د. النور حمد: تحذيرات البرهان: تماهي مع الثورة أم مناورة؟ كل أفعال اللجنة الأمنیة للرئيس المخلوع أكدت عداءها المستمر للثورة

 


 

 

د. النور حمد: تحذيرات البرهان: تماهي مع الثورة أم مناورة؟

(1/2)

المفكر والمحلِّل السياسي المعروف د. النور حمد في حوار تحليل الواقع المأزوم لـ"التيار"

النور حمد:

  • كل أفعال اللجنة الأمنیة للرئيس المخلوع أكدت عداءھا المستمر للثورة.

  • الضباط الكبار في الجیش والأمن والشرطة أعضاء في المؤتمر الوطني.

  • التمكين أحد أسوأ أفكار الراحل د. حسن الترابي.

  • البرهان حريص على البقاء في السلطة، إما بالقضاء على الثورة، أو عبر الانتخابات.

  • الإسلاميون لا يريدون دولة إسلامية، وإنما جنرالاً كالبشير يحرس مصالحهم الخاصة.


 

يرى المفكر والمحلِّل السياسي د. النور حمد، أن الجبهة الإسلامية والعسكر وبعض رجال الدين وبعض رجال الطرق الصوفية تحالفوا مع العسكريين ومع فلول انظام البائد لإجهاض ثورة ديسمبر.  ودلل على ذلك بالعمل الممنهج لإفشال حكومة حمدوك. فقد جرى وصمها بـ "الكفر والعلمانية". وشكك في هذا الجزء الأول من الحوار الذي أجرته معه "التيار" في أن الفريق البرهان يعني حقيقةً التحذيرات التي وجهها إلى زملائه القدامى في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية. وعدَّ ذلك واحدة من متسلسلة مناوراته لكسب مزيدٍ من الوقت ومن الأرض على الصعيد السياسي. وسرد سيرة محاولات إجهاض الثورة منذ سقوط البشير وحتى هذه اللحظة، وأوضح أن حلف العسكريين والإسلاميين سيبقى تحت مختلف أساليب التعمية والخداع. فإلى مضابط الحوار:

 

حوار: سلمى عبد الله

 

كيف تنظر إلى لهجة خطاب البرهان في التحذيرات التي وجهها للمؤتمر الوطني وللحركة الإسلامية قبل أيام في قاعدة حطاب؟

للإجابة على هذا السؤال ينبغي تتبع مناورات الفريق عبد الفتاح البرهان منذ إزاحة المشير عمر البشير عن سدة الحكم في أبريل 2019. ويقتضي منا ذلك تتبع خيط المحاولات المتسلسلة، المستميتة، التي ما فتئت اللجنة الأمنية للرئيس المخلوع عمر البشير تقوم بها لوأد الثورة. فكل فعل قامت به المنظومة الأمنية، منذ ذلك التاريخ يؤكد عداءها المستحكم للثورة ولأهدافها.  أيضًا، تؤكد كل هذه المناورات العديدة المتسلسلة التي جرت منذ ذلك التاريخ، وبقوة، مطامع الفريق البرهان الشخصية في البقاء في سدة الحكم ولمدة طويلة؛ إما بإجهاض الثورة تمامًا إن أمكن ذلك، وإما بتجهيز المسرح من أجل العودة إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع، عقب الفترة الانتقالية. فعلى الرغم من الإعلانات الأخيرة التي ما انفك الفريق البرهان وزمرته يطلقونها، معلنين نيتهم التخلي عن السلطة للمدنيين، وتحذيرات الفريق البرهان للإسلاميين، وغيرهم، تنتابني الشكوك، وبقوة، في أن الفريق البرهان يعني ما يقول، حقيقة.

ماهي الشواهد على رأيك هذا؟

من يتتبع مسار الثورة بدقة، منذ إبعاد الرئيس المخلوع عمر البشير، وإلى اليوم، يستطيع أن يرى، بوضوح شديد، أن العسكريين الذين خلفوه على الحكم، لم يؤمنوا، أصلا، ولا للحظة واحدة، أن هناك ثورة قد حدثت بالفعل. كما ليس هناك ما يدل على أنهم يؤمنون أن للشعب قضية عادلة ظل يناضل من أجلها، وظل يقدم من أجلها الشهيد تلو الشهيد، والجريح تلو الجريح، إضافة إلى أرتال من ضحايا التعذيب، والمسجونين بلا محاكمة، منذ عقود. التصرف بالغ العنف والخشونة مع الشارع يدل على عداء مستحكم للثورة.

