تحديات تواجه مشروع تأسيس الجيش الواحد

 


 

 

وضحت معالم قصور مؤسسة الجيش باكراً، بعد الاستقلال بعامين، حينما استولى قائدها العام على السلطة الشرعية بانقلاب عسكري، يعتبر الإنقلاب الأول المؤرخ لبداية عهد الدكتاتوريات العسكرية المسنودة من القوى الحزبية التي لا تمارس الديمقراطية داخل أروقتها، من حينها أمسى الجيش هدفاً ومقصداً لتنظيم الخلايا الحزبية والأيدلوجية، ثم حدث ما ظل يحدث دوماً، فأحكم قبضته على شئون الحكم لمدى أكثر من نصف قرن من عمر الدولة السودانية الحديثة – دولة ما بعد الاستقلال، وفرّط تحالف العسكرتاريا والحزبيين الانتهازيين في وحدة البلاد وسلامة أراضيها، فصنع جيشاً موازياً ابتلع المؤسسة الأم، وجاءت عملية الإبتلاع نتيجة لتنازل الجيش المستمر عن دوره، بصناعة الكتائب المساندة الغالب عليها الطابع الجهوي، الطابع الذي لا يعتبر سلوكاً غريباً طالما أن المستحوذين على قيادة الجيش جهويون، كشفتهم كشوفات وقوائم الكتاب الأسود الذي أصدرته نخبة من الأقلام التي تدين بالولاء للشق المقصي من الإخوان المسلمين – حزب المؤتمر الوطني، وكردة فعل ضد هذه المؤسسة العسكرية المهمِّشة لكيانات إثنية وجغرافية بعينها، اندلعت الحروب المتمردة على السلطة الداعمة للخط الجهوي، والمؤسسة للنهج الجغرافي منذ فجر الخلاص من الأجنبي، وكما قال الفيلسوف الألماني نيتشه (إذا خضت حرباً مع الوحوش إحذر أن تصير وحشاً مثلها)، فصار المتمردون المحاربون لجيش السلطة الجهوية جهويين مثلهم.
مسألة تأسيس الجيش الموحّد لا يجب أن تخضع للمساومات والمزايدات السياسية، كما لا يجب أن تنفرد بها جماعة دون أخرى، ما يجري من استعجال لطي ملف الترتيبات الأمنية لجماعات سلام جوبا الميت إكلينيكياً، ما هو إلّا حالة إنتهازية طارئة لصناعة مزيد من التعقيد داخل هذه المؤسسة المعطوبة، بالزج بمكون إثني محدد جعل من جوبا حصان طروادة للوصول لمأربه، هذا الملف الخطير والشائك يمكن أن يعصف بكينونة الدولة السودانية من أساسها، والتعامل معه بالتبسيط المخل والاستعجال الهلوع والانتهاز القبلي المقيت، لن يؤسس لمشروع الجيش الواحد، هنالك مليشيات مسلحة مازالت قابعة تحت كهوف سلسلة جبل مرة ومرتفعات جبال النوبة، كما أن للشرق أيضاً جيشاً يريد الإندماج، هذه الطبخة المخلوط فيها البارود بالنار بحاجة لخبراء عسكريين وطنيين شرفاء، ولشخصيات وطنية بارزة مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والنأي عن الاصطفاف الجغرافي، وانعقاد جلسات مضنية لإجراء عمليات جراحية قاسية في جسم هذه المؤسسة، لاستئصال ورم الجهوية والاستقطاب والتجنيد الحزبي، وللعلم، إنّ مرض هذه المؤسسة أيضاً يتطلب حضور علماء الإحصاء والإجتماع والأنثربولوجيا والديموغرافية، حتى يتم وزن المعادلة المنسّقة للعلاقات البينية لهذه الفسيفساء المعقّدة، هذه الكلفة الكبيرة لجلسات العصف الذهني ضرورة عاجلة، لما لهذه المؤسسة من أثر عميق في تشكيل عقلية الحاكمين للبلاد في السنوات الخمسين الأخيرة.
الخطأ الاستراتيجي الذي وقع في شباكه الفاعلون في المشهد السياسي الآن، يكمن في الاستمراء والاستمرار في طبخ المسودات الدستورية والتفاهمات السياسية المنعقدة تحت الترابيز، والإصرار على تغييب وجهة النظر الأخرى وحرمانها من الشراكة في حل القضية الوطنية الأولى، فما يتم اليوم من حوارات ومناقاشات خاصة بحلحلة معضلة الانتقال بين مركزية الحرية والتغيير والإنقلابيين، هو سير على ذات الطريق المعوجة التي سارت عليها ركبان الحكومات البائدة، والذي تجيء محصلته النهائية دائماً وأبداً بالمزيد من أسباب التمكين للجيش في الشأن السياسي، وبالكثير من الإجراءات الشالّة لحركته والمحوّرة لدوره الرئيسي، فاذا تمت عمليتي الدمج والتسريح بطريقة سريعة خاطفة ومستعجلة و(مكلفتة)، ما على الناس إلّا أن يستبشروا بصيف حار وحارق، يفجّر إمعاء المؤسسة المحشوة بالثوم والفجل والبصل والعدس وكل متناقضات الأشياء. الجيش الواحد لن يتم مشروع بناءه بذراع واحدة إسمها قوات الدعم السريع، ولا بذراع (طويلة) أخرى منضوية تحت لواء جناح وحيد من أجنحة حركات العدل والمساواة، ولا بفرع بعيد من أفرع حركات تحرير السودان المتفرعة حول العالم، لابد من إصدار التعليمات والنداء ... (إجمع)، لتجتمع كل الجيوش بمكان واحد ليفرز الغث ويُسرّح، ويبقى السمين ليدمج من أجل استكمال بناء المشروع والحلم الكبير للجيش الوطني الواحد الموحّد.

اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
17 يونيو 2022

 

آراء