تحديات القبول الأعمى للبرمجة وأثرها على تجربة الحوار!!!

 


 

 

sbudafair@hotmail.com

نشأتُ متمرداً، ولا أدري من أين جاء التمرد، ذلك الذي شكل وعياً مبكراً في حياتي، عندما كنا نذهب للمزرعة (الزرع) كان الناس عادة يسلكون الطريق المألوف الا ذاك الفتى المتمرد على الجماعة، فكنت اسلك (شرول) اي أشق طريقا لوحدي... وكانت تجربة صعبة، لابد من تحمل لسعات النحل والعقارب ولدغات العناكب والثعابين وكل التحديات. كانت متعتي في ذلك ممارسة هواياتي في الغناء ومطاردة الحيوانات ومحاكاة الطيور، ولكن هذه الانشطة ليست مقبولة، مع الكبار يجب أن تتقيد بالآداب والقواعد الاجتماعية. ولكن بالتكرار - ذهاباً واياباً- اصبح ل(الشرول) اثرا، حفز أخوتي الصغار ان يسلكوه، وبمرور الوقت اصبح كل أعضاء الاسرة يسلكوه.. لقدأضحى طريقاً سالكاً، وقتها ادركت أن الشخص المبرمج والذي يمتلئ حقداً، كراهيةً وعنصرية، يستحيل أن يتغير بالوعظ والارشاد، قد تجد إمام مسجد يتحدث عن الغش ويبكي ويبكي الاخرين، ولكن بمجرد خروجهم قد يمارسون الكذب والغش الذي كانوا يبكون منه قبل قليل، فقط خداع الذات، فأذا اردت فك اي برمجة فما عليك إلا إبتدار طريق جديد، شركة ابل بدأت وقتها الناس يستخدمون الاندرويد ولكن عملت لنفسها (شرول) واسمته( iOS) وما كان في البداية بدعة، اصبحت شيئا مألوفا، اقبل عليها الناس حتى الذين كانوا يحذرون منها. ان تغيير اي مجتمع لابد معه من تحمل عبء فتح طريق جديد، فإن وجدت نفسك مع الآخرين في ذات الطريق اعرف يقينا أنك لم تكن قادراً على الاتيان بجديد، فكل الذين طرحوا جديدا فارقوا الجماعة.

ثورة ديسمبر من اعظم الثورات, شهدت مطالب قوية، وشعارات نبيلة (حرية سلام وعدالة) و(يا العنصري المغرور، كل البلد دارفور) و(العسكر للثكنات والجنجويد ينحل)، كانت شعارات صادقة لتطلعات سامية. ولكن مع بداية التفاوض وعملية الدخول في تكوين الحكومة تحولت معظم الشعارات الى سراب يحسبه الظمآن ماءاً تحت مظلة برمجة الانانية والعنصرية والاحادية وغيرها، وانت الاصيل في الثورة وغيرك مجرد تأثيرات جانبية، وهذا الذي جلب الاختلاف مكان الاتفاق والهدم بدل البناء, لم تحدث الثورة وعياً في البرمجة العقلية (mindset)، فاللغة التي كنا نستخدمها قبل الثورة لم تتغير، ولا تغيّرت مبادئ الأخلاق أو الوعي بمكونات الثورة. إكتفينا فقط بترميم الأساليب القديمة، وأنتاجها بشكل جديد، وللأسف دفعنا ثمناً باهظاً خسارة ثورة وتدمير وطن. كنا دوماً نفكر بما يرضي رغباتنا بدلاً من كيفية التفكير، فاذا تعلمنا كيفية التفكير سنتحرر من قيود الماضي، الماضي الذي اضاع ثورتين والثالثة في الطريق وقد يضيع الوطن بأكمله، كل ذلك من البرمجة التي تلقيناها وقبلناها على أنها حقيقة ولم تجد نفعاً، لابد من تفكيكها، لان التغيير يتطلب طريقا جديدا.