لقد سبق أن سلم العسكر السلطة للمدنيين في ثورة أكتوبر 1964 وفي ثورة أبريل 1985. فما الذي يجعلك تشكك في انهم سيسلمونها في هذه الثورة؟

الذي جعل الفريق عبود ورفقاءه لا يجدون صعوبة، في تسليم السلطة للمدنيين، عقب ثورة أكتوبر 1964، أنهم كانوا عسكريين مهنيين، غير مؤدلجين. كما أنهم لم يكونوا يتقاضون غير رواتبهم كضباط ومسؤولين كبار في الدولة. ولقد كان الوضع عقب ثورة أبريل 1985، شبيها بما كان عليه الحال في ثورة أكتوبر 1964، وإن اختلف قليلا. أما عقب ثورة ديسمبر 2018 فقد اختلف الوضع اختلافا كبيرا جدا. فالضباط الكبار في الجيش وفي جهاز الأمن وفي الشرطة منتمون إلى ما تسمى "الحركة الإسلامية"، وأعضاء في الحزب الحاكم. كما أن امتلاك القوات المسلحة وغيرها من القوات النظامية، وشبه النظامية، لمؤسسات تجارية قد خلق إمبراطوريات مالية غير خاضعة لرقابة للدولة وضبطها للمال العام. فتحولت القوات النظامية وشبه النظامية إلى العمل التجاري المخفي عن عين الدولة والشعب. يضاف إلى ذلك، أن سياسات التجنيب، قد خلقت دولة موازية كاملة الاستقلال عن الدولة الأم. ولذلك تحولت القيادات في مختلف القوات الحاملة للسلاح؛ من جيش وأمن وشرطة، إضافة إلى كبار قيادات الخدمة المدنية إلى أصحاب مصلحة في بقاء الأوضاع القائمة على ما هي عليه، دون أي تغيير. إلى جانب ذلك، هناك الأيديولوجيا الملتصقة زورا وبهتانا بالدين، التي جعلت هذه القيادات تبرر لنفسها أحقيتها المطلقة في الثروة والسلطة. فنظام الإنقاذ بدأ بالتمكين، وهو أحد أسوأ أفكار المرحوم الشيخ، حسن الترابي، التي أدت إلى أن تسطو قلة قليلة من السودانيين، هم أعضاء الحركة الإسلامية، على كل موارد الدولة. ولذلك، لا غرابة أن حرسوا ذلك الاحتكار المطلق بالحديد والنار. ولنفس الأسباب التي تقدم ذكرها، نجدهم لا يزالون مصرين على أن يعودوا إلى السلطة ليواصلوا ذات النهج.

ذكرت في بداية حديثك أننا لكي نفهم ما جرى مؤخرا نحتاج أن ننظر إلى الوراء قليلا لتتبع مسيرة محاولات المتكررة لوأد الثورة. فماذا تقول وأنت تسترجع سيرة تلك المحاولات؟

