكانت أولى المؤشرات لي كدارسة لعلم النفس " فعندها كنت ما أزال في الجامعة " ، التي اعتمدت عليها في تقييم المعاملة التي يلقونها ، فمجرد أن الابتسامة والبشاشة في مقابلتهم تعد حدث يقابله رد فعل مختلف ، ان هذا يدل على بيئة انسانية ذات مقومات هزيلة تحيط بهم ، وعندما أقول معاملة لا أعني المؤسسة التي كنت أعمل بها فقط ، بل أعني جميع المؤسسات الأخرى وأسرهم وأصدقائهم ومؤسسات الدولة ، وهذا لأسباب عامة مشتركة ، سوف أقوم بشرحها في شيئ من التفضيل لاحقا.
بعد مضي فترة من العمل أثمرت التعود والاندماج بين مايدور في ذهني وأذهانهم ، مايدور في وجداني وأحلامهم ، مايدور في فكري وأوجاعهم الخاصة ، تبلورت بعض العلاقات بشكل استثنائي ، لكنه طبيعي في عالم التعليم والتعلم سيما عندما يتزامن معه الأرشاد النفسي والعلاقات مع الأسر وأولي الأمر :
التلميذه "ض" ذات التسع سنوات" التي كانت تهرول نحوي كل صباح حالما رأتني أدخل فناء المدرسة ، وبابتسامة عريضة وبشاشة طفولية تفتح لي ذراعيها لنتبادل السلام بالأحضان ، وتقول لي " استاذه ازيك" . وتردف قائلة " أمي بتسلم عليك " تقولها بلكنة واثقة لكنها ذات مخارج حروف خاطئة وأشرع في تصحيحها ، لتبتسم وتكرر النطق في محاولات بعضها خائب وبعضها صائب ، وتفر جارية لتخبر البقية بصوت عالي مندهش وفرحان "أستاذه ندى جات" ، وقع نقلها للخبر كان يجدد فيني كل صباح احساس قيمتي " كأنسان" واتمسك ببقائي في المؤسسة رغم الصعاب المهنية المهولة ، كنت أعلم تماما أن والدتها بعثت لي السلام مرة واحدة ، لكنها تكرر الرسالة كل صباح وعلى مدى طيلة العام ، في محاولة منها لتأكيد خصوصية العلاقة بيني وبينها ، وحدث ذلك بعد أن اتبعت معها منهج " التحفيز المعنوي" لتفادي مشكلة تشتت الانتباه والجلوس ساعات طويلة في الكرسي خلف المنضدة لأداء المهام الدراسية ... عندها أدركت الى أي حد هي محرومة من كلمات المدح تلك . سواءا في المنزل أو من خلال الأسلوب التعليمي " كمحفز نفسي".
وهذا الحرمان ناتج عن فقر من حولها للاحاسيس الايجابية تجاهها " كطفلة معاقة " ، ليس لانهم أناس سيئيين بل لعدة عوامل أولها أن ذويها قد يكونون الى الآن لم يتجاوزوا مرحلة الصدمة والاحباط الكثيف الذي تراكم في داخلهم يوما بعد يوم ، وثانيها أن أفكارنا تجاههم كمجتمع ومؤسسات تجعل منهم عبء ثقيل ولافائدة مرجوه منه ، بل وفي غالب الأحيان مصدرا للعار .
أما التلميذ"م" ذي السنوات السبعة عشر، كان يجر كرسيه المتحرك في فناء المدرسة بثقة وخبرة ، له ابتسامة تملأ فناء المدرسة اشراق ، ولي معه التجربة ذات الزمن الأطول من خلال الدروس الخاصة ، أنه علمني أن قيمة الانسان الأولى تكمن في المكون الروحي قبل الجسدي ، رغم اصابته بعدم القدرة على النطق كان يخرج تلك الحروف الملعثمة بكل ثقة ويصر أن يوصل وجهة نظره ورأيه بقدر وافي من الأدب والاحترام المقصود تجاه معلميه ، ولا أذكر أنه خاب في تقديم مقترح أو رأي يخص الدروس كان على الدوام له منطق ، ويقبل بود المقترحات الأخرى والنقد .
