kamal.bilal@hotmail.com
تناولت في عدة مقالات سابقة ظاهرة تنامي العداء والخوف المرضي من الإسلام في الغرب عامة وهولندا خاصة، وذلك في ظل تزايد نفوذ اليمين القومي المتطرف وتفاقم أثره في الحياة العامة في الغرب عبر استثماره في خوف الغربيين من التطرف الإسلامي لتخويفهم من الإسلام ككل. وحقيقة الأمر أن تلك المقالات لم يكن الهدف منها اختزال الصورة الكلية لوضع الجاليات الإسلامية في الغرب في شكل أيقونات سلبية بل تسليط الضوء على تطورات الأحداث في علاقة الغرب المسيحي بالشرق المسلم، وأخذي لهولندا كنموذج لهذه العلاقة نابع من معايشتي للأحداث فيها، إضافة لدور «خرت فلدرس» زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف في تأجيج وترويج وجود صراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وقد شارك المذكور مؤخراً في مظاهرة نظمت في نيويورك في ذكرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشئومة لمعارضة تشييد مسجد جوار منطقة البرجين اللذين أصبحا أثراً بعد عين بعد هجمات تنظيم القاعدة المشهورة، وقد خاطب المذكور المتظاهرين وطالب المجتمعات الغربية بالدفاع عن نفسها ضد ما أسماه بالدين الإسلامي غير المتسامح، وحذرها من أن نيويورك في طريقها لتصبح مكة جديدة ما لم يوقفوا المسلمين في حدهم.
تراجعت كنيسة مركز حمائم التواصل العالمي(Dove World Outreach Center) بولاية فلوريدا الأمريكية عن فكرة حرق نسخ من المصحف الشريف في ذكرى أحداث 11 سبتمبر، والكنيسة بمجرد تفكيرها في تلك الفعلة النكراء خانت رسالتها واسمها، حيث أنها لم تعد مركزاً للسلام حتى تتخذ من الحمامة اسماً ورمزاً لها، كما أنها أصبحت غير مؤهلة للعب أي دور في التواصل العالمي بين الشعوب، فالتواصل لا يكون عبر التهديد بحرق الكتب السماوية بل باحترامها. يبدو أن القائمين على أمر الكنيسة تراجعوا عن تنفيذ فكرتهم الشيطانية تلك لإدراكهم في آخر لحظة بأن حرق نسخ من القرآن لن يبطل مفعوله فهو محفوظ في صدور الرجال والنساء مما يقتضي حرقهم لضمان نسفه، وهيهات لهم ذلك فقد وعد رب الكون بحفظه، كما أدركوا أن حرق نسخ منه لن يترتب عليه فقط حرق جنود أمريكيين في العراق وأفغانستان على أيدي المتطرفين بل كل خوفهم أن يترتب على حرقه إضاءة جزء كبير من الغرب بنور هديه، فالمواطن الغربي فضولي بطبعه ويلفت نظره أي تصرف يخالف ثوابته، وحرق أي كتاب ديني أمر غير مقبول لكونه يخالف مبادئ الحريات الراسخة في المجتمعات الغربية، وهو أمر سيثير قطعاً فضول كثير من الغافلين ويحثهم على الإطلاع على هذا الكتاب المحترق ليعرفوا دوافع حرقه، ويقيني أن هذه هي الخطوة الأولى في طريق الهداية، كيف لا وقد لفتت نظر سيدنا موسى عليه السلام نار مشتعلة في الصحراء فذهب إليها بأمل متواضع لا يتجاوز الأوبة بجذوة ليدفئ بها أهله، فعاد برسالة نبوية أنارت الكون بالهداية.
لا ينكر إلا جاحد بأن هنالك الكثير من الغربيين ما زالوا يتعاملون باحترام وتقدير مع الجاليات الإسلامية المقيمة بين ظهرانيهم، كما أن هنالك نماذج مشرفة للتسامح والتعايش الديني بين الأقليات المسلمة والغالبية المسيحية في الغرب، وللأسف تطغي الأخبار السيئة على تلك النماذج الجديرة بالتأمل. فليسمح لي عزيزي القارئ أن أشركه في واحدة من إشراقات تلك العلاقة المتناغمة بين أنصار الديانتين السماويتين، ففي الوقت الذي كان فيه قس الكنيسة سيئة الذكر «تيري جونز» وزوجته «سيلفيا» تبت يداهما يجمعان الحطب ويحملانه استعداداً لحرق المصحف الشريف، كنت قد لبيت دعوة كريمة للمشاركة في إفطار جماعي في أواخر شهر رمضان الكريم نظمته كنيسة في لاهاي بالتعاون مع عدد من الجمعيات الإسلامية بهدف جمع تبرعات لضحايا الفيضانات في باكستان. وقد أم الإفطار عدد كبير من الهولنديين الأصليين والأجانب، وتميزت طريقة الجلوس داخل الكنيسة بنظام دقيق يضمن أن يجلس على كل طاولة خليط من المسيحيين والمسلمين، وقد كان نصيبي الجلوس مع مواطنة هولندية مسلمة وأخرى مسيحية مهتمة بالإسلام إضافة لعدد من السودانيين الأعضاء في كل من النادي النوبي الثقافي والجمعية الثقافية السودانية بهولندا، وهما جمعيتان نشطتان في مجال الإدماج الإثرائي للسودانيين في نسيج المجتمع الهولندي.