أولا، أحب أن أذكر القارئ الكريم، هنا، بما تحدث به الفريق، عوض أبنعوف وهو يعلن إزاحة عمر البشر، الأمر الذي أدى إلى مطالبة الشارع بإزاحته. ثم أنشطة الفريق عمر زين العابدين، بعد أسبوعين، فقط، من إبعاد الرئيس المخلوع عمر البشير. فبمجرد ما قدمت قوى الحرية والتغيير حكومتها للجنة الأمنية، في الأسبوع الثالث من أبريل 2019، تسربت أنباء تقول أن الفريق عمر زين العابدين، اجتمع بعبد الحي يوسف وبعض أئمة المساجد، لتحريضهم على الهجوم على قوى الثورة في خطب الجمعة حاثا لهم بقوله: "البلد حيمسكوها الكفار واليساريين". وقد سن الثوار حملة شعواء على الفريق عمر زين العابدين أدت إلى إبعاده. المهم هنا، أن تحريض الفريق عمر زين العابدين للأئمة على ذلك النحو ليس سوى انعكاس طبيعي للعقيدة التي غرستها، الحركة الإسلامية، في أذهان أفراد عضويتها، بما فيهم كبار ضباط الجيش. ولأن كل من يحاول إصلاح الأوضاع المعوجة هذه يهدد بالضرورة مصالح هذه الفئة المنتفعة من تخريب الدولة. ولذلك، فأنهم يلجئون إلى السلاح الأكثر مضاء في التشويش وخلط الأوراق، وهو دمغ دعاة الإصلاح والتغيير بالكفر والعلمانية والعمالة وما شابه ذلك. وهو أمر لا نزال نشاهده يجري حتى هذه اللحظة، في فعالياتهم المتلفزة وفي المسيرات التي يسيرونها، وفيما تبثه جيوش الذباب الإلكتروني المجندة من قبلهم على الإنترنت.

باختصار، بدأت محاولات وأد الثورة منذ أول أسبوعين، عقب إبعاد البشير، واستمرت إلى يومنا هذا. ولقد كانت مجزرة القيادة العامة التعبير الأكبر، والأكثر دموية، في سلسلة محاولات وأد الثورة وتقويضها بالكامل. وبما أن تلك المجزرة البشعة لم تحقق الغرض المنشود، بل زادت الثورة اشتعالا، فقد اضطرت اللجنة الأمنية للجلوس مع قوى الحرية والتغيير لتتشكل عقب مفاوضات مرهقة حكومة حمدوك. وبمجرد أن وصل حمدوك، بدأ مسلسل استهداف وزراء حمدوك وهلهلة حكومته. وقد شملت جهود تشويه صورة حمدوك وصفه بالعلمانية وبالخضوع للقوى الغربية. ثم أعقب ذلك خلق الندرة في السلع الضرورية، وخلق السيولة الأمنية، وكذلك إشعال النزاعات الإثنية في مختلف المدن. كما شملت تلك الجهود شيطنة البعثة الأممية التي طلبها حمدوك لتعين في عملية التحول الديموقراطي. أيضًا، تكثّف الهجوم الضاري على لجنة إزالة التمكين. وكل تلك الأمور كانت تجري، فيما يبدو بتنسيق تام بين منتمي الحركة الإسلامية من العسكريين الممسكين بالسلطة، والمدنيين من أعضائها، مطلقي السراح الذين لم يبارحوا أصلا مواقعهم القديمة في أجهزة الدولة المختلفة.

أيضا جرى إغلاق طريق بورتسودان الذي هندسته السلطات العسكرية مع الزعيم البجاوي، عضو المؤتمر الوطني الناظر، محمد الأمين ترك. وفي جانب آخر، أوحى العسكر لحلفائهم في اتفاق جوبا الذي جرى فيه جر الحركات المسلحة لتقف في صف العسكريين. ولكي يخلقوا "قوى حرية وتغيير" موازية، أُسميت "قوى الحرية والتغيير التوافق الوطني". وقد كان الهدف من ذلك الزعم للداخل والخارج أن هناك شارعين، لا شارعا واحدا. وما لبث هذا الشارع المزعوم "المفبرك"، أن قام باعتصام القصر، الذي كانت على رأسه الحركات المسلحة بعون من فلول النظام البائد. جرى تقديم مختلف التسهيلات لذلك الاعتصام من جانب العسكريين. وهتف قادة هذا الشارع الهزيل المصنوع، وهم في ذروة اعتصامهم، مطالبين بانقلاب عسكري صريح، قائلين:  "الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع".  وما لبث ان استجاب لهم العسكر، وجرت إذاعة بيان الانقلاب الذي كان أصلا في حالة زحف مستمرة للتحقق، منذ توقيع الوثيقة الدستورية.

