ترتيب (وتقاسم) مقاعد “التايتانيك”: تخبط السياسة في السودان
د. عبد الوهاب الأفندي
10 July, 2012
10 July, 2012
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]
هناك مثل انجليزي مشهور يشبه بعض المسالك الانصرافية عديمة الجدوى ب "ترتيب المقاعد على ظهر التايتانيك"، في إشارة إلى السفينة العملاقة التي غرقت وهي في طريقها من بريطانيا إلى نيويورك في أبريل من عام 1912، وشهد العام الحالي إحياء الذكرى المئوية لمأساة ركابها. ولا ينطبق هذا على ماروي من أن الفرقة الموسيقية ظلت تعزف لحن أنشودة "أقرب إليك يا إلهي"، أثناء الهرج الذي صاحب غرق السفينة، لأن هذا عمل بطولي قصد منه بث الروح في نفوس ركاب السفينة في تلك اللحظات الحرجة. وإنما ينطبق هذا المثل على من ينشغل بجزئية ثانوية لا تقدم ولا تؤخر، عن ما هو أهم وأكثر إلحاحاً. فإن ترتيب مقاعد سفينة ستغرق بما عليها، بدلاً من الإنشغال بإنقاذ الركاب وإعداد قوارب النجاة وما إلى ذلك يعتبر من الضلال المبين.
وبالفعل فإن هذا المثل ينطبق على إجراءات عدة اتخذتها كل من الحكومة السودانية والمعارضة في الأيام القليلة الماضية، بهدف التصدي للأزمة السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد هذه الأيام. من جانبها فإن الحكومة جعلت من تخفيض الإنفاق الحكومي على شاغلي المناصب العليا، وتخفيض عدد هؤلاء، من أهم مكونات برنامجها لتسويق التقشف وسحب الدعم عن السلع الضرورية للمواطنين. أما المعارضة، فقد تبنت الاحتجاجات الشعبية، وثنت بتوقيع وثيقة أطلقت عليها تسمية "برنامج البديل الديمقراطي"، رسمت ملامح فترة ما بعد إسقاط حكومة البشير إضافة إلى طريق إسقاطها.
من هذا المنطلق، فإن برنامج الحكومة لتخفيض المناصب العليا وتدوير الكراسي، وبغض النظر عن الانتقادات التي كشفت بأن الإنفاق الحكومي على جهاز الدولة قد ارتفع في الميزانية الأخيرة ولم ينخفض في الواقع، يبدو من هذا النوع. ذلك أن قرار استبعاد خمسة وزراء مركزيين لا يمكن اعتباره مساهمة كبرى في تغيير الأوضاع، خاصة مع بقاء معظم الوزراء في مواقعهم. فالواجب كانت استقالة من يعين الوزراء ويصنع السياسيات، وليست تدوير الكراسي بنفس الوجوه القديمة التي نقلت البلاد من كارثة إلى أخرى.
وعلى كل حال فإن مخصصات الوزراء المباشرة ليست هي الإشكال، كما اتضح عندما كشف النائب الأول لرئيس الجمهورية في لقاء أمام البرلمان قبل أسبوعين بأن راتبه الشهري لا يزيد على ألفي دولار. بالطبع هناك نفقات أخرى تتعلق بالحراسة وأسطول السيارات والسكن لكل وزير، إضافة إلى تكاليف السفر والإجازات وغير ذلك. ولكن يبقى أن الخلل ليس في الإنفاق المباشر على المسؤولين، وإنما في أمور أخرى على مستوى أعمق.
وفي حقيقة الأمر فإن الحكومة تغطي معظم نفقات كبار المسؤولين وتسيير الحزب الحاكم، وحتى بعض الإنفاق الأمني والعسكري، من مصادر غير حكومية، وتحديداً إما من تبرعات رجال الأعمال او من دخل شركات ومؤسسات اقتصادية ومالية مملوكة بصورة غير رسمية للحزب أو مؤسسات الدولة. على سبيل المثال نجد رئيس الجمهورية صرح على الملأ قبل بضعة أشهر بأنه يتلقى دخلاً من مزرعته الخاصة يفوق راتبه الحكومي، كما صرح أيضاً بأنه يملك عقارات خاصة منها منزل وشقة. وفي إفادات أخرى تبرع بها أحد مؤيدي الرئيس حين ثار لغط حول مصدر هذه الممتلكات، علماً بأن راتب الرئيس بالكاد يكفي لتغطية احتياجات أسرته الضرورية، فإن بعض السودانيين المغتربين جمعوا التبرعات لإعانة الرئيس على بناء منزله وشراء مزرعته. وكان مساعد الرئيس د. نافع علي نافع قد صرح كذلك غداة انتخابات عام 2010 بأن بعض مؤيدي الحزب من رجال الأعمال تبرعوا بملايين الدولارات لدعم حملته الانتخابية.
