تجنبوا ثمن الخيانة ولو كان تاجاً على الروؤس … بقلم: د. الفاتح الزين شيخ ادريس
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الكلمات الشامخة الصادقة والمتألقة قالها المفكر الفرنسى " فولتير" ولعله أراد أن يهديها لكل كاتب حر صادق شجاع ، ذلك أن الكاتب الذى يحمل على صدره تاجاً غير منظور إنه يصف لنا عالم الله ويهدينا الى الحقيقة ويضع عنا إصرنا وأغلالنا ولولاه لبقيت الارض يطمرها اليأس وتغطيها الظلمات فالكلمة منطوقة ومسطورة كانت فى بدايات حياتنا بمثابة أجراس النصر تدق للانسان ، ومع الكلمات الاولى التى إنفرجت عنها الشفاه أو سطرتها الاقلام أعطت المقادير إشاره البدء للقافلة البشرية وأصبح معروفاً من يومئذ أن لواء السياده على هذه الكواكب سيعقد للانسان وأن المستقبل سيدخل فى طاعته وأن المجهول سيفضى له شيئاً فشيئاً بأخباره وأسراره وأمام كل عمل وكل إبداع من العصور الموغلة فى القدم حتى يومنا هذا نجد الكلمة الحره الشجاعة الذكية تنشىء العمل وتخلق الابداع ، كانت الكلمة منذ بدئها تعنى ميلاد فكر جاء على شوق وقدر ولقد بدأنا نعى وجودنا يوم تكلمنا ويوم فكرنا وكتبنا.. يومها شرعنا نجاوز الظلام ونتخطى العماء ونخترق أسوار العزلة ولا نكون مغالين اذا قلنا : اننا يومئذ أعطينا شهادة ميلادنا ووثيقة أدميتنا ذلك أنه حين فضت الافواه أقفالها وأمسكت الانامل بأقلامها بدأت أولى خطواتنا فى السيطره على ما معنا وما حولنا وبدأ الوجود الانسانى ينهض قائماً ، ولكى نعرف قيمة الكلمة وما وراءها من فكر حر رشيد علينا أن نتصور الكوكب الذى نعيش فوقه وهو خال من صاحب الكلمة الانسان أعزل الانسان عن كوكب الارض وتخيل ذلك فى غيابه وأنظر ماذا ترى ؟؟ لن ترى التيه والظلام حقاً سيكون هنالك بحار تصطحب أمواجها وعواصف تزلزل الارض وشهب ووحوش ودواب وزواحف ثم ماذا بعد لاشىء سوى الخواء والعماء وظلمات من فوقها ظلمات ، إن الطبيب والاديب الفرنسى "ديهاميل" يتساءل فى كتابه " دفاع عن الادب " "إلام يصير العالم لو علق فجأة بالورق مرض جديد يحيل كل المكتبات تراباً ؟؟ يخيل إلى أن البشرية بفقدان كل المكتبات لن تفقد من كنوزها الفنية أو ومن تراثها الروحى فحسب بل ستفقد أيضاً وبوجه خاص وسائل حياتها " اذن ليس هنالك من جلال يفوق جلال الكلمة ، ام ليس هنالك غرض مهما تكن قداسته وحتميته يستحق ان تعطل من اجله الكلمة ، لذلك أن الارض يبدو أنها أعدت وهيئت مسرحاً للكلمة ومجالاً للفكر ليس غير ، وبعد أن كانت مكاناً موحشاً صارت بالكلمة مكاناً مأنوساً ولاشىء ينقص من عظمة دور الانسان على الارض مثل الانتقاص من سيادة الفكر والتحديد غير المشروع لنشاط الكلمة فلننظر مثلاً ألسنا نؤمن بأن محمداً أخرج الناس من الظلمات الى النور وأضاء فى الضمير نوراً حدد خطاه ورسم طريق البشرية ولو أن محمداً حين وقف يعلن أنه لا اله الا الله ذهب ضحية خصومة من أعداء الكلمة والصدق والحقيقة فمن ذا الذى كان سيبلغ رسالة الله ويتلو على الناس قرآنه ، من الذى سيرفع رأية التوحيد فوق أنقاض الوثنية ويذيع نعى أرباب الارض المتجبرين فيها وينادى الكادحين والبسطاء الى يومهم الموعود فى عالم الناس فيه سوسية كأسنان المشط ؟؟ حقاً إن الكلمة هى الحياه أطفىء الكلمة ينطفىء نور الحياه أعد الحياه الى صمتها القديم وأكبح الاقلام ترجع الحياه الى بداوتها وخشونتها ووحشتها . ذات يوم حمل رجل أوربى قلمه وراح يكتب ويسجل رأيه فى العصيان المدنى كسلاح تستخدمه الشعوب المظلومه وكان هذا الرجل اوربى يدعى " ثورو" خط كتابه بيمينه ثم مات وضاعت صفحات التى خلفها فى زحام الحياه بل ضاعت وذهبت أدراج الرياح حتى وقعت فى يد شاب هندى وكان يعانى فى جنوب إفريقيا مع المغتربين من بنى جنسه إضطهاداً وإستبداداً مذلاً ، فاذا الكلمات التى حسب الزمان أنها ضاعت أشعلت فى قلبه النار وأصبحت طريقه الى الخلاص من الطغيان والظلم أن الكلمات وقعت فى الزعيم غاندى الذى إستطاع بسحر الكلمة أن يحقق أعظم إنتصار لابناء وطنه أنها الكلمة المكتوبة ، واذا نظرنا لكل ثورات التحرير نجد بين يديها فكراً باسلاً وكلمات أشد قوة من السيوف بل ظلت الكلمة القوى التى هدمت صروح الجبارين وأذلتهم وأصبحت الكلمة النور الذى هدى البشرية الى مدارج الارتقاء ، أحمل بيدك ورقة بيضاء وسل نفسك كم تساوى هذه الورقة ؟ أنها لاتساوى شيئاً وورقة مثلها كتبت عليها عباره بخط مناضل أو مفكر تجعلك تحترم ماكتب والذى كتب أنها الكلمة ، الكاتب الحر له منزلة ومكانة رفيعة لذلك حق أن يطلق عليهم أصحاب الجلاله إذا إحترموا عقولهم ووقفوا الى جانب الحقيقة باحثين عنها هادين اليها أو اذا فكروا من أجل المصير الانسانى فى مثابره وإحترام ، وقبل أن يدعو الكاتب الناس الى الايمان بالكلمة عليه أولاً أن يؤمن بها فالكاتب المؤمن برسالته يستطيع أن يمنح الاخرين هذا الايمان فالذين يخاصون لعملهم ومهنتهم يمثلون المستقبل الذى نريده ، ويقول أحد الكتاب نحن نملك نار الفكر التى لا تنطفىء والتى من لهيبها تنبعث كل حياه جديدة ، الكاتب الصادق الحر الشجاع يتقلد تاج غير منظور ومثله مثل النور الذى تبصر به البشرية طريقها بل كأنه الروح التى تملأ الجسد حيوية ونشاط ، ذلك كله مرتبط بما تكنه لنفسك ولقلمك من احترام بقدر ما تتحرر من إغواء الشهرة وإغراء النجاح ، ولطالما كان رواد الكلمة الاحرار يحاذرون على موهبتهم من النجاح التجارى الذى يجرف الكاتب بعيداً عن المرفأ الآمن حتى قال أحد الكتاب " العبودية والانحطاط جزاء وفاق للنجاح والكاتب الذى يروج قبر موهبته المتعجلة غير ممتاز وغير مرغوب فيه ، فقد ذكر احد الكتاب انه لو احترف احد أبنائه الكتابه وسألنى أن أنصحه لما قلت له غير هذه العباره " أحذر النجاح " وعليه يجب أن يفكر الكاتب فى النحاح المزيف الذى يصرف الكاتب عن اهداف الكتابه ويقص اجنحته ويزج به فى مذبلة التاريخ ، وعلى الكاتب أن يفكر فى النجاح الذى ينال منه الشجاعة واظهار الحقيقة نظراً لكل ذلك إحذر النجاح لان للنجاح باب يغلق ولكل نجاح أمل يكبل ولكل نجاح مستقبل يقبر وكل نجاح عدوك ، والمقولة الحقه ليس من المستحسن ان يكون للكاتب كثير من المعجبين وكل رجل ذى عمل مع الجمهور عليه ان يطهر الهواء المحيط به بمظهر