بدأ التعارف بين الجالسين حول الطاولة بصورة مقتضبة يشوبها الحذر ولكن مع مرور الوقت انهمك الجميع في تجاذب الحديث بكل صراحة وأريحية، وكان أكثر ما أثير تشويقا في تلك الجلسة ما أخبرتنا به الأخت الهولندية المسلمة بأنها اطلعت على الإسلام والقرآن الكريم لفترة من الزمن دون أن تدخل الإسلام إلى أن جاءت لحظة هدايتها متزامنة مع مخاضها بأكبر أبنائها، فكانت أشبه بلحظة إلهام كشف الله تعالى لها الحجاب عن الطريق إلى المحجة البيضاء، فما كان منها إلا ونطقت بالشهادتين في تلك اللحظة الحاسمة. وقد أكدت لها في معرض تعليقي على قصة هدايتها بأن تجربتها الفريدة تتماشى مع إجابة الرسول الكريم على من طلب منه من الصحابة بأن يصف لهم الآلام المصاحبة للموت، فرد عليهم بقوله (اسألوا العائدات)، وشرحت لها أن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) قصد، والله أعلم، اسألوا النساء اللائي مررن بتجربة الولادة فهي تجربة شبيهة بالموت. وأضفت لها بأن الولادة مرتبطة فلسفيا في جميع الحضارات بالموت، وبشرتها بأن الله أراد بها خيراً كثيراً حين جعل من مناسبة ولادتها لطفلها مولداً جديداً لها بدخولها الإسلام.
خاطب قسيس الكنيسة الحضور وتحدث بإسهاب عن مفهوم العطاء والتضامن مع المحتاجين من منظور الديانة المسيحية، وأجرى مقارنة سريعة بين الأديان السماوية الثلاثة من حيث قصص الأنبياء والحكم والمواعظ التي تدعو للإيثار والعطاء والتضامن مع المعوزين، وعبر عن اندهاشه وإعجابه بعظمة القاعدة القرآنية التي جعلت من إنقاذ نفس بشرية واحدة بغض النظر عن دينها كأنه إنقاذ للبشرية جمعاء، وهو المفهوم الذي أرسته الآية القرآنية الكريمة (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وأشار القسيس إلى أن هذه القاعدة الذهبية مشتركة بين الديانتين الإسلامية واليهودية بينما غابت في أناجيل العهد الجديد.
كانت الثمرة اليانعة في تلك الليلة كلمة ألقاها شيخ هولندي حديث عهد بالإسلام، تحدث بلغة مفعمة بالمشاعر عن رحلته الطويلة من (التوهان) إلى الإيمان في بحثه عن الحقيقة، وذكر أنه ترعرع في كنف أسرة مسيحية إلا أنه كان يشعر بأن هنالك شيئاً ينقصه، فقام بزيارة جميع مواقع الأديان في مظانها الأصلية، فتطاولت رحلته بين السهول والجبال والوديان من الهند إلى الصين وبيت لحم، ولم يكن يظن يوما أن ضالته في قلب الصحراء إلى أن وقعت في يده نسخة من القرآن الكريم مترجمة للغة الهولندية، فقرأ بداية سورة البقرة فأنخلع قلبه من هول ما وجد من كنز لا ينضب معينه، فكانت هدايته بلا شيخ أو هجرة مكانية. وشرع الشيخ الهولندي في تلاوة سورة البقرة باللغة الهولندية بصوت خاشع في ظل صمت مطبق من جميع الحضور داخل الكنيسة، وتحدث عن أركان الإسلام الخمسة مع التركيز على فريضة الزكاة، وأسهب في ذكر أهدافها من تزكية الأموال والأنفس، وأخبر الحضور بأن الإسلام أقر للفقراء حق أخر في أموال الأغنياء إضافة للزكاة متمثل في الصدقة التي تسهم في إرساء دعائم السلام المجتمعي. وكانت المفاجأة الكبرى عندما قام الشيخ برفع أذان المغرب داخل الكنيسة بصوت شجي، وكان القائمون على أمر الكنيسة لا يقلون كرما حيث هيأوا مكانا للمسلمين لأداء الصلاة، وقد تردد بعض الحضور عن أداء فريضة الصلاة داخل مبنى الكنيسة، وكان ردي على بعضهم بأنه يكفيهم فخراً أن تشهد لهم الكنيسة بأنهم قاموا برفع ذكر الله فيها.
لاهاي