هل تعتقد أن انقلاب 25 أكتوبر قد فشل في تحقيق أهدافه؟ وهل قاد هذا الفشل إلى مناورة جديدة؟

نعم على مدى ما يقارب العام فشل الانقلاب فشلا ذريعا في تحقيق أي هدف كان مرجوا له أن يحققه. لم تفلح مجموعة "الحرية والتغيير التوافق الوطني" في تجسيد شارع يقنع الرأي العام الإقليمي والدولي. ولم يستطيع العسكريون تشكيل حكومة. ولربما قصدوا ألا يشكلوها ليخلقوا فراغًا يسبب ضغطًا يجعل الناس تشكيل أي حكومة كانت. لكنهم لم يفلحوا ف ذلك، أيضا. وفي مناورة جديدة للخروج من ذلك المأزق، أوحى عسكر الحركة الإسلامية، الممسكين بالسلطة، إلى عضويتهم، بالتقدم بما سميت "مبادرة أهل السودان". فتحرك هؤلاء بزعامة الشيخ، الطيب الجد، عضو المؤتمر الوطني المحلول ليقدم المبادرة، التي حيكت لتصب في صالح ما يراه العسكر وفلول النظام البائد. غير أن تأثير مبادرة نداء أهل السودان كان هزيلا جدا وتبخرت على أثر المعارضة الواسعة التي قبلت بها. فانصرف عنها العسكر وطفق أهل المبادرة يشكون لطوب الأرض بعد أن فشل موكبهم الذي سيروه إلى مقر البعثة الأممية في الخرطوم. ثم ما لبثت بعض الحركات المسلحة، المنضوية تحت لواء قوى الحرية والتغيير التوافق الوطني، أن أخذت تتململ وقادها تململها إلى أن تقترب من مسودة الدستور التي اقترحتها اللجنة التسييرية لنقابة المحامين. هنا شعرت جماعة "الوفاق الوطني" أن الأرض قد أخذت تميد تحت أقدامهم وأن العسكريين قد أخذوا ينصرفون عنها. فخرجوا بقيادة جبريل إبراهيم ومبارك أردول بما أسموه "التكتل الديموقراطي" الذي أعلنوا عنه في مؤتمر صحفي حضره السفير المصري. غير أن هذا المولود الجديد، كان خديجا، ولد ميتا.

 

(2/2)

  • العلاقة بين البرهان والإسلاميين ستبقى مكتنفةً بالهواجس وخشية غدر طرفٍ منها بالآخر.

  • لم يتعلم الإسلامويون من تجارب الأحزاب الأيديولوجية الانقلابية مع العسكريين.

  • مجموعة "الوفاق الوطني" ستكون مشغولة الآن بفرص المناصب في الوضع الجديد.

  • رؤيا والد الفريق البرهان المنامية مسيطرةٌ على وعيه تمامًا.


 

كيف تقرأ خطابيْ البرهان الأخيرين؟

بتحذيره الناري صدم الفريق البرهان، في ظاهر الأمر القوى المتحالفة معه، التي لعب بها على مدى عامين تقريبا. حذر البرهان المؤتمر الوطني وللحركة الإسلامية بأن يبتعدوا عن الجيش، في حين أن قيادات الجيش والأمن والشرطة هي من المؤتمر الوطني، وما تُسمى الحركة الإسلامية. كما أعقب البرهان تحذيره الأول بتحذير ثان في زيارته لمعسكر المرخيات، وجهه إلى الشيوعيين والبعثيين. ظاهريًا، أخذت المؤشرات تشير إلى أن كفة الحرية والتغيير المركزي قد أخذت ترجح على كفة قوى "التوافق الوطني" التي انشقت وحولت اسمها إلى "الكتلة الديموقراطية، وكذلك على تجمعات فلول النظام البائد. ويبدو أن هذا التحول المظهري، في نظري، قصد به إرضاء القوى الإقليمية والدولية. ما يبدو لي، أن القوى، التي ناصبت الثورة العداء، وآزرت مناورات العسكريين، لم يعد العسكريون يعولون عليهم في السند، على الأقل في المرحلة القريبة القادمة. ولربما كان إرجاع البشير وصحبه من فندق مستشفى علياء إلى سجن كوبر مجرد لفتة لإيهام مختلف الأطراف؛ الداخلية والخارجية، أن هناك ابتعادًا عن فلول النظام البائد. لكن في تقديري، أن ارتفاع أصوات الاحتجاج والغضب وسط كل من المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، هو أقرب ما يكون إلى مسرحيةٍ متَّفقٍ عليها بصمت. لكن، من المؤكد أن قوى الحركات المسلحة، وما سمي "الحرية والتغيير التوافق الوطني"، التي آزرت الفريق البرهان في انقلابه، قد عرفت أن البرهان قد وظفهم في لعبة الشطرنج المقعدة التي ظل يلعبها، وحين استنفدوا غرضهم، لفظهم. أو في طريقه للفظهم وأعتقد أن مجموعة التوافق الوطني التي لم تنشغل، أصلاً، بشيءٍ غير المناصب، ستكون مشغولة هذه الأيام بممارسة كل الضغوط الممكنة، التي تضمن لهم مناصب في الوضع المقبل الجديد. أما فلول النظام البائد فرغم ما يمكن أن يكون قائمًا، بالفعل، بينهم وبين الفريق البرهان من اتفاقٍ خفي على غرار مسرحية "إذهب أنت إلى القصر رئيسًا وسأذهب أنا إلى السجن حبيسا"، فإن العلاقة بينهم ستبقى مكتنفةً بالهواجس وخشية غدر طرف منهما بالآخر.