وهذا بدوره يطرح أسئلة حول الدافع لأفراد بالتبرع بالملايين للشأن الحزبي أو لشخص مسؤول بعينه. وهل إذا جلس ذلك المسؤول في بيت أبيه وأمه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعامله الذي زعم أن "المواطنين" قدموا له هدايا خاصة، ولم يكن في هذا الموقع الرفيع، هل كانت ستصله تلك التبرعات؟ وأي ثمن يتقاضاه "المتبرعون" إياهم لقاء هذا الكرم الحاتمي؟ ألا يتلقى هؤلاء معاملة تفضيلية في أمورهم، وهي معاملة تنعكس بلا شك سلباً على أداء الاقتصاد، وبالتالي يدفع ثمنها المواطن أضعافاً مضاعفة، من جهة عدم كفاءة وعدالة العملية الاقتصادية، وفقدان الدولة لعائد من الضرائب، أو تحمل كلفة زائدة لخدمات وبضائع بسبب غياب الشفافية والمنافسة الشريفة؟
بنفس القدر فإن تعيين هؤلاء المسؤولين في مناصبهم لا يعكس كفاءتهم، وإنما يقوم على معايير أخرى، منها الولاء أو ترشيح أحزاب موالية (حتى لا نقول متآمرة)، أو خدمة عين المصالح التي تدعم الحزب ورجال الدولة. وهذا بدوره ينعكس سلباً على الأداء الحكومي، سواء في مجال الافتصاد أو غيره. فعلى سبيل المثال، نجد القائمين على الشؤون الأمنية والعسكرية، وفي وقت تواجه فيه البلاد تحديات كبيرة في هذه المجالات، كانوا مسؤولين عن إهدار موارد كبيرة بسبب اعتماد المنافسة غير الشريفة في العطاءات، إضافة إلى مسؤولياتهم عن ثغرات وخروقات أمنية كبرى، كما حدث في هجليج أو في الهجوم على أم درمان عام 2008. وهذا بدوره يكلف البلاد غالياً في الأرواح والموارد، حيث يدفع الوطن والمواطن ثمن توسيد الأمر لغير أهله عدة مرات، وبأكثر من وجه. ولم يكن عبثاً أن الحديث الشريف اعتبر مثل هذه الجناية خيانة لله ورسوله.
إذن الأمر لا يتعلق بترتيب مقاعد السفينة الغارقة، أو تبديل مواقع الجالسين عليها، وإنما سد الثغرات التي تسبب الغرق. فالخلل هو في طبيعة الحكم التي جعلت السودانيين يقتل بعضهم بعضاً في صراع حول المناصب والموارد، وهذا يعود بدوره إلى ثغرة في شرعية السلطة المفترض فيها أن تبسط العدل والسلم بين المواطنين، وفي تحول الدولة إلى جهاز لا يثق في المواطنين (وبالتالي يقوم على مخادعتهم، وإخفاء الحقائق عنهم، والتعامل مع الغالبية على أنها موضع شبهة، وإنفاق معظم موارد الدولة على أدوات القهر بدلاً من التعمير والبناء)، ولايثقون به. فالحل إذن هو في استعادة شرعية الدولة، ووضعها في خدمة المواطنين، لا في الحرب عليهم.
وهذا يقودنا إلى برنامج المعارضة للتغيير وما بعده، وهو برنامج يطرح في مجمله مبادئ لا خلاف عليها، مثل النضال السلمي من أجل التغيير، وكفالة الحريات واستقلال القضاء وحيدة ونزاهة المؤسسات القومية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، والتمثيل العادل لكافة مكونات المجتمع السوداني، واحترام التعددية، وحل النزاعات سلمياً وإزالة آثار الحرب ومعالجة الأزمة الاقتصادية. وهناك ملاحظات على متن ونصوص البرنامج لا نريد أن نتوقف عندها كثيراً، وإن كانت جديرة بالاهتمام (على سبيل المثال، ما ذا يعني توقيع حزب الأمة بزعامة "الإمام" الصادق المهدي والمؤتمر الشعبي بزعامة "الشيخ" حسن الترابي على وثيقة تفرض " الالتزام بعدم استغلال الدين في الصراع السياسي او الحزبي"؟ ومن أين ستأتي الحكومة الانتقالية بالموارد لتعويض المتضررين من النظام السابق ثم تعالج الأزمة الاقتصادية الراهنة في نفس الوقت؟ وما الداعي لنص خاص يكفل لأهل دارفور المشاركة العادلة في السلطة والموارد مع استصحاب هذا المبدأ لكل السودانيين؟). ولكن الإشكال الأكبر يتلخص في كيفية تحويل هذه المبادئ إلى واقع، وذلك عبر تحقيق مهمة تغيير النظام.