على الرغم من مشاكل التركيز والاستيعاب والذاكرة ، استطاع أن يجلس لامتحان الشهادة السودانية ويحرز نسبة أعلى من السبعين بالمئة ، لا أقول انها رحلة تعليمية سهلة معه ، انها أصعب ماتكون في ظل عدم وجود منهج خاص وعدم وجود وسائل ومعدات تعليمية خاصة ، حيث يقع على عاتق المعلم المبادرة بخلق الوسائل والطرق والتدابير، والتي غالبا تكون غير مجربة من قبل ، والتداخلات النفسية بينك وبين تلميذك ذوي الحاجة الخاصة كمعالج نفسي وبين أسرته ، تتطلب منك اليقظة الدائمة والتفكير المستمر ، واتخاذ القرارات وتنفيذها بالشكل الذي تقتضيه متغيرات الحالة وفي الوقت المناسب بدقة وحذر .
لطالما تحادثنا عن أشياء تخصه.. طموحاته وأحلامه ، أصدقاءه وصديقاته ، أفراد أسرته ومشاعره تجاه كل منهم ، هواياته ، برامجه التلفزيونية المفضلة ، وعند عمق من الطمأنينة بعد طول زمان من عمر العلاقة المهنية التربوية ، تحدثنا عن انطباعاته تجاه الأساتذة أنفسهم ، قواعد التربية الأسرية كانت تجعله يبوح عن ذلك بشيئ من الخجل ، أدركت الى أي حد أن "م" يتمتع بقدرة على التواصل وفهم المحيط من حوله، بالرغم من مشكلاته المعقدة والتي بدأت معه منذ الأشهر الأولى من عمره .
بعد فرحتنا جميعا بالنسبة العالية التي أحرزها في امتحان الشهادة السودانية ، انتابنا احباط كبير ، فلا توجد جامعة يمكن أن تستوعبه وتحمل طموحاته على محمل الجد والمسؤولية الانسانية . "م" محظوظ بأسرة متعلمة ومستنيرة ، سرعان ماتقرر دراسته بالخارج حيث يمكن أن تتوفر له حتى بعد الدراسة وظيفة تلائم امكانياته حسبما تأكد لوالده .
فكم مثل "م" تتوفر لدى أسرهم القدرة المادية لالحاقهم بجامعات أو وظائف خارج البلاد ؟؟
من هم الأطفال ذوي الأحتياجات الخاصة؟
هؤلاء الأطفال يصنفون الى نوعين أساسيين " : الموهوبون"، "والمتأخرون في النمو"، وببساطة يمكن أن نقول أنهم الأطفال الذين ينحرفون عن المتوسط بدرجات واضحة البعد ،سواءا كان في قدراتهم الذهنية أو النفسية أو البدنية الحركية أو التعليمية أو من حيثِ الخصائص السلوكية، أو من حيث القدرات العقلية ، بحيث يكونون في حوجة لتقديم خدمات التربية والتعليم بشكل خاص ومختلف ، وعندما يكون هذا البعد عن المتوسط نحو الموجب " يكون الطفل موهوب وقدراته تنحو باتجاه الابداع ، وعندما يكون البعد نحو السالب يكون الطفل متأخر في نموه ونتحو قدراته في نقصان وضمور يصل حد العجز . وهذه الفئة هي محط حديثنا الآن ، ومحط تجربتي ..
حديثا اتجهت المؤسسات التربوية الى عدم استخدام مصطلح "العوق" والذي من خلاله نصف المعاقين بالعجز والأضطراب والشذوذ في الصفات الخلقية ، وبدلا منه طالبوا باستخدام مصطلح الاحتياجات الخاصة "Special Needs.". الا أنهم رجعوا واستخدموه باعتبار أن احتياجات خاصة تشمل حالات أخرى من الأمراض مثل السكري أو أمراض القلب أو الأزمة التنفسية ، فكلمة اعاقة تدل بشيء من التحديد على الفئة المستهدفة . ِ
الى لقاء في الجزء التالي وماذا عن معاناة الأسرة ... وماهي الاعاقة الخفية ؟؟ ومن هم ذوي صعوبات التعلم .
Nada Haleem Saeed [nadahaleem19@yahoo.com]