لماذا تعتقد أن تحذير الفريق البرهان للمؤتمر الوطني وللحركة الإسلامية مجرد مناورة؟

لقد قام الفريق البرهان، في السنوات الثلاث الماضية، عبر تكتيك "فرق تسد"، بمناورات متتابعة بالغة الكثرة. وقد اتسمت تلك المناورات بالتقلبات الحادة. فالفريق البرهان، في تقديري، متمسكٌ بالبقاء في السلطة بأي سبيل. وجميعنا نذكر أنه قد ذكر في أول ظهور إعلامي له، أن والده رأى في المنام انه سيحكم السودان. ولم يكن البرهان بحاجة لذكر تلك الرؤيا في تلك المقابلة، لولا أنها مسيطرة على وعيه وعلى خططه المستقبلية. ويبدو لي أن إيمانه بتلك الرؤية قد ترسَّخ على أثر صراع الشارع والعسكريين في بداية الثورة. فقد أدى ذلك الصراع إلى أبعاد الفريقين عوض أبنعوف، وكمال عبد المعروف، ليقفز الفريق البرهان إلى المقدمة ويصبح عبر الشراكة التي أُبرمت، رئيسا لمجلس السيادة. تلك الرؤيا، في تقديري، هي الثابت الذي انبثقت منه كل تلك المناورات وغالبا، ما ستستمر هذه المناورات، بمختلف الصور، حتى يتحقق ذلك الحلم على النحو الذي يمني الفريق البرهان به نفسه.  ودعونا نتأمل كلمات الفريق البرهان في المرخيات التي قال فيها: "نحن عايزين حكومة مدنية يحرسها الجيش. والحكومة الجاية لو مشت كويس حبابها، وإذا حادت عن الطريق سلاحكم قاعد". المعنى الأوحد لهذه الجملة أن باب الانقلابات العسكرية لم يُغلق ولن يُغلق. ومن هنا، يمكن القول، إن المناورة الأخيرة التي أظهرت أن الفريق البرهان قد بدأ يدير ظهره لفلول النظام البائد، غالبًا ما تكون مناورة مؤقتة. فهو في العام الذي تلا انقلاب25 أكتوبر أعاد الإسلاميين إلى كل مفاصل الدولة، ومن بينهم الذين كانوا يديرون أجهزة الإعلام. ومنذ الانقلاب رجع الإعلام إلى نهجه الإنقاذي القديم. كما الفريق البرهان إلى فلول النظام البائد أموالهم وممتلكاتهم. ويعني هذا أن له خطة ما، في استخدامهم، بصورةٍ جديدة، في الفترة المقبلة. وفي تقديري أنهم لن يمانعوا من الانخراط معه، وفقًا لتلك الصورة الجديدة.