تحت الظروف الحالية، ومع استمرار الحكومة في عدم الاعتراف بالمسؤولية عن الأزمة، وفي غياب مبادرات ذات مصداقية للتغيير، فإنه لا بديل عن تصعيد الضغوط السلمية من أجل التغيير. ولكن هناك ملاحظتان حول هذا الأمر، أولهما أن "سلمية" الحراك لا تستدعي فقط وضع مسافة بين قيادات هذا الحراك وبين الحركات المسلحة، بل تفترض إدانة كاملة لاستخدام السلاح كأداة سياسية. وحسناً فعلت الفصائل الموقعة حين استبعدت نصوصاً سابقة كانت تنادي بأن تكون "الجبهة الثورية" (وهي تحالف المعارضة المسلحة في دارفور مع الحركة الشعبية-قطاع الشمال) جزءاً من الحكومة الانتقالية، ولكن هذا لا يكفي. بل لا بد من أن تطالب المعارضة بأن يكون هناك التزام مبدئي بنبذ السلاح لكل من أراد أن يشارك في العملية السياسية الديمقراطية، ويجب أن ينتهي الآن وإلى الأبد وجود أحزاب مسلحة، تشهر المسدسات في وجه خصومها كلما وقع خلاف.
الجبهة الثورية من جانبها انتقدت برنامج البديل الديمقراطي لأنه، كما قالت، يكرس استئثار فئات معينة بالقرار دون غيرها. وهذا سؤال لا بد أن يطرحه آخرون عن حق الفئات الموقعة في رسم مستقبل السودان، وهي لا تزيد حتى الآن عن خمسة عشر منظمة، معظمها أحزاب صغيرة (وفصائل أحزاب، فهناك حزبان باسم البعث وحزبان اتحاديان، والحزب الشيوعي وحركة "حق" المنشقة عنه، ومنظمات لم يسمع بها أحد من قبل، بعضها بلا شك واجهات حزبية). وهذا يقودنا إلى الملاحظة الثانية المهمة، وهي مرجعية الفترة الانتقالية. فكما شهدنا في مصر وغيرها، فإنه لا يكفي أن يقال أن المرجعية هي الشعب أو "الثوار"، لأنه لا بد من وجود سلطة فاعلة قادرة على تنفيذ ما يتفق عليه وتمنع الفوضى والاقتتال. في كل الثورات الناجحة، في السودان وغيره، لعبت القوات المسلحة الدور الحاسم في دعم التغيير، وتولت الإشراف على ترتيبات انتقال السلطة إلى ممثلي الشعب. والحاجة ملحة أكثر لترتيب من هذا النوع في السودان، وذلك بسبب الاستقطاب الحاد القائم، وتشرذم الساحة السياسية ووجود جهات سياسية مسلحة. والبديل هو الصوملة، أو ما نراه في سوريا والبحرين.
لهذا السبب نؤكد على ما سبق أن أكدنا عليه مراراً، من ضرورة الالتزام بما جاء في الوثيقة من ضرورة تحري الإجماع، وهو بالضرورة يعني تحري التوافق بين الأطراف المتخاصمة، وليس فقط بين من يتفقون في الرأي. وهذا يتطلب بدوره البعد عن الخطاب الاستفزازي، وعدم استعداء قوى مهمة في المجتمع، وبالقطع ليس القوات المسلحة. وليس هذا هو وقت التهديد بتفكيك القوات النظامية والشرطة والخدمة المدنية والقضاء وبناء كيانات جديدة على "أنقاضها" كما جاء في بعض مسودات وثيقة تحالف المعارضة. بل المرجو التوجه إلى القوات المسلحة والشرطة والقضاء للانحياز إلى خيار الشعب.
يمكن للحكومة بالطبع أن تجنب البلاد كل هذا، لو توكلت على الله، وأعلنت وقف إطلاق النار في جميع جبهات القتال، ودعت إلى مؤتمر يجمع كل القوى السياسية في السودان، وتوافقت مع هذه القوى على حكومة انتقالية كاملة الصلاح، تقوم بسن دستور توافقي جديد، وتعالج القضايا والمظالم الماثلة، وتتيح كامل الحريات للتعبير والتنظيم، وتنظم انتخابات جديدة تحت إشراف هيئة موثوق بها من الجميع، ويكفي الله السودانيين القتال. فالحكومة توافق على عقد انتخابات خلال عامين ونصف، والمعارضة ترى فترة انتقالية لثلاث سنوات، والكل متفق على ضرورة إقرار دستور جديد، وإنهاء الحروب وإصلاح الاقتصاد؟ ففيم إذن تضييع الوقت والجهد وسفك الدماء؟ ولكنها لا تعمى الأبصار، ولكن القلوب التي في الصدور.