الحقيقة ، وليعلم الكاتب أن الخوف من النجاح مرده الى أن النجاح فى كثير من حالاته يكون كما ذكرت سابقاً ملتوياً يثنى من اهداف الكاتب ومبادئه ويطوعها للاغراض والاطماع الباطله ، ثم إنه كثير ما يجرف الكاتب بعيداً عن الاصاله والاخلاق ويجعل الكاتب فى درجة الامبالاه فيما يكتب ، علماً بأن اللامبالاه لا تلد أعمالاً ضحله فحسب با أنها تصيب الموهبة بالهزال إن نجاحاً من هذا النوع لا يكلف الكاتب كبير عناء بل يصبح كل همه ترويج بضاعته الخاسره ، ففكرة الكتابة الاصيله لاتصنع على عجل لان الافكار التى يمكن أن تكون ماده لاى عمل تحتاج الى نضج بطىء فهى تولد فى ذهن الكاتب وتبقى زمناً طويلاً فى عقله وفكره دون حراك ثم يحس الكاتب شيئاً فشيئاً أنها تتغذى وتأخذ فى التكوين وأخيراً تبدأ الحركة المضنية ثم تتبلور الافكار وتأخذ طرقها الى والورقه البيضاء لتسجل وتخرج للقارىء كاملة التكوين ناضجة فهنالك كتاب يعيشون والسروج فوق ظهورهم ، فالكاتب الحر الصادق الشجاع لن يكون من هؤلاء أبداً ليس ذلك فحسب بل أن مهنته ورسالته أن يدعو الاخرين الى التمرد على الاغلال وإلقاء السروج أرضاً وواجبه أن لا يكون بوقاً للسلطة ولا عبداً للشهرة ، ومهمته أن يقف كحارس البرج يدفع عن الحقيقة كل زيف ونفاق وكذب وضلال ، وينادى المأسورين الى الانطلاق والحرية والعدل والمساواه ، والعار الاكبر أن يشترى الكاتب منصباً أو ثروة أو جاهاً ويستبدل بها مكانته الحقيقية ككاتب ومفكر ومقاتل باسل فى سبيل الحقيقة والناس ، كل كاتب يكبر ويعظم بقدر إستعداده للتضحية فى سبيل كلمته وقلمه ، وليس هنالك أروع من هذا الذى يرفض أشياء كثيره يسيل لها اللعاب من أجل أن تبقى له حريته وسيادته على فكره ونفسه ، هذا النوع من الكتاب هم الذين أبحروا بالبشرية الى مستقبلها الواعد العظيم وهم الذين خلدوا قيمة الصدق وأثبتوا جدارة الانسان بأمسه و يومه وغده ، إن الكاتب الحر لايحاول أن يوفق بين نفسه والدنيا فى ضعف وذله ، فكثير من الرجال كانوا رجالاً لانهم إنشقوا على السائد والمألوف ولا شىء فى النهاية يبعث إحترامك مثل نزاهة عقلك وروحك ، ماذا ينتظر الناس من الكاتب حين يحمل قلمه بيمينه ويتهيأ ليكتب ؟ هل ينتظرون منه أن يسليهم ويخدعهم و يجاملهم ؟ كلا إنما ينتظرون منه أن يوضح لهم الحقيقة ويساعدهم على رؤيتها ، ينتظرون منه ان يفسر لهم التجربة الانسانية فى بؤسها وعظمتها ، ينتظرون منه أن يسبقهم الى الدروب غير المطروقة حاملاً روح الرواد ، ينتظرون منه أن يحررهم من أوهامهم وأن يكون عوناً لهم فى مواجهة قراصنة الحياه ، هذه مهمة الكاتب المحترم الكاتب الذى لديه فكر يريد أن يبلغه الناس خاصتهم وعامتهم ولديه إيمان وثيق بالكلمة وبالانسان وبالحياه ، نريد كاتباً تعود أن يحمل قلمه كلما بدأ له ، لا كلما طلب منه هؤلاء الكتاب يناديهم صوت من بعيد يقول لهم ما قاله أحد الفلاسفة " ألا فلنفعل كل ما فى وسعنا من أجل الخير والصدق .. ولنحب الحرية فوق كل شىء آخر .. ولنتجنب خيانة الحقيقة ولو كان ثمن الخيانة تاجاً على الرؤوس " .
Elfatih eidris [eidris2008@gmail.com]