ماذا تعني بقولك أنها مناورة مؤقتة؟

أعني أنها مناورة الغرض منها فتح الأفق الذي وضح علميا أن انقلاب 25 أكتوبر 2021 قد تسبب في إغلاقه. فربما يكون الغرض من هذه المناورة إرضاءً مؤقتًا للقوى الدولية المتمثلة في الثلاثية والرباعية والقوى الإقليمية. ولربما تكون استجابة لضغوط وتحذيرات شديدة اللهجة من القوى الدولية والإقليمية. وقد سرب بعض المتحدثين من جماعة نداء أهل السودان، في موكبهم الأول، أن الفريق البرهان ذكر لهم، حين قابلوه، "أنه مضغوط". ولربما يكون إعلان المملكة العربية السعودية استعدادها لتقديم 3 مليار دولار للسودان، وما قد يلي ذلك من فك لتجميد المساعدات الدولية، واحدًا من أسباب هذه المناورة الجديدة.

هل يعني ذلك، في نظرك، أن الفريق البرهان يستخدم هذا التوجه الجديد لكسب الوقت فقط؟

نعم، أعتقد ذلك. ففي تقديري أن الفريق البرهان يحاول أن يشتري بهذه المناورة لنفسه استراحة محارب، يعيد فيها تشكيل مختلف قواته لشن هجمةٍ جديدة. وقد تأتي هذه الهجمة قريبًا، وقد تأتي بعد فترة من الوقت. ولسوف أظل متمسكا بتصوري هذا ما لم يقم الفريق البرهان عقب التسوية التي يُقال أنها على وشك أن تنضج، بإلغاء قراراته التي أعاد بها كل قوى نظام الإنقاذ إلى مفاصل الدولة. وأيضًا ما لم يقم بإرجاع لجنة إزالة التمكين وتذليل كل عقبة تقف أمامها في استعادة المال العام، الذي جرت حيازته من قبل منسوبي النظام البائد، بطرق غير قانونية. لكن، حتى لو أُلغيت القرارات وجرت إعادة لجنة إزالة التمكين، فإن من الممكن جدًا أن تكون الفترة التي أعقبت حل لجنة التمكين، والتي جرى فيها فك الحظر عن الحسابات المصرفية وإعادة الأصول والأموال، كافية لتسييل كثير من الممتلكات. وكذلك لتحويل بعض أو كثير من هذه الأموال إلى جهات غير معلومة.

هل تعتقد أن حل لجنة إزالة التمكين وإعادة منسوبي النظام البائد إلى مفاصل الدولة جزء من خطة الفريق البرهان لزيادة فرصه في استبقاء السلطة في يده؟

نعم هذا هو الاحتمال الأرجح عندي. ففي تقديري أن أحد الأهداف الأساسية لانقلاب 25 أكتوبر، هي إعادة الأموال إلى منسوبي الحركة الإسلامية، وإبقاءهم رصيدًا احتياطيا للتحرك المقبل. فما تسمى الحركة الإسلامية قررت، منذ المصالحة مع نميري عام 1977، أن تصل إلى السلطة بثلاث طرق، هي: المال، والإعلام، والبندقية. وقد استخدمت كل هذه الوسائل مجتمعة لتصل إلى السلطة. والآن، فإن من يحكمون، الآن، عمليًا، هم من منسوبيها، كما أن أموالها قد عادت إليها، وأنها عادت لتكون المهيمنة إعلاميا، ويعني ذلك أن هذا جزء من خطة مستقبلية. ويدخل إعادة الاتحادات والنقابات الإنقاذية في نفس هذه الوجهة. فالبرهان فيما يبدو، يريد أن يرث كامل منظومة الرئيس البشر للحكم، ولكن على الصورة التي يريدها هو. ويمكن أن نضيف إلى ما تقدم أن التجربة العملية قد أثبتت، عبر ثلاثين سنة، أن منسوبي النظام البائد، كما سبق أن قلنا، لا يريدون إقامة دولة إسلامية، كما يزعمون، بقدر ما يريدون جنرالاً يفتح لهم فرص الثراء العريض والجاه. ولا فرق إن كان هذا الجنرال هو المشير البشير أو الفريق البرهان. وأعتقد أن الفريق البرهان يعي هذه الحقيقة جيدًا، وأنه يخطط على أساسها.

