تحولات المشهد السوداني (1/6): في البحث عن رافعة جديدة للدولة 

 


 

 

في أغسطس من العام 1989 وبعد شهرين من انقلاب الانقاذ استقبلت مجموعة من السودانيين في لندن مسافرا قادما من الخرطوم. وبما ان الرجل تبوأ مراكزا رفيعة في النظام المايوي وكان على صلة بمختلف أنواع الطيف السياسي في البلاد فقد كان القوم في شوق لمعرفة تقييمه للوضع الجديد.

لخص القادم من السودان الوضع بقوله: "الجماعة ديل ما أظنهم يصرفوا ماهية الشهر دا".

ذلك التقييم لم يقتصر عليه فقط. ورغم معرفة الكثيرين بمن وراء الانقلاب وتجاوز جهود التعمية التي قامت بها الجبهة الاسلامية وقتها، الا ان الانطباع العام تركز حول عاملي الاستهانة بما جرى وأن الانقلاب سيكون عمره قصيرا وذلك بسبب القاعدة الشعبية الضيقة التي يستند عليها النظام الجديد.

وهاهو الزمن يدور دورة كاملة ويعود الفريق عبدالفتاح البرهان بانقلاب أخر لا يجد حتى في نفسه القدرة على تسميته انقلابا وظل متأرجحا عدة أسابيع والبلاد في حالة فراغ تنفيذي بسبب عدم القدرة على حسم أمره وتشكيل حكومة في وجه التمنع الذي أبداه دكتور عبدالله حمدوك في البداية.

وعلى عكس انقلاب الانقاذ الذي كسب بعض الوقت لتثبيت أقدامه قبل أن يلتفت العالم اليه، فأن انقلاب البرهان تعرض الى الادانة الفورية من المجموعة الدولية بقيادة الولايات المتحدة، التي أتبعت القول بالعمل فجمدت المعونات المخصصة للسودان وتبعتها دول الاتحاد الاوروبي والمؤسسات المالية الدولية، بل وقامت بخطوة متفردة اذ طلبت من بعض القوى الاقليمية التي يعتقد أنها يمكن أن تقدم يد العون للانقلابيين والمشاركة في التوقيع على بيان يدعم فكرة العودة الى الشراكة واستعادة الحكومة المدنية.

لكن بالرغم من كل ذلك فمن الخطورة بمكان التصرف باستهانة تجاه الوضع الانقلابي الحالي وعلى أساس ان غياب القاعدة الشعبية مرفوقا بالضغط الخارجي سيؤدي تلقائيا الى تقصير عمر الانقلاب خاصة عندما يوضع في الاعتبار مدى حدود الضغط الامريكي والمتغيرات العديدة التي يحفل بها المشهدين الاقليمي والسوداني. فالأمر أكبر من القضاء على انقلاب عسكري فقد أصبح وضع مستقبل السودان كدولة مطروحا على المحك.

وليس أدل على ذلك من كل الحلول المطروحة على الطاولة تتقاصر عن مخاطبة الازمة التي تشعبت وتمددت يمكن تلخيصها في كلمتين: غياب الشرعية الذي يعكس في نهاية الامر اضمحلال قدرة الدولة على القيام بمهامها كدولة وبغض النظر عن عسكريتها أو مدنيتها، شموليتها أو ديكتاتوريتها.

الفكر السياسي أنفق مدادا كثيرا في تعريف الشرعية. وربما كان أوفق وأبسط تعريف للشرعية انها القبول العام بين الناس لنظام حكم معين قد يكون عسكريا أو مدنيا وقد يأتي بانتخابات أو بدونها. ويعتبر العام الاول بعد ازاحة البشير والشعبية التي تمتع بها حمدوك أفضل مثال على شرعية القبول هذه رغم انها لم تأت بانتخابات وكان النظام فيها هجينا بين عسكريين ومدنيين.

الوضع الحالي في السودان أصبح مثل القطار الذي خرج عن مساره ويحتاج الى رافعة جديدة على وضعه على مسار الدولة التي تستطيع تنفيذ ما تتوافق عليه. فانقلاب البرهان يبدو عاجزا عن فرض ارادته على الشارع رغم تكتل المسلحين من دعم سريع وحركات مسلحة خلفه. وأهل الهامش الذين يريدون أعادة أنتاج دولة الافندية بقيادتهم هذه المرة لا يبدون أحسن حالا بعد أن وصلت هذه الدولة الى ذروتها في عهد الانقاذ ولم يعد لديها ما تقدمه في جانبي الفكر والتطبيق.

ثم جاءت وفاة الامام الصادق المهدي العام الماضي مؤشرا على انطواء حقبة كاملة في تاريخ السودان الحديث. فهو أخر الزعماء الاكتوبريين وباختفائه عن المسرح أتضح حجم التجريف الذي قامت به دولة الافندية لموارد البلاد البشرية والطبيعية لدرجة العجز حتى عن اطعام بنيها. أضافة الى ذلك تضعضع القدرات القيادية لمتصدري المشهد السياسي الحالي ووصل العجز قمته فيما يجري حاليا كما في القول ان رئيس حزب كحزب الامة كان يتصرف بمفرده في هندسة أتفاق البرهان/حمدوك وان قيادات الحرية والتغيير التي كانت تدعو للعودة الى ترتيبات ما قبل انقلاب البرهان ووجدت أنها لا تستطيع تسويق تسوية مثل هذه حتى اذا حدثت ولانها عمليا أصبحت خارج المشهد السياسي، أصبحت تلهث خلف الشارع الذي كان يفترض أن تقوده بعد فشلها في تحويل السند الشعبي والدعم الدولي الى مكاسب سياسية.