سؤالاً ظللت لسنوات اطرحها على نفسي، اخيراً اتضح الإجابة تكمن في عالم البرمجة. لنعيش حياة سعيدة يجب أن تكون أفكاراً وسلوكاً معينة في مكانها ممنوع الاقتراب والتصوير. الله سبحانه وتعالى عندما ناد سيدنا موسى من جانب الطور الايمن وطلب منه فاخلع نعليك أنك بالواد المقدس طوى، هل فكرنا في المعني اما ذهبنا مذهب البرمجة، السؤال هل كان سيدنا موسى وقتها لابس مركوب، ولا قمر بوبا، ولا اصلاً كان حفيان، فالمسألة برمتها متعلقة بالبرمجة اخلع نعليك، يعني تخلى عن كل ثقافة ومعتقدات أهل القرية. فتم فرمتت المخزون الثقافي لدى سيدنا موسى عليه السلام بلغة الكمبيوتر. وتم مناداته من الجانب الايمن من الدماغ، الذي من مهامه الايقاع والادراك Harmony، والابعاد والخيال وكل ما يتعلق بالايحاء والتفكير لكي يحولها الجانب الايسر إلى برنامج عملي قابل للتنفيذ في حياة الناس، أذن لابد للمناداة من جانب الطور الايمن دون الايسر. وكما حصل لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم في شرح الصدر الم نشرح لك صدرك وضعنا عنك وزرك، يعني تم توجيه الطبق (الدش) نحو علم الهدى وفرمتت الظهر من أي وزر، اي من ثقافة اهل القرية (مكة)، الجاهليه والاحادية. لذلك كان لابد ان يهاجر الي يثرب ويغير اسمها للمدينة، فالمدينة مجتمع تعددي، والقرية مجتمع آحادي لذا تم هلاك كل القرى في القرآن، إلا مكة وسميت ام القرى وطلب من الرسول صلي الله عليه وسلم ان يحدد حدودها والله اعلم .

التعددية أن تكون بينك والاخر حوار وارضية مشتركة مما يجعل الأفكار نسيجاً واحداً، فكل واحد يعاون الاخر فتنشأ علاقة حوارية تبادلية في منتهى الروعة والجمال، يرفدك بأفكاره وانت تغذيه بافكارك فكل واحد يمتلك أفكاراً لم يمتلكه الاخر فتزداد الثراء وتتدفق العطا, بدون الحوار يكون البديل الإقصاء هو العامل الذي يحول الإنسان من كائن وديع إلى حيوان مفترس مستعد أن يلحق بالاخر اشد صنوف الأذى والعذاب الذي يخشاه. البشرية لا تتطور إلا بقبول التعددية ونبذ الآحادية وافراد مساحة للاخر ليكون ضمن المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، فالحوار أقوى آلية لبناء المجتمع وتعزيز التعاون والتفاهم ويساعد في زيادة ووعيهم على تقبل التفكير النقدي واستجواب الافكار والمعتقدات.

فهم اخلاق المخالف ضرورة حتمية، وهذا يتطلب النزاهة والتسامح وتفنيد الحجج بدلاً من الإقصاء واعلان الحرب، المنتقم قد لا يفكر إلا في الشر لانه عاجز عن فهمك، مرات كتيرة نسجن الرأي في زاوية التمرد دون اعطاءه حق الحوار، وهذا الذي يكسبنا خاصية عدم الاعتراف بالخطأ والانحراف وقبول الايديولوجيا دون تمحيص الغاية تبرر الوسيلة، ونعطي أنفسنا الحق في هدم حقوق الآخرين، دون النظر إلى جذور المشكلة، فهم الاخر يتطلب السمو وتجنب الادانة القطعية الغير قابلة لاعادة النظر، فاخلاق الفهم يتطلب فهم الفهم ذاته، مما يسمح لنا بدراسة كل الظروف والابعاد، وفهم الشروط الذاتية والموضوعية للسلوك مما يجنبنا خداع الذات، ويحررنا نسبياً من التمركز حوله، وان لا نكون قضاة نحكم على غيرنا بمعلومات مضللة. فهم نقاط ضعفنا هو السبيل نحو فهم ضعف الاخر، وعندها نكتشف اننا جميعاً بشر معرضون للخطأ على مستوى الفرد والجماعة، واننا في حاجة متبادلة لفهم بعضنا بتغيير البرمجة. لا يوجد طريقة تسلكه بالخطأ وإلا تدفع الثمن. مثل الذي يرن على رقم هاتف خاطيء ويريد معلوماتك، أول سؤال مين معاى، لو قلت ممكن اسمك ورقم ميلادك يقول انت مين انت. لتجنب دفع الثمن دماءاً ودموع، وصراعات قد يؤدي إلى خسائر في الاراوح والأموال، آن الأوان أن نتعاون لنحقق مجتمعاً اكثر سلاماً وعدالة، وذلك لا يتم إلا باعتبار الماضي نقطة عبور نتعلم من اخطائنا فيه، لانه يستحيل تغييره، ونعمل من اجل رفاهية المواطن التي تحتاج إلى بذل جهداً مشتركاً لمنع تصاعد الصراعات، وتحقيق التقدم نحو مجتمع يسوده السلام والاستقرار وذلك لا يتم إلا بمعرفة الأرقام الصحيحة لجهة الإتصال التي نريد.
abudafair@hotmail.com

 

آراء