لكل ما تقدم، أعتقد أن من المحتمل أن يكون من ضمن استراتيجية الفريق البرهان في مناورته الجديدة، أن يبعد الصف الأول من قيادات النظام القديم مؤقتا، ليكسب العطف الدولي والإقليمي وليخرج من الدائرة المغلقة الحالية. ولا يهمه، فيما أحسب، إن غضب عليه قادة فلول النظام البائد، الآن. فهو، في تقديري، يعلم، يقينا، أنه حين يقرر إعادتهم وتوظيفهم في تحقيق حلمه عبر انقلاب جديد، أو عبر الانتخابات التي تعقب الفترة الانتقالية، فإنهم سيلتفون حوله، بكل سرور.

هل نفهم أنك ترى أن الفريق البرهان سيكرر تجربة البشير مع الدكتور الترابي والحركة الإسلامية؟

بالتأكيد سيكرر الفريق البرهان التجربة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار التأثير المصري الكبير عليه، وكذلك الضغوط السعودية الإماراتية بسبب تخوفهم من عودة الحركة الإسلامية. ويبدو لي أن الإسلاميين لم يتعلموا من تجارب الأحزاب الأيديولوجية الانقلابية مع العسكريين. فقد أبعد نميري قوى اليسار التي أتت به إلى السلطة، بل فتك بها فتكا ذريعا. وأبعد البشير شيخه الترابي، بل وتنكر، في أخريات فترة حكمه، للحركة الإسلامية نفسها. ويبدو أن الإسلامويين بسب حبهم للسلطة والمال والتلهف عليهما سينحازون لأي جنرال يخدم أغراضهم تلك. فأكثريتهم قد تركت الترابي، حين أُبعد، وانضمت للبشير. ولا شيء قط يمنع تكرار ذلك مرة أخرى مع الفريق البرهان. وهذا في تقديري ما يراهن عليه الفريق البرهان.

يلعب الفريق البرهان، فيما أرى على استراتيجيتين، أحدهما: الإبقاء على السلطة في يده بقوة السلاح و"فركشة" قوى الثورة، وإحداث بلبلة متطاولة، وحالة من عدم الاستقرار، حتى يصبح الحكم عن طريق الجيش هو الخيار الأوحد. ويبدو لي أن هذه الاستراتيجية ستواجه عقبات جمة. أما الاستراتيجية البديلة، في نظري، فهي التخطيط للبقاء في السلطة عقب الفترة الانتقالية عن طريق صندوق الاقتراع بمساندة من أعادهم إلى أجهزة الدولة. لكن، ربما يحدث إفشال للخطتين. ويعتمد إفشالهما على وحدة قوى الثورة، وعلى تكوين جبهة ثورية عريضة غير متشاكسة، تعيد، من ناحية، إلى الشارع زخمه. وتخطط، من الناحية الأخرى، لخوض الانتخابات كجبهة موحدة. يُضاف إلى ذلك التحلي بوضوح الرؤية، والتعلم من دروس الماضي.

خلاصة القول إن أي تسوية لا تضع الشركات التجارية لكل القوات النظامية من جيش وأمن وشرطة تحت إشراف وزارة المالية والمراجع العام، ولا تعيد لجنة إزالة التمكين واستعاد المال العام، بكامل السلطات المستقلة، وما لم يجر تغيير في قمة هرم القضاء والنيابة العامة، فإن عودة الإسلاميين بقيادة البرهان، في صيغة جديدة، إلى سدة الحكم عن طريق صندوق الاقتراع، ستصبح ممكنة جدا. وأعتقد أن الفريق البرهان سيناور تحت مظلة الإيحاء بأنه هو والجيش لا رغبة لهم في السلطة. غير أن عينه ستكون على خلق أجواء لانقلابٍ جديد، أو الصبر حتى موعد الانتخابات التي أعد لها كل المعينات التي تعيده بديلا للبشير، محمولا على أعناق قطاعٍ كبيرٍ من جماهير المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، في ظل نظام ديموقراطي زائف. خلاصة القول: ما ستكشف عنه نصوص التسوية المرتقبة هو ما سيجعل الرؤية أكثر وضوحا.

 

آراء