هل تمثل الانتخابات الرافعة المنشودة ولو عن طريق البداية بانتخابات لجان التغيير والخدمات كما أقترح حمدوك؟ في ظل المناخ الحالي يبدو ذلك من الصعوبة بمكان. فالانتخابات كي تؤدي غرضها وهو القبول بنتائجها تحتاج الى قدر من التراضي ظل غائبا عن المشهد السياسي سنين عددا واستبدلته الانقاذ بالترضيات عن طريق أطلاق أخر أسهم تبقت في جعبة دولة الافندية من جزرات السلطة وعصيها.

ولهذا فالتساؤلات تطال حتى أمكانية أجراء الانتخابات العامة المزمع قيامها في أقل من عامين وقدرتها على أيجاد وضع يتمتع بقدر من الشرعية حتى ولو أشرفت عليها بعثة الامم المتحدة بقيادة فولكر بيرتس. فالانتخابات في نهاية الامر وسيلة للحكم. وتاريخ الانتخابات في السودان يشير الى حقيقتين أساسيتين: انه لم يحقق أي حزب أغلبية في أي انتخابات مما يمكنه من تنفيذ برنامجه. والمفارقة ان المرة الوحيدة التي حقق فيها الحزب الوطني الاتحادي الاغلبية انما تمت بدعم مصري واضح وان الحزب في النهاية صوت ضد البرنامج الذي دخل به الانتخابات وأنحاز الى خيار الاستقلال. أما الحقيقة الثانية فهي ان أي دورة برلمانية لم تكمل فترتها الزمنية والدخول في عملية انتخابية ثانية، ولهذا يرى الكثيرون انهم اذا ما تمكنوا من أكمال دورة برلمانية والوصول الى الانتخابات التالية فأنهم يكونوا وضعوا أرجلهم على طريق التحول الديمقراطي والتبادل السلمي للسلطة.

وهذا يمكن أن يكون اعتقادا سليما متى تبعه قدر من الانجاز التنفيذي والدستوري، لكن واقع الحال يشير الى انه أبعد ما يكون عن ذلك بدليل ان المهمة الاساسية لآي برلمان منتخب هي الاعداد للدستور ولذلك أطلق أسم الجمعية التأسيسية على البرلمان، لكن أيا من هذه الجمعيات التأسيسية لم تستطع تحقيق أنجاز يذكر في هذا الجانب.

واذا كانت الانتخابات السابقة انتهت دائما الى ائتلافات ضعيفة، فأن الوضع الحالي وصل الى مرحلة التشرذم التي تعاني منها مختلف القوى السياسية. وربما يمثل حزب الامة خير نموذج على حالة التشرذم هذه. فالحزب الذي حقق أعلى عدد من المقاعد في انتخابات 1986 وأكتسح دوائر دارفور لا يتوقع له تحقيق أنجاز مقارب لما حققه من قبل بسبب بروز قيادات دارفورية محلية أصبح لها وجود حتى على مستوى السلطة المركزية. ويكفي أن دكتور التيجاني السيسي الذي كان حاكما لدارفور الكبرى بأسم حزب الامة أصبح الان يقود حزبه الخاص. وفي تقديري الخاص فأنه في أي انتخابات مقبلة فأنها في الغالب ستتم وفق تحالفات لصعوبة أن تتوفر لحزب واحد الامكانيات المادية والبشرية لخوضها منفردا.

وفي التجربة التونسية التي أنجزت عدة أنتخابات في ظرف عقد من الزمان ورغم صغر حجم تونس واتساقها الاجتماعي النسبي ووجود طبقة وسطى ومؤسسات مؤثرة مثل الاتحاد العام للشغل فأن أحوالها لا تزال مضطربة وتعاني تجربتها من النزعات الديكتاتورية لرئيسها الشعبوي ما يشير الى ان الطريق أمام السودان لا يزال طويلا . . . وطويلا جدا خاصة وقدرة الدولة على مجرد القيام بواجباتها الاساسية من توفير لأمن ومعاش مواطنيها في حالة أضمحلال يومي، مما يتطلب البحث في خيارات عملية. وهو ما دفع الطبقة السياسية العاجزة للبحث في أحسن الحلول وأيسرها والتطلع الى الخارج، الامر الذي أنتهى الى طلب العون من الامم المتحدة للمساعدة في دعم العملية الانتقالية في السودان مما جعل فولكر وبعثته لاعبا أساسيا في المسرح السياسي، وأتبعت ذلك بالتطلع الى واشنطون لحل اشكالات أنقلاب البرهان.

(غدا: في أنتظار العم سام)

=========================

asidahmed@hotmail.com

 

آراء